أعاد اغتيال إسماعيل هنية المصريين المشتبكين، ولو نسبيًا، مع السياسة والشأن العام سنوات إلى الوراء؛ لحالة الصدام الساخن في إدارة الخلاف والنقاش بشأن القضية الفلسطينية، التي يتبعها على السوشيال ميديا تبادل اتهامات التخوين، أو الصهينة، أو العمالة لقوى خارجية معادية لمصر، وإنهاء صداقات افتراضية، وفتور صداقات حقيقية.
يبتعد الأمر عن المبالغة، بل يبدو طبيعيًا في ظل انقسام نخب المجتمع المصري وبعض المجتمعات العربية بين قطاعين أساسيين؛ يدرك الأول جيدًا فداحة الإبادة التي يواجهها الشعب الفلسطيني منذ عشرة أشهر، وتأثيرها عليه وعلى مستقبل المنطقة، وكيف سيكون لنتيجتها تأثير حاسم في مستقبل دولة الاحتلال، وعلاقاتها بأنظمة المنطقة.
أما القطاع الآخر فلا يعنيه كل هذا، وإن كان بعض من فيه يعي أهمية ما يحدث. لكنه منحاز، ولو بالصمت، لتصور خليجي/ أمريكي/ إسرائيلي، بأن على الفلسطينيين الرضا بمصيرهم كلاجئين، كشعب في طريقه إلى الانقراض أَوْلَى بالحسنات، لتنتهي القضية الفلسطينية وتُفتح الأبواب أمام علاقات الشراكة وسطوة المال وفقط في منطقتنا. ومصر الرسمية تابعة للخليج في هذا التصور، على أمل الانتفاع.
جاء اغتيال هنية خلال عملية إبادة مستمرة منذ السابع من أكتوبر، بالتزامن مع اغتيال محمد ضيف قبل أسابيع، والاعتداء على الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري البارز في حزب الله، ليثير قلق القطاعين المتعارضين، وكأننا على وشك أن نسمع خبر هزيمة طرف وانتصار الآخر.
نوع القلق مختلف بالطبع؛ فالمنحازون لفلسطين ترعبهم احتمالية هزيمة المقاومة. أما المنحازون لإسرائيل والخليج، فيقلقهم عدم قبول الفلسطينيين والعرب للهزيمة.
التاريخ بصيغة الأجهزة وبيتر ميمي
الجديد في المسألة، استغلال بعض الجهات "المجهولة" للحظة اغتيال العدوِ الإسرائيلي شخصية بمستوى إسماعيل هنية، أهمَّ سياسي فلسطيني فاعل، لترويج أكاذيب تكاد تثير الضحك بقدر ما تثير الاشمئزاز، تتنافى مع ماضي حماس وماضي الرجل الشخصي والسياسي، بحديثٍ عن مكالمات له مع الرئيس الراحل محمد مرسي، بحيث يتم تصويره وتصوير حركته كأعداء لمصر. فيكون علينا إذًا أن نشكر إسرائيل على التخلص منه.
تُروَّج هذه الأكاذيب، بينما أي مطلع على الشأن الغزاوي وعلاقة حماس وهنية بمصر منذ 25 يناير 2011 وحتى اليوم، بإمكانه ملاحظة أن الحركة كانت تدرك منذ اللحظة الأولى لدقة الوضع المصري، وتعاملت معه بحساسية، وحرصت على التعاون المستمر مع الأجهزة السيادية، وخصوصًا مع بداية المعركة بين الجيش المصري وداعش في سيناء. بل إن هنية نفسه كان رجل السياسة والتوازنات، والبحث عن حلول وسط، وإعادة تجميع القوى الفلسطينية المختلفة، دون التخلي بالطبع عن قناعاته الفكرية أو العقائدية أو السياسية، وهو الطبيعي المقبول في السياسة والنضال.
