رغم كل اتصالاته الهاتفية ومبعوثيه خلال الأسبوع الماضي إلى إسرائيل، ومدها بكل ما تريد من سلاح ودعم حتى عن طريق حلفائه العرب، لم يتمكن الرئيس الأمريكي بايدن من مساعدة حزبه ومرشحته للرئاسة كامالا هاريس في إقناع نتنياهو بوقف إطلاق النار في غزة خلال فترة انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في شيكاغو هذا الشهر.
فحتى لو افترضنا وجود أي مصلحة لنتنياهو في وقف القتال وتبادل الأسرى ودخول المساعدات الإنسانية، فإن جدول انتخابات الرئاسة الأمريكية يمثل ورقة ابتزاز إضافية يلوّح بها لإرضاء المرشح الجمهوري ترامب، بمساعدته على حرمان خصومه الديمقراطيين من أصوات العرب الأمريكيين في ولايات حاسمة مثل ميشيجان، حيث يرهن العرب أصواتهم لهاريس بوقف الحرب أولًا ثم الكف عن تزويد إسرائيل بالسلاح.
ترامب يمقت نتنياهو وانتقده بشدة لأنه سارع لتهنئة جو بايدن بالفوز في الانتخابات الماضية التي لا يعترف بصحتها، واعتبر ذلك جحودًا بعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها والاعتراف بضم الجولان المحتل!
لكن يبقى ترامب هو الأقرب لنتنياهو ومتطرفيه، بفضل أجندته اليمينية ووعوده لمتبرعيه من مليارديرات إسرائيل وأمريكا بالمساعدة على توسع إسرائيل دون أي إشارة ولو خطابية للحقوق الفلسطينية.
بالتالي، ليس من مصلحة نتنياهو فوز مرشحة ديمقراطية تُردد اللغة الخطابية لليسار الإسرائيلي والمُطبِّعين العرب المحرَجين من شعوبهم؛ بالتشديد على حل الدولتين وحتمية بدء مسار إعلان دولة أو حتى دُويَلة فلسطينية بزعامة قادة التنسيق الأمني في رام الله، ولن يشفع لها إعلان دعمها المطلق لإسرائيل ولا كون زوجها يهوديًا أمريكيًا.
لا يتحدث اليمين الأمريكي بهذه اللغة. في فترة ترامب الأولى استبعَد الفلسطينيين من خطط السلام مع العرب، التي تعززت باتفاقات الشراكة والتجارة مع إسرائيل، سواء تحت شعار "الاتفاقات الإبراهيمية" أو "حلف النقب" أو التنسيق العسكري والأمني العربي مع إسرائيل.
قبل أسبوع من تركه البيت الأبيض قرر ترامب نقل اختصاص إسرائيل من مظلة القيادة العسكرية لأمريكا في أوروبا إلى القيادة الوسطى المختصة بالمنطقة العربية، ومقرها قاعدة العديد في قطر وتعرف باسم السنتكوم/CentCom.
يمتد نشاط هذه القاعدة إلى تنسيق قوات الدول التي تشارك في مناورات عسكرية مع القوات الأمريكية من قطر والسعودية والبحرين وحتى الأردن ومصر، بتدريبات "النجم الساطع" صحراء مصر الغربية، وكذلك تنسيق شبكة الدفاع الجوي لكل هذه الدول تحت المظلة الأمريكية، وبمشاركة إسرائيل، لصد أي صواريخ موجهة لهذه الدول من خصومها، مثلما شاركت دول عربية في صد صواريخ إيران والحوثيين عن إسرائيل!
بالتالي، يتطلع نتنياهو واليمين الإسرائيلي للمزيد من وعود ترامب الانتخابية.
في انتخابات 2016 باع ترامب وعده بنقل السفارة إلى القدس بنحو ستين مليون دولار، حصل عليها كتبرع من زوجين، هما الملياردير اليهودي الأمريكي شيلدون أدلسون، صاحب صالات القمار الضخمة في لاس فيجاس وماكاو، وزوجته الإسرائيلية مريم، التي حملت شعلة التوسع الصهيوني من زوجها بعد وفاته عام 2021.
وهذا العام، وعدت مريم حملة ترامب بمائة مليون دولار مقابل الاعتراف الأمريكي بضم الضفة الغربية لإسرائيل، دون الاعتراف بحق المواطنة الإسرائيلية للفلسطينيين. سيُسهِّل هذا الاعتراف على نتنياهو اتخاذ هذه الخطوة دون العقبات التي يثيرها الديمقراطيون في الكونجرس بأحاديثهم عن حل الدولتين المستند إلى شرعية أوسلو.
