كوابيس العرب ما أكثرها، والأيام الجارية تشهد على أحد أبشعها، لكنَّ واحدًا آخر صار يرافقنا ولا يفارقنا، لم نتصوره كابوسًا في البداية فراح يحوم ويجول حتى جثم على وعي ولا وعي المنطقة بأسرها، ثم نَصَّب نفسه وجهة وطريقًا لها، وعنوانًا لمستقبلها. هذا الكابوس، وللأسف، اسمه دولة الإمارات العربية المتحدة.
في نظر دوائر المال والأعمال "العالمية"، لا يثمر نخيل الشرق الأوسط إلا في واحتين؛ واحة الديمقراطية وتُسمَّى إسرائيل، وواحة الاستثمار والربح وتُسمَّى إمارات عربية متحدة أو UAE، وما عدا ذلك صحارى تسكنها "حيوانات بشرية".
لربع قرن من الزمان نجحت الإمارات في إعلان نفسها نموذجًا لحداثة عربية جديدة من داخل منطقة ميؤوس من تخلفها، وتمكَّنت من إعادة رسم صورتها كبلد استطاع هجر ريع النفط ولعنته، ليصبح قِبلة الاستثمار والخدمات في صحراء العرب.
بدأت القصة مع عقيدة الإيمان بسنغافورة، والسعي لاستنساخ نموذجها في الشرق الأقصى، وجعله صيغة قابلة للتكرار في بيئة الشرق الأوسط، وانتهت في تفاعلاتها الشرق أوسطية إلى الإيمان بعقيدة عبادة النموذج الاستيطاني الإسرائيلي.
في البدء كانت سنغافورة
سنغافورة بلد آسيوي صغير بنفس مساحة البحرين، ذو أكثرية صينية. مدينة/جزيرة مقتطعة من ماليزيا تجمع بين الاستبداد السياسي الآسيوي والنجاعة الاقتصادية الناجزة. اخترعت "خلطة نجاح" حوَّلتها في عقود قليلة إلى المركز التجاري والرأسمالي الأبرز في الشرق الآسيوي بصحبة هونج كونج، وكلاهما مستعمرة بريطانية سابقة.
مستعمرة بريطانية ثالثة لكن في منطقتنا، كانت تسمى "إمارات الساحل المهادن" حتى نهاية عام 1971، اختارت في بداية نشأتها الاشتباك المتعقل مع قضايا المنطقة، ولعب مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان دور حكيم العرب، حتى صار هذا الدور لقبًا لصيقًا باسمه.
التحق الأبناء والأحفاد بكبريات الجامعات الأمريكية والبريطانية، لدراسة إدارة المال والأعمال والحرب والأمن، في حقبة من التاريخ هيمنت فيها التصورات النيوليبرالية وطغت على ما عداها، ليعودوا بعدها من الخارج جاهزين لقيادة سنغافورة العربية.
بدت قطر مشاغبة تداعب عواطف العامة، أما الإمارات فتخاطب من يستحقون من رجال الأعمال، دون إثارة حفيظة أحد
كان "نجاح الإمارات" إعلانًا لمفارقة موقع العربي فاحش الثراء، الذي لا يعرف قيمة أمواله السائلة المتراكمة من عوائد بيع النفط، فيتولى الإنجليز والأمريكيون إدارة محافظها في الأسواق المالية نيابة عنه. واِعتُبِرت مغادرته لهذا الموقع إنجازًا بذاته، بصرف النظر عن وجهة المغادرة وماهية الموقع الجديد لهذا "العربي الجديد".
نسبة المواطنين في الإمارات لا تكاد تتجاوز 10% من إجمالي السكان، أي أنَّ 90% من السكان المنتجين للقيمة والحياة، الذين ينتمون إلى 200 جنسية مختلفة، محرومون قانونًا من الحقوق السياسية والمشاركة في تحديد سياسات البلاد وتوجهاتها.
