"هي ثورة وإن أنكرها لص أو رئيس"، بنفس وضوح عنوان مقالته هذه دخل جميع معاركه بلا تردد، قال وكتب واتخذ مواقفه التي صدقها بعقله وقلبه، دفع أثمانها في كل مرة دون أن يتنازل عنها ولو مرة واحدة.
بوضوح وبلا تردد اختار الدفاع عن ثورة 25 يناير، والثبات في خندق أنصارها. وقف في مربع الثورة ببسالة مذهلة في ظرف كان العداء لكل ما يمت لها بصلة مشتعلًا ومستعرًا، لايستثني أحدًا. تلك قصة كاملة اسمها: يحيى حسين عبد الهادي.
إصرار عبد الهادي على قول ما يؤمن به اصطدم برغبة سلطوية لإسكات صوته، فكان السجن هو الخيار الذي قبله راضيًا بديلًا عن الصمت. وصدر الحكم منذ أيام من محكمة جنح مدينة نصر بحبسه 4 سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة، بعد سلسلة مقالات كتبها عن الشأن الجاري، وعدد من التدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي عبر من خلالها عن قناعاته السياسية، ليتواصل مسلسل تغييب عبد الهادي وراء جدران الزنازين.
هو المسلسل الذي بدأ منذ عام 2019، واستمر بتصريحات صادرة عن لجنة العفو الرئاسي تستبعد إمكانية وضع اسمه ضمن الذين سيحصلون على حريتهم بعفو من رئيس الجمهورية.
سياسي بروح مقاتل
بنبل من يحمل الرسالة خاض معاركه جميعًا، لم يتراجع أو يخضع يومًا أمام ترهيب أو ترغيب، وبقدر ما امتلك من شجاعة في التعبير عن مواقفه السياسية، وقوة في مقاومة كل صور الفساد، حمل أيضًا بداخله قدرًا كبيرًا من النبل والبساطة والجمال الإنساني.
بامتزاج تام بين روح المقاتل الذي تخرج من قسم الهندسة في الكلية الفنية العسكرية عام 1977، وظل يخدم كضابط مهندس حتى عام 1992، والمدني الذي انفتح على السياسة والشأن العام منذ عام 2005، عندما بدأ يخوض معاركه السياسية بشجاعة المقاتل، محاربًا الفساد والاحتكار، بروح السياسي و"الثوري" خلال صفقة بيع شركة عمر أفندي، وفيها انكشف الستار عن مقاتل لا ينهزم بسهولة.
رفض بيع الشركة وشكك في عدالة السعر الذي أعلنته لجنة التقييم الذي كان هو أحد أعضائها، اعتبر أن الرقم المعلن معناه إهدار لثروة البلد وهو الفساد الأكبر.
"لا لبخس عمر أفندي"
كانت اللجنة قد قيمت شركة عمر أفندي بمبلغ 450 مليون جنيه بينما رأى هو أن السعر العادل يتعدى المليار جنيه وأكثر، رفض تمرير الصفقة وتقدم ببلاغ إلى النائب العام ضد محمود محيي الدين وزير الاستثمار وقتها، اتهمه بممارسة الضغوط على لجنة التقييم لتمرير الصفقة لصالح شركة أنوال السعودية.
بإصراره على خوض معركة عمر أفندي حتى النهاية، كان المجتمع يستقبل ويتابع ميلاد قائد سياسي جديد اسمه يحيى حسين عبد الهادي، يخوض معركة عادلة بامتياز بلا حسابات صغيرة، وبلا خوف من نتائج أو أذى قد يطوله.
وبنفس روح المقاتل التي ظهرت في معركة عمر أفندي كان اسمه حاضرًا مع كل معركة ظهرت فيها محاولات تبديد ثروات الشعب، فعل هذا وهو يرفض بيع بنك القاهرة، وفي نفس لحظة تصديه لمحاولات استيلاء رجال أعمال قريبين من السلطة على أراضي الدولة بأسعار غير حقيقية وغير عادلة.
كل كفاحه ضد الفساد منذ عام 2005 كان المؤهل الأكبر لأن يشارك وقتها عزيز صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق، في حملة لا لبيع مصر، التي تصدت لكل صور إهدار الأراضي والمؤسسات المملوكة للشعب، ثم كان طبيعيًا أن يكون عبد الهادي صوتًا مهمًا في اللجنة التنسيقية لحركة كفاية التي فجّرت الشرارة، وكانت جزءًا رئيسيًا من الإرهاصات الأولى لثورة يناير الخالدة.
موقف واحد وقوى مختلفة
مع حماسه للثورة ومشاركته فيها بقوة كان عبد الهادي قد ملأ وجدانه وخياله وقلبه بصورة الدولة التي يحلم بها: دولة مدنية ديمقراطية تجمع كل أبناء مصر ولا تقصي أحدًا، تعلي من قيم الحرية والعدالة والمواطنة، هذه الأفكار التي تشكّل بها وجدانه دفعته إلى صدام ومعارك جديدة دخلها في مواجهة حكم الإخوان المسلمين والرئيس الراحل محمد مرسي، إذ رأى أن الطريق الذي يسير عليه حكمه ليس هو الطريق الذي اختاره الشعب، وليس هو التعبير الأنسب عن ثورة يناير.
بعد اختياره لطريق الاختلاف مع حكم الإخوان المسلمين سخر مواقفه وأدواته لدعم المعارضين، استقبل معهد إعداد القادة وقت أن كان يحيى رئيسه كل الأصوات التي تعارض مرسي، كان المعهد مزارًا لكل القوى الليبرالية واليسارية والقومية، وبيتًا يجمع المعارضة المدنية التي تتحاور حول الحاضر والمستقبل، هذا الأداء كلّفه الخروج من رئاسة المعهد قبل أيام من 30 يونيو/حزيران 2013 بعد قرار أصدره يحيى حامد وزير الاستثمار آنذاك.
كما وصف عبد الهادي عصر مبارك بأنه "عصر الفساد"؛ وكما شارك في ثورة يناير وعارض حكم الإخوان، ظلت بوصلته تبحث عن حلم الدولة المدنية الديمقراطية. وبإحساسه بأن هذا الحلم لم يتحقق بعد اختلف مع سلطة ما بعد 2013، فلم يقتنع وجدانه النبيل أن ما حدث يمثل طموح الملايين الذين خرجوا للميادين حلماً وسعياً لدولة جديدة، واصل نضاله بكتابات دائمة ومعارضة واضحة ضد النظام الحالي.
عقب تشكيل الحركة المدنية الديمقراطية أصبح عبد الهادي المتحدث الرسمي الأول لها، وهي التجمع الذي يضم عددًا من الأحزاب المدنية المعارضة والشخصيات العامة الذين اتفقوا على التمسك بخريطة الطريق التي رسمها الشعب بنفسه في ميادين التحرير وبتضحيات قدمها أنبل شباب مصر.
يحيى حسين عبد الهادي ارتضى أن يظل على الطريق الذي اختاره بقلبه، يرسم بنضاله النبيل ملامح الأجمل، وطريقه الصعب، راضيًا مرضيًا، وافق على أن يدفع الثمن من حريته، لكنه قرر في لحظة صدق عند تاريخ لا يكف عن الكتابة أن يبعث رسالته لجيل جديد يبحث عن المستقبل، تمسك بما يؤمن به أمام هذا الجيل، فظلت قامته عالية وهامته مرفوعة وهو يطل من بين جدران الزنازين رافعًا علامة النصر للغد القادم.