من معاني "هَرَسَ" في المعاجم اللغوية: دَقَّ الشيء وضغط بقوة عليه، أي بالعامية المصرية: فَعَصه. واسم الفاعل بالتالي: هارِس. وهذا ما فعلته المرشحة الديمقراطية للانتخابات الأمريكية كامالا هاريس بمنافسها الجمهوري دونالد ترامب في مناظرتهما التليفزيونية فجر اليوم في فيلادلفيا.
في المناظرة السابقة لترامب (78 سنة)، الذي خاض سبع مناظرات رئاسية من قبل، استطاع الرئيس السابق إخراج منافسه جو بايدن (81 سنة) من السباق لصالح هاريس (59 سنة)، التي خاضت اليوم مناظرتها الرئاسية الأولى.
لم يفز ترامب حينها لشيء قاله في المناظرة، بل لأن بايدن هو من خسر بأدائه وملامح وجهه واختلاط الأمور عليه، بشكل أكّد الشكوك في تأثير شيخوخته على حضوره الذهني.
كان كل المطلوب من نائبة الرئيس الأمريكي، التي ظلت بعيدة عن الأضواء السياسية والملفات الاستراتيجية حتى السنة الرابعة لإدارة بايدن، إثبات أن بإمكانها أن تصبح رئيسة للولايات المتحدة، الأمر الذي فشلت فيه قبل ثماني سنوات السيناتورة ووزيرة الخارجية المحنكة والمعروفة أكثر منها، هيلاري كلينتون.
لم تتمكن زوجة الرئيس الأسبق بيل كلينتون من دخول نادي الرجال الرئاسي الذي بلغ عدد أعضائه حتى الآن 46 رئيسًا، كلهم من البيض باستثناء واحد ملون. بالتالي، بدا التحدي سهلًا لترامب الذي استهان بقدرة المرأة السوداء، بعد أن فاز على نظيرتها البيضاء.
كانت ثقة ترامب في قدرته على كسب مناظرته تعتمد أولًا على خبراته السابقة وحضوره على الشاشة كمقدم في التليفزيون لسنوات قبل دخوله السياسة، في برنامج The Apprentice، وهو مسابقة واقعية للشباب على ريادة الأعمال، وثانيًا على الملفات السياسية العالمية والشخصيات السياسية الدولية التي تعامل معها كرئيس، بالمقارنة مع هاريس.
انتقد ترامب ابتعاد منافسته عن المقابلات الصحفية والتليفزيونية، واعتبره دليلًا على ضعفها وجهلها بالسياسة. وزاد من ثقته أن من شروط هذه المناظرة، كسابقتها مع بايدن، عدم السماح للمتناظرَيْن بإحضار أي معلومات أو ملاحظات مكتوبة مسبقًا للمساعدة، ولم تتوفر لهما إلا أوراق بيضاء لتسجيل الملاحظات أثناء النقاش.
لم يكن ترامب مرغمًا على خوض أي مناظرة إلا إذا وجد فيها مصلحة له. ورفض بالفعل إجراء أي واحدة مع منافسيه في الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري مطلع هذا العام، حيث ضمنت له استطلاعات الرأي ونتائج انتخابات بعض الولايات الفوز السهل بترشيح حزبه.
ورغم أن ترامب التزم من قبل بإجراء مناظرتين مع بايدن لحاجته إلى هذا الظهور مع الرئيس، خصوصًا بعد إدانته بجرائم تزوير أوراق شركته للتستر على فضيحة نسائية، لكنه أصبح في حِلٍّ من قبول المناظرة الثانية بانسحاب الرئيس الحالي. لكن ترامب عاد وقبل مواجهة هاريس مضطرًا، رغم انتقاداته لقناة ABC التي استضافت المناظرة، بعد أن تحسن موقفها في استطلاعات الرأي ولم يعد هناك فارق يميزه عنها.
كيف أثارت كامالا هياج الثور؟
كان المطلوب من ترامب الثبات والحديث عن السياسة كأحد عُتاتها، تاركًا هاريس "المبتدئة" تثرثر وتشكو وتُظهِر قلة معرفتها وخبرتها، وألَّا تورطه في تكرار حديثه المعتاد عن تصنيفها العرقي وهل هي سوداء أم هندية الأصل أم ابنة مهاجرة! كان عليه أن يركز على فشلها، مثل بايدن، خصوصًا في منع تدفق المهاجرين غير النظاميين على أمريكا.
أما كامالا فكانت تريد أن تبدو واثقة من نفسها ولا تفتعل شجارًا أو تتجاوز في ردها، وتلتزم بقواعد الخصومة السياسية، بجانب إثبات معرفتها بالقضايا السياسية المطروحة خصوصًا حق الإجهاض الذي يرفضه الجمهوريون وقوّضته المحكمة العليا، بعد أن أصبح غالبية قضاتها من المحافظين في رئاسة ترامب الأولى.
لذلك حرصت هاريس على أن تتجه فور دخولها القاعة نحو منصة ترامب، مادةً يدها لمصافحته بندية تُظهِر الاحترام، بينما بدا هو مغلوبًا على أمره أمام الكاميرا وهو يمد يده. في المناظرة الأولى لم يسع إلى مصافحة بايدن، واستراح لأن الرئيس الحالي، الذي لا يعترف ترامب بفوزه حتى الآن، لم يحاول مصافحته بدوره.
