برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي، فليكر
أعلام فلسطين ترفرف في ميدان التحرير في مايو 2011.

الشق المستعجل من الاصطفاف والتوحد.. عمّ نتوحد؟

"الغموض الاستراتيجي" يمارس ضد العدو وليس الشعب

منشور السبت 8 فبراير 2025

تصاعدت في الأيام الأخيرة مناشدة السلطة السياسية للمصريين بضرورة التوحد في هذه اللحظة الفارقة، للتصدي لمخططات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن قطاع غزة وضغوطه على مصر والأردن ليقبلا تهجير جزء من سكانه إليهما، وهي مناشدة بدأت بحديث عن اصطفاف ثم انتهت إلى المطالبة بتوحد تام.

ابتداءً، فإن هذه الدعوة تدور حول أمر واجب وضروري، لكن التوحد هذا في شقه المستعجل يتطلب الإجابة عن سؤال جوهري هو: نتوحّد حول ماذا؟ وهنا لا بد من خطاب واضح وقاطع لا لبس فيه ولا تردد، للشعب المصري بأن بلدنا لن يقبل تهجير بعض أهل غزة إليه، ولا بد أيضًا أن يكون الاصطفاف حول المصلحة المصرية العليا، ولا يُطلب لشخص أو مجموعة.

يجب أن تُعلن السلطة ما تريده بالضبط، دون مواربة ولا غموض مما تفعله دومًا، وألَّا تتعامل مع الشعب على أنه قاصر. فمصطلح "الغموض الاستراتيجي" يُمارس ضد العدو، لا الشعب، الذي يجب ألا يكون عدوًّا لأي سلطة وطنية أو رشيدة أو أمينة، وهي إن لم تكن تمثله، فعلى الأقل تدرك ضرورة وجوده، وإلا لن تصبح سلطة، فالسلطان لا يقوم على الفراغ.

هناك إجراءات مستدامة يصنعها الاصطفاف القائم على الرضا، منها انحياز السلطة للعدالة الاجتماعية والقضائية، والحرية، والكفاية، وتوظيفها القدرات الخشنة والناعمة للدولة في الدفاع عن أمنها القومي. وهي مطالب مؤجلة للمعارضة والمستقلين في آن، قامت ولا تزال على مدار نحو عقد من الزمن، وتحديدًا منذ استشعروا أن السلطة التي قامت بناءً على خريطة الطريق التي أُطلقت في 3 يوليو 2013 تبتعد عما تصوره الشعب من تغيير الأوضاع إلى الأفضل عقب ثورة يناير.

في الوقت نفسه، هناك إجراءات تلطيفية مستعجلة غير مكلفة، منها: إطلاق سراح سجناء الرأي والسياسة، واعتراف السلطة بالأخطاء التي ارتكبتها في الاقتصاد والسياسة وأحوال العدالة القانونية والأمن، وإعطاء وعد بتغيير الخطاب والمسار، واتخاذ إجراء، الآن وهنا، يضمن تحقيق هذا، وينفي عنه أن يكون مجرد خداع جديد.

"في الفرح منسية"

في كل الأحوال، يجب تمكين الناس من التعبير عن رفضهم لتصور ترامب، فهذا وحده الذي سيؤخذ على محمل الجد، لا المهرجانات المفتعلة التي لم يتعامل معها الإعلام، لا العربي ولا العالمي، بجدية وبالتالي فأثرها هبط إلى الصفر، ثم صار خصمًا بالسالب من موقف مصر وصورتها.

فإذا كان هناك خوف من إطلاق الشعب حرًا ليدافع عن بلده برفض تصور ترامب جهارًا نهارًا وعيانًا بيانًا، حتى لا يتحول الغضب ضد السلطة، مع أن المصريين يفرِّقون جيدًا بين حال وحال، فكيف يُطلب من هذا الشعب نفسه الالتفاف حول سلطة لا تَطمئِنُّ للناس؟

لتعلم السلطة الحالية أن المواطن المصري البسيط حصيف وشجاع

ما جرى خلال السنوات العشر الأخيرة، أن السلطة كلما تأزمت لجأت إلى الناس، ونادت أفراد النخبة الذين كانت تنبذهم وتستخف بآرائهم، فإن عبَرت الأزمة عادت إلى التنكر لهم والمكر بهم، والانفراد بكل القرارات، وإذا طرح أحدٌ منهم رأيًا مختلفًا، أو أبدى تعقيبًا أو وجَّه سؤالًا، هبَّت السلطة في وجهه: من أنت؟ وهل تعرف عمّا تتحدث؟ هل درست معنى الدولة؟ وقد تطلق عليه ذبابها الإلكتروني ليرميه بالخيانة.

يحدث هذا بينما الحقيقة تؤكد أن أقوى من في هذا البلد هم أهله، أصحاب الأرض والسيادة والمال والشرعية والتاريخ، وهم من سيدافعون عنه بحق، وهؤلاء يجب أن يحضروا في كل وقت وحين، ولا يتم التعامل معهم وفق المثل المصري الشهير "في الحزن مدعية، وفي الفرح منسية".