كأن الإعجاب بالمقاومة الفلسطينية بكل فصائلها والانحياز لها يُشعِر طرفًا ما بالتهديد
انتشرت هذه الأكاذيب لتذكرنا بمسلسل الاختيار ومخرجه بيتر ميمي، وكأنه مرجع تاريخي، مع اعتماد البعض عليه كمرجع في محاولة تشوية هنية وحركته. رغم أنه مسلسل ركيك مليء بالمبالغات، ولا يعتمد على أي بحث تاريخي دقيق أو موضوعي. بل إن طبيعته الدعائية تفرض عليه أن يُحمَّل بكل أنواع الأكاذيب. بالإضافة إلى أنه ليس معروفًا عن بيتر ميمي، أو "المشرفين السياديين" على مسلسله، أنهم مؤرخون، أو حتى مثقفون متوسطو القيمة، ليكونوا مصدرًا لأي شيء.
حملات تشويه حماس ورئيس مكتبها السياسي المُغتال تجاهلت أن هذا الأخير كان رئيس الوزراء الفلسطيني المنتخب في انتخابات جرت تحت إشراف دولي، وعُرفت عنها النزاهة، ولكن نتائجها تسببت في تعرض غزة للحصار والتجويع والمقاطعة الدولية والعربية، رفضًا للديمقراطية، ليضطر هنية للتنازل عن منصبه.
جاءت هذه الحملات مُحمَّلةً برائحة تتجاوز الخصومة السياسية المشروعة، لتقترب من التشويه المتعمد، باعتباره، مع حماس، عدوًا لمصر شعبًا ودولة، في محاولة لخلق صورة متخيلة له، تتطابق مع صورة أخرى متخيلة بدورها، لخيرت الشاطر، كرجل المؤامرات والبيزنس، صاحب القلب البارد، القادر على اتخاذ القرارات القاسية أيًا كانت درجة خطورتها.
نستطيع إدراك دوافع هذه الحملة من نقيضها، أو ممن توجه ضدهم، وهم أساسًا القطاعات المصرية الواسعة التي شعرت بالإعجاب والتماهي مع شعب غزة ومقاومته وصمودهما، وبهذا الرجل تحديدًا، الذي قتلت إسرائيل أغلب أفراد عائلته، لكنه استمر في دوره السياسي المقاوم. وكأن الإعجاب بالمقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، والانحياز لها، يُشعِر طرفًا ما بالتهديد.
بالإمكان تحديد هوية هذا الطرف المنزعج من إعادة اكتشاف المصريين للشعب الفلسطيني ومقاومته وتاريخه؛ إنها دوائر من السلطة المصرية وشبكة المصالح الواسعة المنتمية لها من الخليج امتدادًا إلى الولايات المتحدة، مرورًا بتل أبيب وبعض المدن الأوروبية.
بالطبع، الانحياز للمقاومة الفلسطينية المسلحة في عالمنا الحالي، أو التماهي مع نموذج الفلسطيني/الفلسطينية الذي لا يرفع راية الاستسلام البيضاء رغم الجوع والعطش، يزعج أغلب، إن لم يكن كل الأنظمة العربية، وبالذات في واقع إقليمي كُرِّس انقسامه بين إسرائيل وأتباعها من جانب، وفلسطين ومقاومتها ومناصريها من جانب آخر، وكتلة ثالثة واسعة من المتفرجين.
السياسي الفلسطيني في مرآة المصريين
حماس ليست نسخة من جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وهنية والسنوار وخالد مشعل ليسوا خيرت الشاطر وبقية القيادة الإخوانية التي تصدرت الواجهة بعد سقوط مبارك. فقد فَرَض ظرف احتلال فلسطين على حماس الكثير من التغيرات خلال ما يقارب الأربعين عامًا، وسيفرض المزيد منها. دون نفي انتمائها لنفس المنظومة العقائدية الفضفاضة، ودون نفي أي أخطاء أو جرائم.
لكنَّ هذا ليس موضوع هذا المقال، إذ تنحصر المسألة الآن في سؤال يبدو غريبًا بعض الشيء؛ ما الذي يدفع مواطنًا مصريًا علمانيًا أو تقدميًا مهمومًا بالسياسة، يسعى للحرية والديمقراطية، ليشعر بأن المقاومة الفلسطينية تعبر عنه؟! أو أنها أقرب إليه من السلطة السياسية في مصر؟!
