
حوار| كيف يرى أحمد الطنطاوي مستقبله في سنوات "الحرمان السياسي"؟
حوالي الساعة السابعة من مساء أمس، وصل السياسي المعارض أحمد الطنطاوي إلى منزل عائلته في مدينة قلين التابعة لمحافظة كفر الشيخ، بصحبة "ترحيلة" أحيط خط سيرها بستار من السرية الشديدة طوال اليوم، منذ أن انطلقت صباحًا من سجن العاشر حيث قضى سنةً ويوم.
سرِّية غيَّبته عن زوجته رشا قنديل التي انتظرته أمام أحد مقار الأمن بالقاهرة، وشقيقه وهو يبحث عنه بين سجن العاشر من رمضان وقسم المطرية، وفريق دفاعه من محامين يسعون للتأكد من استلام مسؤولي وزارة الداخلية شهادة صحة الإفراج عنه من نيابة أمن الدولة العليا.
عندما وصلنا لبيت العائلة المكوَّن من ثلاثة أدوار في قلين كانت الساعة جاوزت منتصف الليل، ورغم ذلك كان الكلَّ ساهرًا؛ الطنطاوي، يحيط به أطفال العائلة، ووالده وإخوته وشركاء من تيار الأمل. ولكن حجم الإرهاق البادي عليه كان أكبر بكثير من تعب ترحيلة مباشرة 143 كيلومترًا من سجن العاشر لقلين.
يقول إن الهدف الرئيسي لإخفائه نحو 10 ساعات قبل الإفراج عنه، كان "إني أوصل للبيت من غير ما حد من أنصاري أو المؤيدين أو أهلي يعرفوا أنا فين أو خط سيري إيه، منعًا لأي مظاهر احتفال أو احتشاد، وفعلًا نجحوا في ده".
في هذا الحوار يشاركنا أحمد الطنطاوي بعض تفاصيل تجربة السجن لـ"سنة ويوم"، بعد أن أثارت حملته الانتخابية للترشح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات التي جرت نهاية 2023، الكثير من الزخم رغم عدم تمكنه في النهاية من خوضها بسبب عدم جمع حملته التوكيلات الشعبية اللازمة، بسبب "التضييق الأمني" على المواطنين الراغبين في تحرير توكيلات له.
كما يطرح الطنطاوي في الحوار رأيه فيما تسوقه الدولة من دعايات تخص تطور السجون المصرية، عوضًا عن تصوراته لمستقبله السياسي، في ضوء ما يلقيه حكم إدانته على مسيرته من ظلال تحرمه من مباشرة حقوقه السياسية.
معاناة وكسر ونوبة هددت حياته
قضى الطنطاوي كامل عقوبته داخل عنابر الجنائيين بسجن العاشر، كنوعٍ مما وصفه بـ"التعسف" من إدارة السجن التي رفضت مرارًا نقله لعنابر السياسيين بزعم حمايته منهم، على حد وصفه، مؤكدًا أن أكله للعيش والملح مع زملائه من السجناء الجنائيين، يمنعه من الحديث عن مدى معاناته النفسية من هذا الأمر.
ويكشف الطنطاوي أنه أضرب عن الطعام والشراب ثلاث مرات لتحسين ظروف حبسه، لم تدم كل منها لأكثر من يوم، نجح من خلالها في التفاوض والوصول لجزء من الحل.
إحدى تلك المرات كانت بسبب حرمانه من معرفة ما يدور من أخبار خارج السجن، ورفض كل طلباته بإدخال صحف أو إضافة قنوات إخبارية على شبكة التليفزيون الداخلية "الذي لا يبث إلا قنوات أفلام بدائية"، أو حتى السماح له بشراء راديو من كافتيريا السجن، وهو أمر متاح للسجناء. وانتهت هذه المعركة بـ"انتزاع" حقه في إدخال جهاز راديو.
ولكن كون السجن وسط الصحراء وزنزانته في دور أرضي، حيث الإرسال أضعف من المعتاد، ظلت الأخبار التي يتلقاها تقتصر على البيانات الرسمية وبعض الإذاعات القليلة، ومنها "النيل للأخبار"، على خلاف السجون القديمة التي كانت في قلب المدن أو بقربها، فكانت أقرب لأبراج الإرسال.
سبق ذلك إضراب شامل عن الطعام احتجاجًا على طول فترة الإيراد ومنعه من تلقي زيارة طبلية من ذويه، وحرمانه من حقه في تعريف أهله بمكان سجنه، وتلاه إضراب آخر للحصول على حقه في التريض مع بقية السجناء بدلاً من العزلة، وهو حق لم يُمكَّن منه إلا بعد خمسة شهور ونصف من الضغط.