بالتالي، لا يتحالف نتنياهو مع مرشحي الحزب الديمقراطي كبديل، وإن كان بإمكانه ابتزازهم إذا أتى بهم الناخب الأمريكي رغمًا عنه. ينطبق هذا على الإدارة الحالية، رغم كل ما فعله بايدن لإسرائيل خصوصًا بعد هجوم السابع من اكتوبر.
أعداء "الحرية وحقوق الإنسان"
من أجل مصلحة إسرائيل، أخلف بايدن وعوده الانتخابية بعدم التعامل مع الديكتاتوريات العربية بل محاسبتها. صحيح أنه لا هو ولا أي ديمقراطي أو جمهوري يجرؤ على مجرد وعد الفلسطينيين بالحرية وحقوق الإنسان، لكن بايدن المرشح قدم هذا الوعد إلى بقية الشعوب العربية، عندما توعد بمحاسبة وعزل النظام السعودي بسبب جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي، وربط المعونة الأمريكية لمصر بسجلها الحقوقي. رفع بايدن شعار "لا شيكات على بياض لأي ديكتاتورٍ مفضلٍّ" لترامب.
لكن بمجرد قبول إسرائيل وساطة مصر لتهدئة الأوضاع في غزة بعد أحداث الشيخ جراح في مايو/أيار 2021، أجرى بايدن اتصاله الهاتفي الأول بالسيسي بعد قرابة خمسة أشهر من برقية تهنئة السيسي له بتولي الحكم. ثم تطورت الأمور بعودة المياه لمجاريها عندما استقبلت شرم الشيخ بايدن في قمة المناخ.
كذلك زار بايدن السعودية في ضيافة ولي العهد الذي كان يتعهد بجعله ونظام بلده منبوذَين، لأن الوسطاء عادوا يلوحون لبايدن بمصلحة إسرائيل في السلام مع السعودية!
صحيح أن الديمقراطيين يتشدقون بالحديث فقط عن الحريات وحقوق الإنسان، ويكتفون بالبيانات الشكلية الغاضبة ضد الأنظمة المستبدة لإرضاء جناحهم التقدمي، لكن بالمقارنة فإن الجمهوريين بعد أن استولى ترامب على حزبهم لم يعودوا يطرحون حتى هذه الشعارات.
في حالة ترامب، هناك انسجام كامل بين المستبدين والتاجر الأمريكي الفج الذي لا مجال في لغته أو وعوده لحقوق أو حريات، بل إنه يحسد المستبدين على سلطاتهم المطلقة ويتمنى أن يحظى بمثلها ولو ليوم، ويطلب من بعض ناخبيه التصويت له مرة واحدة لن يحتاجوا للذهاب إلى الانتخابات بعدها.
في أجندتَي حق الفلسطنيين في تقرير مصيرهم تجاه المحتل الإسرائيلي، وحقوق الإنسان العربي المنتهكة من أنظمته الحاكمة المستبدة والمدعومة غربيًا، هناك شرّان ومرشحان سيئان، لكن إن كان لا بد من الاختيار بينهما فالأقل سوءًا واضح بلا شك وبكل أسف.
التصويت لمرشح مستقل!
الذين يصوتون في الانتخابات الأمريكية المختلفة لا يملكون رفاهية الامتناع عن التصويت أو اختيار مرشح ثالث، لأن حظه في الفوز بأي منصب ولو محلي معدومة. لم تشهد الولايات المتحدة منذ عام 1853 رئيسًا من خارج الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
حين ظهر الملياردير روس بيرو كمرشح مستقل قوي أقرب إلى اليمين في انتخابات 1992، حصل على أعلى نسبة تصويت لمرشح مستقل في انتخابات الرئاسة وكانت قرابة 19% من الأصوات، خَصمًا من أصوات جورج بوش الأب، ليفشل في الفوز برئاسة ثانية.
عدم التصويت للمرشح الديمقراطي بالمقاطعة أو بدعم مرشح مستقل، هو ما يريده ترامب بالتحديد
وفي انتخابات 2000 التي نافس فيها جورج بوش الابن المرشح الديمقراطي آل جور، خسر الأخير بفارق أقل من 600 صوت بولاية فلوريدا، حصدها المرشح المستقل رالف نادر المعروف بدفاعه عن حقوق المستهلكين والقريب من يسار الحزب الديمقراطي، فعادت عائلة بوش للحكم مع ديك تشيني ورفاقه من المحافظين/المحاربين الجدد!