سهَّلت الإمارات سبل الاستثمار وأبدعت في قطاع الخدمات، واستحدثت نظمًا إدارية متطورة الخدمات تسبق باقي المنطقة بأميال. وعلى مستوى الحوافز، لا تفرض الإمارات ضريبة دخل على الأفراد ولا على استثمارهم العقاري أو أرباح أسهمهم الشخصية، وضريبة القيمة المضافة لا تتعدى 5%. أما الضرائب على الشركات فلا تتعدى 9% لما تجاوز 100 ألف دولار.
وفقًا لهذه الصيغة المنفتحة اقتصاديًا بلا حدود، والمغلقة سياسًا بشكل تام، أصبحت الإمارات براري الغرب في الشرق الأوسط، والقطب الجاذب للاستثمار الأجنبي بأنواعه، حيث تجاور المكاتب الإقليمية لكبريات الشركات العالمية العابرة للقارات، أموال الحرس الثورى الإيراني، وأموال الأوليجاركيا الروسية المشبوهة، في تناغم مثالي يجمع بين ريادة الأعمال وغسيل الأموال.
فلماذا إذن لم تكتفِ أبو ظبي بنجاحات دبي الاقتصادية ورقصها الذكي فوق حبال أموال الأضداد السياسيين؟ لماذا قررت الدخول في ملاعب خطرة بسرعة وتطرف وتحدٍّ؟
"الدولة الصغيرة" لا تفسر الأمر
في الماضي كانت نظريات العلاقات الدولية ترى الدول الصغيرة ضعيفة وتفتقر للتأثير على المستويين الإقليمي والدولي. لكن مع الوقت، أُعيد النظر في هذه التصورات، بعد الاعتراف بقدرة بعض الدول الصغيرة على التكيِّف مع المنافسة العالمية والتحديات الأخرى، طالما امتلكت المرونة والذكاء الاقتصادي والإداري.
غير أنَّ هذه النظريات لا تزال تجد صعوبة في تفسير السلوك الخارجي لدولٍ مثل قطر والإمارات، اللتين تسعيا إلى لعب أدوار إقليمية ودولية، لا تتناسب بالمرة مع مجمل عناصر ومقومات القوة المادية التي تسمح لهما بالقيام بهذه الأدوار.
أظنُّ أنَّ هناك تصورات وخيارات تحكم حركة الدول الصغيرة الواقعة في محيط مضطرب تحركه الأطماع والميول التوسعية، والحالة هنا لدول صغيرة جدًا ولكنها شديدة الثراء.
في حالة منطقتنا السائلة سياسيًا، يمكن للدول الصغيرة استغلال تناقضات المجال المحيط بها، بتوزيع مخاطر استثماراتها السياسية والاقتصادية، لتصبح لها قدم في كلِّ أرض أيًّا كانت، تسمح لها بلعب أدوار الوساطة بين المتصارعين، والنفاذ إلى مُركَّباتهم عبر الدعم المالي والتقني.
ومع النجاح النسبي لهذا النموذج، سيتم اجتذاب وتجنيد وتحييد مُركَّبات بعينها في المجال المحيط، لتعمل في صالح نموذج الدولة الصغيرة، شرط أن تكون هذه المركبات مؤثرة ولها ثقل وتمثل مصالح مركزية في هذا المجال المحيط.
هنا، اختارت كلٌّ من قطر والإمارات طريقًا مختلفًا، استثمرت قطر في الإعلام والسياسة؛ وهي مجالات تخاطب الشعوب وعواطفها، فكانت قناة الجزيرة التي أصبحت أحد أهم اللاعبين السياسيين في المنطقة، في حين اختارت الإمارات ريادة الأعمال وادعاءات التنمية. بدت قطر مشاغبة ومتطاولة تداعب العوام بعواطفهم العروبية الإسلامية، أما الإمارات فخاطبت مَن يستحقون المخاطبة مِن رجال أعمال ومهنيين، بشكل بارد واحترافي لا يثير حفيظة أحد.
سيتحرر رأس المال مما قد يقيده من مظالم سياسية واستحقاقات إنسانية، لينمو بعدها ويتراكم حيث اللاشعوب
لكن في أعقاب الربيع العربي غيّرت الإمارات استراتيجيتها وتزايد تداخلها سياسيًا في المنطقة وبشكل عدوانيٍّ ومتطرف. حاربت الإمارات الربيع العربي حربًا لا هوادة فيها بدعوى أسلمته، وعيَّنت نفسها العدو الأول للإسلام السياسي في المنطقة.