ركزت هاريس على المفردات التي تثير ترامب، وامتلكت مفاتيح إخراجه عن النص وإظهاره بمظهر النرجسي المتفاخر بصداقته لأباطرة ومستبدي العالم، ومعرفة كيفية فهم بعضهم لبعض.
عاد ترامب إلى الشخصية الكارتونية التي تردد الأكاذيب بلا حساب أمام مرشحة "مبتدئة" تصحح شائعاته
ذكّرته هاريس بأن 200 من السياسيين الجمهوريين أعلنوا تزكيتهم وتأييدهم لها، ومنهم ديك تشيني نائب الرئيس الأسبق جورج بوش الابن. كما أن مايك بنس نائب ترامب عندما كان رئيسًا رفض تأييده. وهنا انفعل ترامب ليقول إنه هو الذي عزل الكثيرين من مساعديه السابقين لفشلهم، بينما يُبقي "رئيسها الفاشل" بايدن على كل مساعديه الفاشلين دون تغيير.
فتعود هاريس لاستخدام تعبير الفصل أو الرفت من الوظيفة، الذي طالما تفاخر بترديده للمتسابقين الشباب في برنامجه The Apprentice، فتقول له: أنت الذي تم رفتك، 81 مليون ناخب أمريكي فصلوك من وظيفتك كرئيس لأمريكا!
وهكذا، واصلت كامالا التلويح بالراية الحمراء المثيرة لهياج ترامب، ليترك كل تحذيرات مساعديه ومن حاولوا تحضيره للمناظرة، ويخرج عن هدوئه المفتعل للحديث الأنوي والنرجسي الذي سئمه الأمريكيون، وجعلهم يريدون طي صفحته مثلما ارتاحوا من صفحة بايدن.
أكاذيب أكل الكلاب والقطط
لم يفلح ترامب في الاكتفاء بالحقائق التي تصب لصالحه في ملف الهجرة غير النظامية المأخوذ على إدارة بايدن، فعلى سبيل المثال واجهت مدينة سبرينجفيلد في ولاية أوهايو مشكلة استيعاب المدارس العامة ومواصلاتها المحدودة لتدفق نحو 15 ألف مهاجر من جزيرة هايتي في البحر الهادئ.
غير أن ترامب لم يشر لذلك، بل إلى شائعات وأكاذيب رددها وروّج لها نائبه المرشح جي في فانس، والملياردير إيلون ماسك، إذ قال "في سبرينجفيلد، هم (المهاجرون) يأكلون الكلاب، ويأكلون القطط، ويأكلون الحيوانات الأليفة التي يربيها الناس هناك"! ليؤكد له مقدما المناظرة كذب هذه المعلومات التي نفاها رئيس المدينة، وحتى نائبه تراجع عنها وتنصل من مصدرها.
ولكن ترامب عاد إلى الشخصية الكارتونية التي تردد الأكاذيب بلا حساب، أمام مرشحة "مبتدئة" تصحح وتكذّب أرقامه ومعلوماته أو شائعاته.
لم يتورع ترامب عن اتهام كامالا، زوجة المحامي اليهودي الأمريكي دوج إيمهوف، بأنها "تكره إسرائيل.. ولم تستقبل نتنياهو في الكونجرس" كرئيسة لمجلس الشيوخ الأمريكي بحكم منصبها! لكنه التزم الصمت ولم يزايد عليها حين أكدت دعمها لإسرائيل وزادت على ذلك بتأييدها حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وإعادة إعمار غزة.
لم يشر ترامب إلى موقفه من اليوم التالي للحرب بعد أن أعلن قبل شهرين، في حديثه أمام المليارديرة الإسرائيلية الأمريكية مريم أدلسون التي ستتبرع بمائة مليون دولار لحملته مقابل اعترافه بضم الضفة الغربية، ضرورة توسيع مساحة إسرائيل الصغيرة.
أصدقاء ترامب من الطغاة
أثارت هاريس حفيظة ترامب في المناظرة وهو يتحسر لعدم وجوده في الحكم حاليًا، وإلا أوقف كل الحروب بل ومنع اندلاعها من البداية، سواء في غزة أو أوكرانيا، عندما قالت إن الكثيرين من القادة العسكريين يعتبرونه "عارًا" على أمريكا و"خزيًا" لها كزعيم.
هنا انفعل ترامب، وأكد أن علاقاته القوية برؤساء مثل بوتين منعت أي حرب في عهده، وكانت ستمنع حرب أوكرانيا. وأشار أيضًا إلى احترام رئيس كوريا الشمالية له. ثم استند إلى شهادة زعيم أوروبي يدعمه وينتقد هاريس؛ صديقه في نادي المستبدين فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري منذ 14 سنة، والرجل الذي جعل بلاده الدولة الأوروبية الوحيدة غير الحرة بعد أن عدل الدستور ليحكم مطلقًا.
انتهت المناظرة الأولى لترامب أمام هاريس، تاركةً إياه مهروسًا متطلعًا لمناظرة ثانية، على أمل أن يتغلب فيها على تضخم ذاته النرجسية. ولكن لا ضمان أن توافق هاريس عليها، مثلما لا يوجد ضمان ألَّا تدهسه وتهرسه مرة أخرى. لأن كتالوج ترامب ومفاتيحه معروفة لكل ذي ذهن حاضر، وهو ما غاب عن بايدن الذي لم يتمكن من منافسه لشيخوخته الذهنية، وليس لقوة ترامب الذي لا يصغره إلا بثلاث سنوات.