أقصد هنا "السلطة السياسية المصرية" بالذات. ليس الجيش المصري، أو الدولة، أو الوطن، أو الشعب، لتجنب أي لَبس عفوي أو متعمد في فهم التعبيرات والانتماءات. الإجابة ليست صعبة، تكفي نظرة سريعة للواقعين؛ الفلسطيني والمصري خلال السنوات الأخيرة بعد 3 يوليو/تموز 2013 وحتى اليوم، لنفهم هذا الانحياز للمقاومة، بما فيها حماس، وصولًا للتماهي معها، من قوى غير إسلامية مصرية وعربية.
حجم عملية الإبادة الحالية، غير المسبوق في تاريخ منطقتنا، وإدراك قطاعات واسعة من شعوب المنطقة استحالة التعايش السلمي مع إسرائيل بطبيعتها تلك، سبب رئيسي. وعودة فلسطين إلى مكانتها المحورية سبب آخر. وقدرة المقاومة على إيلام عدوها/عدونا في طوفان الأقصى مثلما لم يؤلمها أحد من قبل، عامل إضافي في الإجابة.
لكنَّ العامل الداخلي المصري يقدم مفردات إضافية، أبعد من انسحاق السلطة المصرية وتبعيتها لأنظمة الخليج، شريكة إسرائيل، أو تجاهل كل الأنظمة العربية لمأساة الشعب الفلسطيني ومعاناته، وتواطؤها مع عملية إبادته. بل إن طبيعة السلطة والمعارضة المصريتين تقدمان بدورهما الإجابات.
سلطة لم تفعل أي شيء لصالح شعبها طيلة أكثر من عقد. ويمكن تلخيص كل سياساتها خلاله في أنها تجعل حياة المواطنين أصعب كل يوم. أتجاهل هنا الفساد والنهب والفشل والاستبداد والقمع والاعتقالات والخطف والقتل خارج سياق القانون، والتفريط في الأرض والأصول المفترض ملكية الأجيال الآتية لها، مكتفيًا بقول إنها لم تفعل شيئًا نستطيع وصفه بالإيجابي.
وفي مقابل السلطة، لم تعد هناك أي معارضة ديمقراطية أو وطنية في مصر، بل مجرد أفراد معارضين متفرقين بتوجهات سياسية متباينة، لا يجمعهم أي إطار أو حزب أو تنظيم. وكل محاولات بناء أطر جماعية، إما باءت بالفشل نتيجة الظروف والملاحقة، أو نتيجة حماقة وانتهازية من تصدروا لواجهتها.
فماذا يفعل مواطن مؤمن بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والحياة، ويرى في إسرائيل كيانًا عدوانيًا يهدده، ولا يتناسى طبيعتها كدولة احتلال استيطاني وعنصري غربية الطابع، تجاه هذا الفراغ/الخراب؟ غالبًا سيشعر بأنه أقرب، ولو مجرد وجدانيًا، من المقاومة، ومن نماذج مثل إسماعيل هنية.
لست من "دراويش" حماس أو حزب الله أو أي تنظيم يحمل صبغة دينية. لكن، هل يمكن لأمثالي اليوم سوى أن ينحازوا لهذه المقاومة بينما تخوض هي وشعبها معركة بهذا الحجم طيلة عشرة شهور؟! بالطبع لا. بل يمتد التماهي لأن نرى ضرباتها باعتبارها انتصارًا لنا، وأن نرى في انكساراتها وخسائرها هزائم لنا؛ شخصيةً وجماعيةً.
هذا الصمود تحديدًا، مع أسباب أخرى، هو ما جعل إسرائيل تقرر قتل هنية في هذا التوقيت، وفي قلب طهران، بالتزامن مع اغتيال عناصر مهمة في حماس وحزب الله، لتكتسب الوجه المزيف للمنتصر إن تم التوصل لهدنة، أو لتجر الجميع لحرب إقليمية تُعيد إليها الدعم الدولي بكل أشكاله.