لا يبدو هذا الأمر مقنعًا لي، الأمر يتعدى الإسلام السياسي بكثير، فقد رأت الإمارات أن صحوة الشعوب العربية وفُرص تمكينها تشكَّل الخطر الأكبر على صيغة "ما بعد الشعوب" التي تتجسد على أراضيها.
الكارثة هي تعميم نموذج وذهنية الدولة الصغيرة ليتسيد الدول الكبيرة نفسها. مصر مثلًا، حينها ستتكثف صيغة ما بعد الشعوب التي تريد الدول الصغيرة إرساءها إلى حدودٍ لا يمكن تحمل عواقبها، حيث مستوى من الصراع سيتجاوز ما وراء خيال النموذجين الاسرائيلي والإماراتي.
أموال عابرة للمسؤولية والمحاسبة؟
حين كانت الإمبريالية تتسلق قمة الرأسمالية، بدأت بشركات كبرى واستثمارات عملاقة صنعت لنفسها جيوشًا من المرتزقة لتُحكِم سيطرتها على بلدان بحجم قارات. فكانت شركة الهند الشرقية التي سيطرت على شبه القارة الهندية وبقاع أخرى في آسيا، وأبير كونغو البلجيكية التي سيطرت على الكونغو ومساحات من إفريقيا.
صالت هذه الشركات وجالت في مستعمراتها دون رقيب أو محاسب، وفي سبيل تراكم رأس المال والربح ارتكبت هي وقواتها أفظع الجرائم بحق سكان المستعمرات، ولكنها في النهاية خضعت لسلطة دولها القومية وبرلماناتها وشعوبها، فهل الرأسمالية وأنماط إمبرياليتها الآن تعمل وفقًا لنفس الصيغة؟
وفقًا للمفكر والمناضل الإيطالي أنطونيو نيجري، فالعالم محكوم بصيغة الإمبراطورية التي أصبحت تمثل شكلًا للنظام العالمي تعمل فيه الرأسمالية بشكل لا يقبل أي قيود أو حدود قومية. لذا يرفض نيجري تعيين الولايات المتحدة الأمريكية في موقع مركزي لهذه الإمبراطورية، بل يعتبرها المجال الأكثر حيوية لها بحكم الطبيعة فوق القومية لتكوين وبنية الرأسمالية الأمريكية ذاتها، فالإمبراطورية عند نيجري أكبر من الولايات المتحدة كوحدة سياسية حتى لو لعبت دورًا محوريا فيهًا.
ورغم اختلافي مع تصورات الانتفاء التام لمعنى الدولة القومية في عالم الإمبراطورية، حيث لا تزال الجيوش وترساناتها التقليدية وغير التقليدية موجودة بعلِّة وجود الدولة القومية ومصالحها، فإن بعضًا من ملامح هذا العالم الإمبراطوري تتحقق بشكل يقارب أطروحة نيجري.
ففي هذا النظام العالمي الجديد، سينجح رأس المال في التحليق فوق ما هو سياسي، وسيصير السياسي سجين مظلة ما هو ثقافي، ليتحرر رأس المال في انتقالاته الآنية والسريعة مما قد يزعجه أو يقيد حركته بمظالم سياسية واستحقاقات إنسانية وسرديات منغصة للضمائر، لينمو بعدها ويتراكم حيث اللا شعوب، وتصبُّ عوائده في المدن والصوبات المصنوعة خصيصًا لمرتاديها الحصريين.