يرفع الطنطاوي يده اليمنى التي تبدو متورمة عند الرسغ، ويوضح أنه عانى خلال فترة حبسه من إهمال طبي بعد تعرضه لكسر داخل الحبس، استدعى إجراء جراحة ولكن لم يتبعها علاج طبيعي بقدر احتياجه، حسب قوله، مما أثر على قدرته على تحريك يده بشكل طبيعي. "إيدي اتكسرت لأني وقعت أثناء التريض، وأجريت فيها عملية جراحية داخل السجن لتركيب أربطة/wires".
كما لا ينسى بطء استجابة الطوارئ حين عانى من تسمم غذائي شعر أنه كاد يودي بحياته، "كان تاني يوم عيد الأضحى الماضي، بعد أقل من شهر من حبسي"، منتقدًا آلية عمل السجون في الإجازات الرسمية حيث يكون السجن "مغلق ومتشمع" والاستجابة للطوارئ بطيئة.
أبدى الطنطاوي وضوحًا شديدًا في أن تحسين ظروف المحبوسين من أهم أهدافه
وبالإضافة لذلك يقول "أنا مُنعت من حقي في استكمال رسالة الدكتوراه أثناء فترة سجني"، مضيفًا أن إدارة السجن وبعد ضغط شهور سمحت له بإدخال كُتب "بس بشرط متبقاش كتب تتضمن دستور، ولا قانون، ولا سياسة، ولا لائحة السجون، ولا قانون الإجراءات الجنائية، ولا كتب حقوقية، يعني متبقاش الحاجات اللي إحنا عارفين إن أنت هتفحّرلنا فيها".
هذه التفاصيل التي تتعلق بتفاصيل ما واجهه الطنطاوي في محبسه، كثيرًا ما تخللتها تفاصيل أخرى تتعلق بما يعانيه بقية السجناء، وتساؤلات حول كفاءة السجون الحديثة، التي تتمتع بتهوية أفضل وأسرّة أكثر راحة، على "التأهيل والإصلاح فعلًا مقارنة بالسجون القديمة".
ويلقي الطنطاوي الضوء على طبيعة يوم السجين في الداخل "بتقضيه في الزنزانة بتطلع التريض وخلاص كده، السجين في المعتاد بيقضي 23 ساعة في الزنزانة وساعة قدام باب الزنزانة، صحيح فيه استثناءات أحيانًا بينزلوهم الملعب، لكن أحيانًا كتيرة مبيخرجوش من الزنزانة أصلًا باليومين وبالتلاتة، يعني يوم الجمعة عشان هو يوم إجازة، مبتخرجش، أي إجازة رسمية، أربع خمس أيام إجازة العيد، مبتخرجش".
ولا يحمِّل الطنطاوي مسؤولية ما سبق لـ"السجان أو للمخبر أو حتى لإدارة السجن"، مؤكدًا "إنما العيب في المنظومة"، إذ يجزم بأن "السجون الجديدة دي مفيهاش أصلًا نظام تأهيل، يعني برامج، يعني أنت كمسجون بتدخل بيتراجع حالتك ويتطبق عليك برنامج معين للإصلاح والتأهيل، مفيش الكلام ده أصلًا".
وأبدى الطنطاوي وضوحًا شديدًا في أن أهم هدف بالنسبة له من حواره مع المنصة، بعد ساعات من خروجه من محبسه، "هو إنه يحصل تحسُّن على هذا المستوى"، قائلًا "أنا عايز أقدم تجربتي دي علشان الناس اللي جوه يمكن تلاقي فيها حاجة مفيدة وهي بتتعامل مع إدارات السجون". وقال إنه يعدُّ تصورًا قائمًا على تقييم سلوك كل سجين وفق برنامج نقاط، يزيد جمعها من فرص السجين في الإفراج الشرطي بعد قضائه نصف أو ثلثي مدة عقوبته.
كما أن الطنطاوي وفي عدة مرات، تطرَّق إلى ظروف حبس مؤسس الحركة المدنية الدكتور يحيى حسين عبد الهادي، الذي يرى أنها تجربة "تجعل كل الكلام اللي بيتقال عن تطوير السجون وتحسن أوضاع حقوق الإنسان فيها وإننا ماشيين على الطريق الصحيح، يتهاوى"، مؤكدًا أن عبد الهادي يقضي حياته "رايح جاي (من السجن) على المستشفى وهو مجرد محبوس احتياطي وغير مدان".
