المنصة
تصميم: يوسف أيمن

وقائع معلنة بلا سرديات

منشور الخميس 12 سبتمبر 2024

ربما أخطر ما يواجه العالم في هذه الحقبة الكئيبة، أنه يشهد تراكمًا لأزمات كبيرة ومعقدة جدًا لا يعترف بأغلبها، وحتى القليل الذي يعترف به، يدركه ويتصور حلوله بطريقة شديدة المحدودية والتفاهة.

الأمر ليس نتاج غباء أو قصور معرفي، بل استسلام لأسر خيال سياسي وفكري وضع الإنسانية بين خيارين؛ إما استمرار الخضوع لما هو كائن من أوضاع، أو فناء البشرية. هل يمكن لعاقل أن يختار الثانية؟

على مدى نصف قرن من الزمان، ومن داخل أوساط أكاديمية وثقافية وإعلامية، جرى الترويج لعالم جديد تنتهي فيه السرديات الكبرى، وكان يقصد بها الشيوعية ومعها ما اعتبرته الأدبيات الأمريكية بالذات "شموليات"، أيديولوجية كانت أم عقائدية عمومًا.

لكن الذين روجوا فلسفيًا وفكريًا لهذا اليقين شبه الديني، استنبطوا بداهةً سيادةَ سرديةٍ أكبر من بقية السرديات الكبرى التي أُعلنت نهايتها. سردية أكبر من أن تكون سردية. فالرأسمالية، في وعي ولا وعي هؤلاء، لم تعد مجرد مرحلة تاريخية، بل قانون طبيعي حتمي مثل شروق الشمس وغروبها. تعاقب الليل والنهار لا يحتاج إلى مروية أو وعد على أي حال، فهو الناموس ونحن لسنا إلا ضيوفًا عابرين على حضرته.

السردية الكبرى للرأسمالية ليست فقط أنها نهاية التاريخ ويوتوبيا أتمت مهمتها في احتضان الوجود الإنساني إلى الأبد وحسب، بل تتضمن أيضًا وعيدًا قاسيًا لكل من يحاول تهديدها. فكونها قانونًا طبيعيًا متحققًا يعني أن كل من يسعى جديًا لتحدي ناموسها، هو فرد أو جماعة مارقة، تستحق أشد أنواع العقاب والتنكيل.

وكلما استقر في عقل ووجدان الحاكمين والمحكومين أن الرأسمالية قانون طبيعي، كلما اشتدت قسوة وتسارع الردة السياسية والأخلاقية في فترات تأزم النظام الرأسمالي. ففي هذه الأوقات ومهما بلغت براعة استخدام الحيل والأحابيل الخطابية، الهوياتية والعاطفية، ستأتي لحظة ما تتكثف فيها معاناة الإنسان تحت وطأة الإفقار والإهانة والتمزق المادي والمعنوي، فيَهِمُّ إلى مساءلة حياته وعناصرها ووعودها، المتحققة منها والمغدورة، ومنها سينطلق ومعه آخرون إلى مساءلة شرعية وأهلية النظام الكلي الخاضعين لمنطقه.

وهنا، سيصبح الإنسان على عتبة الكفر والعياذ بالله، وقت يبدأ في نقد ما اِعتُبر دومًا "قانونًا طبيعيًا". ولأن ذلك غير مسموح وغير مطروح، سيصبح القمع بأشد أنواعه قسوة وعريًا هو الأصل في التعامل مع كل نقد من هذا النوع.

يظن الإنسان المعاصر أن عالمه محكوم بالقواعد حتى تصبح الإبادة جزءًا من أيامه العادية

هناك جملةٌ من طقوس سياسية وصلوات اجتماعية أضحت تقاليدَ متوارثةً داخل ما يسمى بالديمقراطيات الغربية، ومهمتها جعل الرأسمالية قانونًا طبيعيًا، تبدو وكأنها تعبير عن إرادة إنسانية فردية وجماعية حرة، وفي أوقات الأزمات ستتحول هذه الطقوس إما إلى مناسبات كرنفالية واحتفالية بلهاء، أو مناسبة لإعلان اكتشاف أنها محض طقوس طوطمية لا يعول عليها.