لو كانت إسرائيل تمثل وكالة ما تبقى من الاستعمار الاستيطاني القديم، فالإمارات وكيلة الإمبراطورية بمعناها المعاصر
لو استخدمنا مدخل نيجري، سنجد الإمارات وليست إسرائيل هي الصيغة الأقرب للتعبير عن هذا الشرط الإمبراطوري في المنطقة. فإسرائيل وكيلة للإمبريالية وفقًا لصيغ القرن العشرين المتقادمة، حيث التأسيس القومي لمشاريع استعمار استيطاني، تستند فيه على مظلومية جريمة الهولوكوست النازي وشرعية الحق التاريخي التواراتي ثم الدور التنويري للرجل الأبيض في صحارى الجهل العربية. وفي مقابل إسرائيل اجترح الشعب الفلسطيني لنفسه وجودًا في مواجهة الاستعمار الاستيطاني والإبادة، مستخدمًا الشرعية الوطنية الأصلانية والسرديات العروبية والإسلامية.
في المقال السابق تحدثت عن الإسرائيليين كأفراد وبشر مقابل الفلسطينيين كحيوانات بشرية وإحصائية، في عالم يشهد عملية متسارعة تضع خطوطًا فاصلة بين البشر وأشباه البشر وما دون البشر في كل أركانه؛ اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وعسكريًا، بشكل عابر للهويات والحدود السياسية، يعيد تشكيل وتعيين الحدود داخل نطاق الدولة القومية نفسها وعناصر مكوناتها الداخلية.
إسرائيل والإمارات واحتان، الواحة مستوطنة والمستوطنة واحة، والإمارات هي الواحة "العربية"، الدولة الشركة التي لن تجد شعبًا يحاسبها، أرض النجاة الفردية للمؤثرين ورواد الأعمال العرب وأبناء الطبقات الوسطى المحترفة القادمين من المُركَّبات "المُدَوَّلة" في الاقتصاديات الوطنية، ليصبحوا هناك عنصرًا محوريًا في عالم ما بعد الشعوب العربية، البشر فيها مستثمرون أو مستهلكون أو مستخدَمون.
نموذج "ما بعد الشعوب" السياسي والاجتماعي، تحكمه رؤوس أموال عابرة للمسؤولية وللمحاسبة، تمتلك القوة العسكرية والأمنية ولكنها متملصة من المسؤولية ومن علانية الحضور، لأنها ستفجر الصراعات وتديرها عبر وكلاء شركاتيين، فتصبح ميليشيات مثل بلاك ووتر ثم فاجنر أساسًا وليس استثناءً.
في هذه الأثناء يمكن التطبيع وعدم الالتفات إلى خبر "استحواذ" شركة مواني أبو ظبي على ميناء سفاجا في مصر بامتياز مدته 30 عامًا. الاستحواذ هنا أصبح لفظًا له مدلوله؛ للتعبير عن عملية تجارية طبيعية وشرعية تنتقل من خلالها ملكيات عامة للشعب المصري إلى شركة إماراتية.
لو كانت إسرائيل تمثل وكالة ما تبقى من نموذج للاستعمار الاستيطاني القديم في العالم، فالإمارات تمثل وكالة الإمبراطورية في المنطقة بمعناها الرأسمالي والعسكري المعاصر، وعلى هذه القاعدة يصبح تحالفهما منطقيًا وعقلانيًا، لأن إسرائيل تمثل عنصر "الخبرة" والإمارات تقدم عنصر "التجديد وريادة الأعمال".
منذ ثلاث سنوات طالعتنا أخبار تتحدث عن اعتزام الشيخ حمد بن خليفة آل نهيان، ويحمل اسم عادل العتيبة في نفس الوقت، شراء نصف أسهم نادى بيطار القدس الإسرائيلي. ولمن لا يعرف فجماهير نادي بيطار القدس تفتخر بكونها "الأكثر عنصرية في إسرائيل"، لدرجة أنها غادرت الملعب عندما أحرز لاعب روسي مسلم هدفًا لفريقهم، في تعبير عن الغضب والاحتجاج من انتداب لاعبين مسلمين.
الصفقة الإماراتية فشلت لاعتراض جماهير الفريق وتظاهرهم ضد بيع ناديهم لثري عربي، لكنَّ السؤال هو؛ لماذا يا عادل يا عتيبة أو يا حمد بن خليفة؟ لماذا من الأساس؟ هل هو البحث عن شهرة؟ أم أنها رسالة بإعلان التجاوز التام لعالم الشعوب، والانتقال إلى عالم ما بعد الشعوب؟
يبدو أنها الثانية!