وتعرَّض عبد الهادي لأزمتين قلبيتين على الأقل داخل محبسه، منذ إعادة القبض عليه في أغسطس/آب الماضي، متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية وبث أخبار كاذبة والتحريض على ارتكاب جريمة إرهابية، بعد نحو سنتين من الإفراج عنه بعفو رئاسي في يونيو/حزيران 2022، ضمن أوائل المعارضين الذين أفرج عنهم مع إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، إثر دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي للحوار الوطني في أبريل/نيسان من العام نفسه.
رسائل للتضامن
استدعاء عبد الهادي لم يكن فقط للحديث عن ظروف حبسه، إذ تساءل الطنطاوي عن مبرِّر استمرار هذا الحبس دون محاكمة "طب أنت لما قعدت تحاكمه في قضية أخرى وهو في بيته شهور، كان كل يوم محاكمة بياخد شنطة الدواء بتاعه ويروح المحكمة، جاهز لإنه يصدر عليه حكم"، راميًا لأنه شخص لا يُخشى من هروبه، "وبالتالي إيه مبررات الحبس الاحتياطي لراجل مريض فوق السبعين، بقيمته ومكانته في قلب الحركة المدنية؟".
كما أن الطنطاوي وخلال الساعات الثماني منذ إطلاق سراحه وحتى عودته إلى عائلته وأنصاره ثم لقائه معنا، تابع للمرة الأولى تطورات أزمة الأكاديمية ليلى سويف، مع إضرابها عن الطعام طلبًا لإطلاق سراح نجلها المبرمج والناشط علاء عبد الفتاح، الذي لم تفرج السلطات عنه رغم انقضاء مدة عقوبته في سبتمبر/أيلول الماضي.
وفوجئ الطنطاوي بأثر الإضراب البالغ على جسدها، عندما رأى للمرة الأولى أثناء إجراء هذا الحوار، صورها التي تبدو فيها شديدة النحول على أثر الإضراب.
وقال "إذا مكناش قادرين إننا ترق قلوبنا لأم عظيمة زي الدكتورة ليلى، في مطلب بسيط جدًا، والاكتفاء بكل اللي اتعمل في ابنها، تبقى فين الرحمة وفين الإنسانية وفين الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان؟!".
ما وصفته أسرة علاء عبد الفتاح بـ"التعنت" في الإفراج عن نجلها رغم انقضاء مدة سجنه، دفع والدته ليلى سويف، إلى بدء إضراب كلي عن الطعام استمر حتى بداية مارس/آذار الماضي، حين أعلنت تحولها إلى الإضراب الجزئي نتيجة لضغط الأطباء عليها إثر تدهور حالتها الصحية واحتجازها بأحد مستشفيات لندن.
ومع استمرار رفض السلطات المصرية الاستجابة لمناشدات العائلة ومطالب الحكومة البريطانية والمنظمات الحقوقية بالإفراج عن عبد الفتاح ورغم تدهور حالتها الصحية، أعلنت منتصف هذا الشهر عودتها للإضراب الكلي عن الطعام.
مستقبل سياسي منزوع الحقوق
قانونيًا، لن تنتهي آثار إدانة الطنطاوي عند قضاء عقوبة الحبس، بل ستمتد لتعطِّل مستقبله السياسي الذي بدأ ترسيخه قبل سجنه. فقانون مباشرة الحقوق السياسية، يحرم كل من أدينوا بذات تهمته؛ "طباعة وتداول أوراق تخص العملية الانتخابية دون تصريح من السلطة المختصة، من مباشرة حقوقهم السياسية" مؤقتًا لخمس سنوات.
أنا بقى عندي دور تاني، أنا عايز أبذل مجهود وأكون جسر يعبر عليه ناس جات في ظروف أنضج
كما أن الحكم الصادر بحقه، تضمَّن إلى جانب عقوبة الحبس، الترشح في الانتخابات البرلمانية لمدة خمس سنوات، ومع تأكيده على استمرار رفضه لهذه التهمة بوصف ما أقدم على طباعته يندرج تحت أوراق طلب الترشح وليست أوراق العملية الانتخابية.
رهن الطنطاوي في بداية حوارنا معه تقديم إجابة تفصيلية عن هذا السؤال الوارد في عنوان هذا الحوار، بضرورة العودة أولًا إلى شركاء مشروعه السياسي، مؤكدًا أن الشورى في هذا الأمر هي الأولوية و"ألف باء مشروع سياسي جماعي"، وأن الشركاء في تيار الأمل "يدفعون الثمن".
لكنه استدرك مؤكدًا أنه لا يرى أزمة كبيرة في حرمانه من الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة، قائلًا "أنا قلت من زمان أنا مش عاوز أتصدر المشهد" مضيفًا "الانتخابات اللي فاضل عليها كام شهر دي، الطبيعي إن أنا مكنتش هترشح فيها، أنا بقى عندي دور تاني، أنا عايز أبذل مجهود وأكون جسر يعبر عليه ناس جت في ظروف أنضج، عايز ألاقي ناس كويسين زيي وأحسن مني وأقف في ضهرهم، مش جنبهم لأ، في ضهرهم، وألفّ معاهم في دوايرهم وأدعم حملاتهم وأقول للناس انتخبوهم".