في بلد مثل فرنسا، يمكن لليسار أن يفوز بأكثرية المقاعد في انتخابات بدت حادة وعنيفة واستقطابية، وفي الوقت نفسه يُسمِّي رئيس الجمهورية رئيس وزراء مدعومًا من أقصى اليمين. حسنًا، كم هذا جميل!

أما في الولايات المتحدة، فستتحول الانتخابات الرئاسية إلى عرض ترتفع معه مستويات الأدرينالين كلما اقترب السباق من نهايته. عرض يشبه أفلام مارڤل حيث الرهان على جذب المشاهدة عبر تكثيف الإثارة والمشاهد الغرائبية، والتصاعد الدرامي والقدرة على تثبيت المشاهد فوق مقعده لأطول وقت ممكن.

 تتأزم "الديمقراطيات الراسخة" على كل حال لأنها دائمًا ما تبحث عن سردية أو تتملص من سردية سائدة بالفعل عبر تفعيل حالة الكرنفالية الصراعية والمتعة التليفزيونية، كما في الولايات المتحدة، أو يصل تأزمها للمرحلة الفرنسية الحالية، حيث جرت الانتخابات ولم يترتب على نتائجها شيء.

أما الأوتوقراطيات والسلطويات والفاشيات، فهي في حلٍّ من هذا المأزق، وفي هذه المرحلة التاريخية بالذات، ذلك أن فائض قمعها سيُمكِّنها من قتل فكرة السردية من بابها. الممارسة السياسية والإجراءات الحاكمة ستتم بدون مسوغ أو مبرر وربما من دون إعلان. تصحو من النوم لتجد حياتك تتغير بشكل راديكالي وعنيف بينما سلطتك الحاكمة لا تمنُّ عليك حتى بتبرير أو شرح ما تفعله بك، كما يحدث الآن في مصر.

وإن كانت مصر تعبر عن تجسيد بائس لحكم بلا سردية، فالطور الحالي لشركة/دولة الإمارات العربية المتحدة يعبر عن التحقق الناجح لهذا النمط، حيث العنوان السياسي للممارسة السياسية الإماراتية هو "اللاسياسة"، إذ لا تنبع التصرفات والإجراءات والتدخلات الإقليمية، مهما بلغت من عنف وتطرف، من دوافع خطابية أو أخلاقية تبررها. فنحن هنا لأننا هنا، وسنذهب إلى هناك لأننا سنذهب إلى هناك.

لكن في نفس هذا العالم، أصبح ما يجري في فلسطين، لدى بعض القطاعات على الأقل، بمثابة كشاف الضوء الذي يحرق وجه من ينظر نحوه. فالعالم ذو القانون الطبيعي المستقر يشاهد وهو مستقر على الأريكة إبادة جماعية على الهواء مباشرة، وهنا سيقفز شاب أبيض في ولاية أمريكية نائية منتفضًا ومتسائلًا: هل هذا هو قانوننا الطبيعي؟ هذا الشاب يُسلِّم من البداية أنه في عالم تحكمه قواعد مستقرة ومنضبطة، وفجأة يجد هذه الإبادة جزءًا لا يتجزأ من أيامه العادية في عالمه الطبيعي.

هذا الشاب أو هذه الشابة لا يعرف على الأغلب أين تقع فلسطين وإسرائيل. ربما سمع يومًا في الكنيسة أو من العائلة إحالات توراتية وإنجيلية ما عن هذه البقعة من الأرض، ولكن لأن تلك الإحالات والرموز هى جزء من تكوينه بشكل أو بآخر، وهي من عناصر عالمه الطبيعي جدًا، الرأسمالي تمامًا. وقتها ستصبح المحرقة المعاصرة سببًا لتنبيهه لمساءلة عالم ولد ونشأ على إيقاعات طبول تسخر من أي سردية كبرى.

ربما لم يدرك هؤلاء الذين روجوا لنهاية السرديات الكبرى وموت الأيديولوجيا وكل أيديولوجيا أنهم كانوا يدعون إلى قتل الوجدان، باعتباره المنغص الثقيل على وجود الإنسان المعاصر، الذي أصبح مطلوبًا منه الآن أن يختبر درجة خنزرته في كل مساء، وهو يشاهد يوميًا مستجدات الإبادة الجماعية على التليفزيون، بينما يتناول عشاءه الساخن في ضاحية هادئة آمنة بعد يوم عمل طويل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.