ولا يقول لي أحد إن الشعب قام بهذا فعلًا، فالذين تجمعوا عند رفح لرفض التهجير لم يصدقهم أحد، ولم يكن لهم أي تأثير، ولا يجب الاستمرار في منع المصريين من الدفاع عن بلادهم، ولو كانت السلطة تركتهم منذ بداية الحرب يفيضون غضبًا ضد إبادة الغزاويين، وكذلك فعل كل حكام العرب، لتوقفت الحرب سريعًا، وما وصلنا إلى هذا السيناريو الكارثي.

إن المصريين يقفون إلى جانب البلد إن جاءت أزمة، أو هجمت محنة، ولا يجب لأحد أو طرف أن يستغل هذا لصالحه، ولا أن يمعن في ابتزاز الناس باسم الوطنية، وهم يرونه غير ملتزم بشروطها، وغير عامل بفروضها، وأولها إقامة العدل في الناس، وتحريرهم من الجوع والخوف، واعتبارهم أسيادًا في بلادهم وليسوا رهائن أو مجرد سجناء محتملين، وفقراء قائمين/قادمين.

ولتعلَم السلطة الحالية أن المواطن المصري البسيط حصيف وشجاع، فوصف ترامب عند أولاد البلد هو "جعجاع" وعند أهل الفكر والسياسة هو الرجل الذي لم يحقق سوى 10% فقط من كل ما قاله في دورة رئاسته الأولى، ولذا لا يجب التعامل معه على أنه إن قال سيفعل، وإن فعل سيحقق ما يريد. ولا ننسى أن أمريكا هي التي خاضت الحرب أصلًا ضد المقاومة، بيد إسرائيل.

نتائج تشويه المقاومة

كان من الضروري، منذ البداية، أن يدرك أهل القرار ومن يوجهون الإعلام في بلادنا، خطر الهجوم على المقاومة العربية في فلسطين ولبنان وغيرهما. لأن إسرائيل، كذراع لإدارات ومصالح وثقافات غربية، لا تستطيع أن تعيش بلا حرب حتى لا يتفكك مجتمعها أو يتبدد حلمها المزعوم في التوسع، فإن فرغت من المقاومين المواجهين لها ستفكر في الدول المحيطة بها.

لا يوجد في مصر أقوى من شعبها

فإسرائيل لم تنتظر في كل حروبها السابقة أن يبدأ العرب، ولو لم يبادر الفلسطينيون هذه المرة كان بنيامين نتنياهو لا محالة سيهاجم غزة، وحتى لو كان قرار المقاومة لم يراع كثيرًا من المستجدات، فإن الواجب يقتضي رفض إبادة الشعب الفلسطيني تحت أي ذريعة.

ولذا لم يكن من السياسة ولا الكياسة تسميم وجه المقاومة في مخيلة الرأي العام المصري وذهنيته، عبر الإعلام، تحت حجة امتصاص الغضب أو الحط من انتشاء ما يسمى بـ"الإسلام السياسي" أو الالتزام بقواعد مواجهته المطبقة منذ سنين. بل كان يجب التفرقة بين التنظيمات السياسية الإسلامية في مصر من جهة، والمقاومة حتى لو كانت تحمل الأيديولوجية نفسها من جهة أخرى. لأن موقف الأخيرة مختلف، وشرعيتها تقوم على التصدي للاحتلال، والعالم يتعامل معها على هذا الأساس.

كانت خيبةً إذن أن يحدث التلاعب بعقول المصريين، في وقت كان من المتوقع أن يتم الاحتياج لحشدهم أو تعبئتهم للتصدي لمخطط إسرائيلي كان يلوح في الأفق منذ بداية طوفان الأقصى.

فالحقيقة الدامغة التي على السلطة أن تدركها هي أنه لا يوجد في مصر أقوى من شعبها، ولذا عليها الإنصات إلى شكواه، والاستجابة لمطالبه، والاعتذار له ومصارحته ومصالحته، حتى يمكن التصدي لتصورات ترامب الخرقاء، إن كان هناك عزم على فعل هذا.

قد ندخل أيامًا صعبة، تحتاج فيها مصر لكل من يعلي المصلحة الوطنية وليس مصلحته الخاصة بدءًا من ماسح الأحذية وحتى رئيس الدولة، وإلى تفاهم وتكاتف، مثلما تفعل كل الأمم العريقة في الملمات والمصائب.

مخطط التهجير ليس أمرًا هينًا حتى تمارس السلطة اللعبة القديمة باستدعاء الناس بعض الوقت، أملًا في عبور الأزمة، ثم إبعادهم وزجرهم وإهمالهم، فالدائرة تضيق، والأمور تنكشف، ولحظة الحقيقة أتت جليَّة لا ريب فيها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.