وقدم الطنطاوي مثالًا على ذلك "يعني لو الحركة المدنية اجتمعت وقالت ياللا هنعمل قوايم وهنقدم مرشحين بجدية، أنا هابقى في منتهى السعادة وأنا باكّرس نفسي وباتفرغ بشكل تام لإن أنا أروح أمشي وراء.. وراء مش جنب، المرشحين اللي بيمثلوا الأفكار اللي أنا مؤمن بيها، وده دور أهم، بدل ما في الحالة دي بنبقى بنحارب على مقعد واحد، نكون بننافس على مقاعد"، معتبرًا أن ذلك هو النجاح.
https://www.youtube.com/watch?si=2HDDhNi05PnvrLvn&v=CxnwEJQO9Gc&feature=youtu.beولم تحسم الحركة المدنية بعد موقفها من المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة والمقررة في أغسطس/آب لمجلس الشيوخ وفي نوفمبر/تشرين الثاني لمجلس النواب، بعد تمسك نواب الموالاة بإجرائها وفق نظام يجمع بين الفردي والقائمة المطلقة، وتجاهل مطالبها بتقسيم مقاعد القوائم بين القائمتين المطلقة والنسبية.
أما على صعيد ترشحه فيما هو قادم من انتخابات رئاسية، فيرى الطنطاوي أن الحديث عن الحاضر في الوقت الحالي أهم بكثير من الحديث عن المستقبل، "لما تيجي انتخابات الرئاسة نشوف وقتها المباراة السياسية دي أفضل تشكيل بمقاييس المزاج الشعبي ليها في وقتها" عند نهاية الفترة الرئاسية الثالثة والأخيرة للرئيس السيسي عام 2030.
غير أن الطنطاوي يؤكد أن مشروعه السياسي ليس مشروعًا شخصيًا ولا يفترض أن يكون الترشح لرئاسة الجمهورية فيه مقتصرًا على شخص أحمد الطنطاوي، متسائلًا "ليه الناس مش مصدقة اللي أنا قلته عند بدايات الحملة الانتخابية الرئاسية إن هييجي يوم ويكون دوري تقديم حد عنده خبرة وعنده تجربة أكبر مني، وإن ممكن أنا وزمايلي دول ييجي علينا وقت نبقى جسر لمساعدة آخرين؟".
وبدا اقتناع الطنطاوي بإمكانية تغيُّر الظروف مستقبلًا، فيما يتعلق بمباشرة حقوقه السياسية، مدفوعًا بتجربته السابقة والتي عززت إيمانه بأنه "لم يكن هناك مواطن مصري عنده أدنى درجات الاهتمام بالشأن العام وقتها يخالجه أدنى شك في إن إحنا كنا قادرين على الترشح على الأقل وأداء معركة انتخابية مشرفة". يصف الطنطاوي ذلك بـ"المكسب الكبير"، الذي يقلل من دوره في تحقيقه، فهذا الانطباع ترسخ ليس لأن "المرشح كان أحمد الطنطاوي، ذلك لم يكن أهم حاجة".
وكرر لنا الطنطاوي حديثًا سبق وأن أدلى به وقت الإعداد للانتخابات الرئاسية الماضية، قال فيه "أعرف على المستوى الشخصي عشرات المواطنين المصريين أقدر مني على تولي هذه المسؤولية، بس مش من بينهم المرشح المنافس ليا".
وأعاد التأكيد على أنه يعتبر وظيفة رئيس الجمهورية "وظيفة بسيطة خالص، لا تتطلب سوى رجلًا متسع الأفق، لأنه دي وظيفة مهامها أبسط في رأيي من مهام النائب البرلماني اللي المفروض يقعد ويذاكر ويدرس ويفحص ويدخل قاعة البرلمان يناقش، وأبسط من مهام الوزير اللي المفروض يكون خبير في الملف بتاعه، لأن منصب رئيس الجمهورية ده كل ما يتطلبه هو مدير شاطر.. مايسترو بيختار في كل مكان أفضل العناصر وبيدير الأمور بسلاسة".
أمام مدخل بيت أسرته قرابة الثالثة فجرًا، ودعَّنا الطنطاوي ليعود إلى عائلته وأصدقائه وشركائه السياسيين، والموبايل الذي لم يتوقف شقيقه عن تمريره له، ليرد على مكالمات التهنئة ويتلقى رسائل الدعم.