لم تكتفِ إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية بالاستعانة بشرطة نيويورك للمرة الثالثة منذ بدء الحرب في غزة، لمداهمة مباني الجامعة وفض اعتصام الطلاب المؤيدين للفلسطينيين، والقبض على بعضهم، بل طلبت رئيسة الجامعة بقاء الشرطة داخل الحرم الجامعي حتى تنتهي حفلات التخرج منتصف الشهر الجاري.
ليست الشرطة وحدها من دخل جامعة كولومبيا، فقبل يومين من الاقتحام الأخير، ذهب الجمهوري مايك جونسون، رئيس مجلس النواب، ودعا إلى الشدة والحزم في فض الاعتصام والمظاهرات الطلابية.
ولعل الدعم الذي يحصل عليه الجمهوري جونسون من الديمقراطيين في الكونجرس مثير للاستغراب ولافت، بعد أن مرَّر كلَّ مطالب الإدارة الديمقراطية، رغم تحفظات نواب حزبه من الجمهوريين، بتقديم 90 مليار دولار طلبها بايدن لدعم إسرائيل وأوكرانيا، في قرار شمل أيضًا حظر تطبيق تيك توك في أمريكا، إن لم يُبَع لأمريكيين لضمان التحكم فيه. وتيك توك هو التطبيق الذي يتعرض فيه المؤيدون للفلسطينيين لأقل قدر من الرقابة والحجب.
بالتالي، يقف الآن زعماء الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب مع رئيس المجلس الجمهوري، يوحدهم دعم جماعة الضغط السياسية الموالية لإسرائيل إيباك، يستوي في ذلك الزعيم الجمهوري جونسون وزعيم الأقلية الديمقراطية حكيم جيفريز.
نفس اللغة والاتهامات التي وجهها الجمهوريون والديمقراطيون في الكونجرس لمظاهرات طلاب الجامعات الأمريكية، بمعاداة اليهود والسامية، استخدمها قبلهم بيبي نتنياهو، الذي دعا أيضًا إلى اتخاذ "إجراءات قوية" ضدهم.
ورغم تصدّر الناشطين اليهود المعادين للصهيونية الاحتجاجات ضد حرب غزة في الولايات المتحدة، ورغم أن أول جمعيتين حظرت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق نشاطهما في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كانتا جمعية "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" و"الصوت اليهودي من أجل السلام"، لا يزال أغلب السياسيين ومعلقي وسائل الإعلام الأمريكية، وكذلك رئيسة الجامعة، يدَّعون بأنَّ المظاهرات "معادية للسامية" وتعرض سلامة الطلاب اليهود للخطر. بجانب ادعائهم أنَّ شعارات مثل "من النهر إلى البحر" تؤذي مشاعرهم وتعني الرغبة في القضاء على كلِّ اليهود.
وللمفارقة، جاء الرد الأقوى على سردية نتنياهو، وجماعات الضغط التي تخدمه ويمتثل لها أغلب الساسة الأمريكيين، من السيناتور الديمقراطي اليهودي بيرني ساندرز، الذي أكد أنَّ إعلان رفض تدمير حكومة نتنياهو لقطاع غزة وقتل أكثر من 33 ألف فلسطيني، ليس كراهية لليهود أو معاداة للسامية.
ليست فيتنام.. بل أسوأ
هذا الزخم الكبير الذي خلقته موجة الاحتجاجات الطلابية الحالية، استدعى إلى الأذهان المقارنة مع مظاهرات الجامعات الأمريكية ضد حرب فيتنام في أواخر الستينيات. ولكنَّ المعركة هذه المرة، رغم التشابه بين المشهدين، مختلفة مع تغيّر ظروف عملية صنع القرار الأمريكي في العقود الستة التي تفصل الحراكين، وهو فارق ليس في مصلحة الحراك الطلابيّ الحالي.
يواجه الطلاب اليوم أخطبوط قوى خارجية غاشمة لا يعنيها في حقيقة الأمر منطق القيم أو حتى المصالح الداخلية الأمريكية، بل ما تمليه عليها جماعات الضغط والمصالح، التي تلعب على الانقسام المجتمعي والسياسي القائم لتعميقه وابتزاز كل طرف، لتعظيم مصالحها الخارجية فقط!
لم تكن مظاهرات الطلبة في جامعات النخبة الأمريكية، عند بدايتها في الخمسينيات ضد القيود المفروضة على النشاط السياسي في الجامعات، مقبولة شعبيًا، وسط أجواء المكارثية وتشريعات الكونجرس المناهضة لأيِّ أفكار يسارية أو ليبرالية وتحررية، بدعوى أنها أنشطة شيوعية تهدد الأمن القومي الأمريكي.
وفي الستينيات، كانت مظاهرات الطلاب ضد حرب فيتنام تُواجَه بتشكيك في وطنية المتظاهرين ضد بلدهم، في الوقت الذي تخوض فيه حربًا فقدت خلالها خمسين ألف جندي. ولكن في الوقت نفسه، فإنَّ هذه المظاهرات مسَّت بشكل شخصي قطاعًا آخر، يرفض التجنيد الإجباري لمليون ونصف المليون شاب أمريكي، وإرسالهم لحرب بعيدة لم يقتنعوا بجدواها، ولا هي تشكل تهديدًا مباشرًا لبلدهم.