وفي الحالتين، تكون قد وجهت ضربة لمعنويات قطاع واسع من المصريين والعرب أعادت الشهور السابقة نسج علاقتهم بفلسطين وانحيازهم لها. فما يرعب إسرائيل فعلًا من بين أسئلة المستقبل، قبل أي شيء آخر، أن تُحاط من جديد بالملايين ممن يعادونها صراحة، وقد أدركوا صباح السابع من أكتوبر أن بإمكانهم إيلامها واختراق كل أنظمتها الدفاعية والاستخباراتية الأسطورية. ولهذا تحديدًا حملة تشويه هنية وحماس.
لهؤلاء الملايين من العرب ميولهم الفكرية والسياسية المختلفة، الموزعة على فصائل فلسطينية متعددة، فحماس ليست الفصيل الوحيد. وتدرك فصائل المقاومة أن هذا ليس وقت الخلاف الفكري أو العقائدي، بل وقت الاتفاق، والتحالف، أو على الأقل التنسيق من أجل هدف أساسي على المديين المتوسط والبعيد؛ أن ينتهي الاحتلال.
أدرك الفلسطينيون منذ عقود أن لا فصيلًا أو توجهًا فكريًا قادر بمفرده على إنجاز هذا الهدف، بعكس مصريين سلطويين لم يدركوا بعد أنَّ بناء وطن مستقر، ديمقراطي وحر، يحترم كل أبنائه، لن يحدث عبر السجون، أو العزل المجتمعي لفصائل سياسية أساسية. هؤلاء من يرون في حماس "وحشًا إخوانيًا"، بعد أن تم تضخيم حجمه عشرات المرات.
الخروج من البئر
كنا في الأسابيع الأولى للإبادة، عندما تخيَّل أحد أصدقائي مشهد الهزيمة المحتمل للشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة، فلم يجد سوى مشهد وحيد؛ أن تُعرض علينا صور جنود إسرائيليين يُخرجون يحيى السنوار من أحد الأنفاق، يفحصون شعره، مثلما حدث مع صدام حسين.
في استعارة صورة صدام حسين قبل عشرين عامًا، استدعاء لشعور عميق بالمهانة نعرفه لأننا عشنا هذه اللحظة، برؤية رئيس عربي خارجًا من بئر، متسخًا، أشعث الشعر، تائه النظرة، يعبث الجنود الأمريكيون بشعره ويفحصونه وكأنه حيوان غريب. هذه المهانة أصابت في العمق ليس فقط معارضي صدام حسين الكثيرين، بل معهم الكثير من ضحاياه العراقيين. فالهدف كان واضحًا؛ ليس القضاء على طاغية، بل جعلنا ندرك القدرة الأمريكية على هزيمتنا وتوجيه كل أنواع الإهانات لنا، دون أن نتمكن من ردها.
هزيمة المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة إن وقعت، لن تكون صورتها بالضرورة ما تخيله صديقي مستبدلًا السنوار بصدام حسين. بل من الممكن أن تكون لها تنويعات أخرى؛ إعلان حماس للاستسلام، أو استرجاع إسرائيل لأسراها دون مقابل من جانبها، أو شروط مهينة للهدنة، وصور أخرى تجعلنا نشعر بأن الإبادة غير المسبوقة كانت بلا ثمن. دون نفي أن الهدف الأساسي الآن هو إيقافها، ووقف الاستنزاف الدموي للشعب الفلسطيني.
لم يحدث ذلك بعد، لا يعلم أحد يقينيًا ما سيحدث. لكن هناك حقيقة أساسية، أن الاغتيال، واليد الاستخباراتية الطويلة، والأسلحة الحديثة/الذكية، لا يصنعون بمفردهم انتصارًا إسرائيليًا حقيقيًا. إنهم مجرد تفاصيل لاستكمال صورة فوتوغرافية واضحة وكبيرة لوجه إسرائيل؛ وجه بربري وهمجي. لا بديل عن إنهاء وجوده.