في انتخابات هذا العام لا توجد وجوه مستقلة بارزة. انسحب أبرز المرشحين المستقلين؛ روبرت كنيدي الابن الذي كان ديمقراطيًا كوالده وعمه الرئيس كنيدي لكنه تحوّل يمينًا، عندما قرر الأسبوع الماضي وقف حملته وتزكية ترامب.
بقي مرشحان أقل حظًا بكثير وغير معروفين على المستوى القومي والإعلامي الأمريكي، لأفكارهما "اليسارية المتطرفة" بمعيار رجل الشارع الأمريكي، لا بمعايير ترامب التي تعتبر هاريس ماركسية، وهما الأمريكية اليهودية جيل ستاين، والمفكر الأمريكي/الإفريقي كورنيل ويست. يتبنى كلاهما خطابًا ومبادئ جديرة بالإعجاب العربي، من حيث رفض العنصرية والإمبريالية واحتكارات الرأسمالية. وكلاهما مع إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحق تقرير المصير للفلسطينيين.
قطاع من جمعيات العرب الأمريكيين خصوصًا في ولاية ميشيجان يدعم شتاين والآخر ويست، كتقدير لمواقفهما المبدئية وردًا على عدم تجاوب الحزب الديمقراطي مع مطالبهم وآخرها السماح لممثليهم بالحديث في مؤتمر ترشيح هاريس. ولكنه يبقى تصويتًا احتجاجيًا وعقابيًا دون أي أمل في تحقيق أي شيء.
تهديدات ترامب للجميع
يواجه عرب ومسلمو أمريكا تهديدات من ترامب الذي توعد بترحيل الكثيرين ممن شاركوا في التظاهرات ضد إسرائيل، ممن يسميهم "أنصار حماس"، ووعد بإعادة العمل بسياساته الخاصة بمنع دخول مواطني عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة التي يراها إرهابية، بجانب الكثير من الخطط اليمينية التي تمس المهاجرين وحقوق الأقليات.
بالتالي، يمكن تفهم غضب الناخب العربي الأمريكي من سياسات إدارة بايدن وهاريس بترك إسرائيل تفعل ما تشاء خوفًا من تأثير اللوبي الصهيوني، واكتفائها ببعض المراعاة اللفظية للناخبين العرب في ميشيجان حيث تجعلهم كثافتهم مؤثرين انتخابيًا، باعتبار ذلك أفضل ما قد يحصلون عليه بالنظر إلى طبيعة البديل.
التصويت العقابي يضر صاحبه
لكن المعضلة أن عدم التصويت للمرشح الديمقراطي بعدم الذهاب أو بدعم مرشح مستقل متعاطف، هو ما يريده ترامب بالتحديد.
يجب أن يتعلم الأمريكيون العرب من تجربة اليهود الأمريكيين مع حزبهم الديمقراطي، الذي كان الأقرب لهم حين كانوا فقراء ومستضعفين. لقد أيدوا هذا الحزب رغم أن رئيسه لأطول فترة رئاسة في التاريخ الأمريكي، فرانكلين روزفلت، لم يسمح في بداية الحرب العالمية الثانية لسفن اللاجئين اليهود الفارين من أهوال النازية بالرسو في أمريكا وأعاد الكثير منها. لكنهم واصلوا التصويت لحزبه حتى أتى إليهم هاري ترومان الذي اعترف بدولتهم في ساعاتها الأولى.
حتى لو خسر هذا الجيل جولاته الحالية مع حزب الأقليات الديمقراطي فيما يتعلق بفلسطين، فعليه أن يواصل نضاله مع الحزب الذي يحترم حرياته الداخلية ولا يتعقبه كلاجئ أو متظاهر، حتى يأتي جيل جديد يتقن قواعد اللعبة السياسية ويدرك رجال أعماله أن التبرع للحملات الانتخابية استثمار طويل الأمد.
الحل لن يكون انفعاليًا بمعاقبة ذويك ولا بتمكين القراصنة بالعودة ونهب مدينتك، لأن رفاق المدينة أهملوا استغاثتك ولم يلتفتوا إليك.