ورغم ذلك، لم يتَّسع التعاطف الشعبي مع الطلاب المتظاهرين ضد الحرب إلا بعد المواجهة الدموية في جامعة كنت في ولاية أوهايو، عندما فتحت قوات الحرس الوطني النار على الطلاب لفض مظاهراتهم في مايو/أيار 1970، ما أدى لمقتل أربعة طلاب وإصابة تسعة.
ومثلما انخرط الطلاب الأمريكيون خلال الخمسينيات والستينيات في حركة الحقوق المدنية للمساواة بين السود والبيض, وإنهاء رواسب الفصل العنصري في بعض ولايات الجنوب، خاضوا، وبالذات في جامعة كولومبيا، في منتصف الثمانينيات حركة احتجاجية لإجبار جامعاتهم على مقاطعة حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وسحب استثمارات الجامعة في الشركات المتعاملة مع نظام الأبارتايد.
وهو ما تحقق بالفعل وأذعنت الجامعة لمطالبهم بعد اعتصام استمر شهرًا، سيطر فيه الطلاب على أحد مباني الإدارة.
التشكيك في قادة اليوم
من جامعات كولومبيا وبراون وييل في الشمال الأمريكي إلى جامعة إموري بولاية جورجيا وأوستن تكساس بالجنوب الأمريكي، تتردد اتهامات الشرطة ومسؤولي إدارات الجامعات ومُشرِّعي الكونجرس الموالين لإسرائيل، بأنَّ محرضين من الخارج يقفون خلف إثارة المظاهرات.
وهم يتركون تعبير "الخارج" مفتوحًا، ليحتمل أن يكون هؤلاء من خارج الجامعة، أي من غير الطلاب والأساتذة، كما يحتمل أيضًا التلميح بأنهم أجانب، مستغلين في ذلك الأسماء العربية لبعض الطلبة، وحجاب بعض الطالبات.
بالتالي، ذهب عدد من النواب والشيوخ المحرضين في الكونجرس في مطالبهم إلى وزراء العدل والأمن الوطني والتعليم، إلى التحقق من هوية المتظاهرين، ومراجعة تأشيرات إقامة الطلاب الأجانب، وترحيل من شارك منهم في تلك المظاهرات التي اعتبروها "معادية للسامية".
هذه المطالب يتفق عليها في الكونجرس أغلبية الديمقراطيين والجمهوريين من أصدقاء اللوبي الإسرائيلي ومتلقي تبرعاته ودعمه في الانتخابات. بينما ينتقد الجمهوريون وحدهم الرئيس بايدن لأنه لم يتدخل لحماية الطلاب اليهود من شعارات المتظاهرين، وهم يعلمون أنَّ أغلب مؤيدي الحركة الاحتجاجية محسوبون على الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، وهو الجناح الذي فقد بايدن دعمه بسبب مساندته لإسرائيل في حربها الوحشية في غزة.
أما المرشح الجمهوري الوحيد المنتظر دونالد ترامب، فلا يترك فرصة بين جلسات محاكماته في نيويورك إلا وينتقد فشل وضعف إدارة بايدن في التعامل مع مظاهرات الجامعات، وفي دعم إسرائيل. وعاد الحديث عن خطط ترامب الانتقامية حين يصل مرة ثانية للرئاسة، ومنها عمليات اعتقال وترحيل للمهاجرين غير الشرعيين، وتعقب المحرضين "الداعمين لحماس" وطردهم من أمريكا، حتى وإن كانوا أمريكيين، وإعادة منع دخول مسلمي عدة دول إلى أمريكا.
مستقبل الحراك الطلابي
يأمل مؤيدو إسرائيل أن ينحسر زخم المظاهرات مع نهاية العام الجامعي هذا الشهر، ويتجلى ذلك في طلب رئيسة جامعة كولومبيا من الشرطة، بعد فضهم الاعتصام الأخير، البقاء داخل حرم الجامعة لحمايته من اعتصام آخر حتى يمر يومان بعد احتفالات التخرج في 15 مايو الجاري.
ومع أنَّ قادة ومنظمي الحراك الطلابي حافظوا على زخمه خلال الإجازة الشتوية في ديسمبر/كانون الأول الماضي وحتى رأس السنة، مستفيدين من نقمة الطلاب على تصريحات رئيسة الجامعة أمام الكونجرس، فإنَّ الموجة قد تنكسر بعد لجوء الجامعات لحكام الولايات المعادين للمهاجرين، وتحويل الحراك الطلابي إلى "عمل أجنبي"، وانحياز الإعلام الموالي لإسرائيل ضد المتظاهرين، بجانب التشريعات التي يعدها الكونجرس مع تحريض وزارات الدولة ضد الطلاب العرب والمسلمين والأجانب الناشطين في تلك الجامعات، دون تسميتهم أو تعريفهم بذلك.
لكنَّ الأهم من استمرار المظاهرات لعام جامعي آخر، هو أنَّ هذا الحراك فتح الباب ليتجرأ قطاع من الأمريكيين، ولو في قاعات وساحات الجامعات وعلى السوشيال ميديا، لمناقشة وتقييم وانتقاد السياسة الإسرائيلية ودعم حكومتهم لها، وخصوصًا اليمين الإسرائيلي الذي لا يؤيده عقائديًا إلا اليمين الأمريكي.
هذا الحوار تأخر كثيرًا، بعد أنَّ ظلَّ غائبًا خشية كهنوت "معاداة السامية"، كما أنه كشف دور اللوبي الصهيوني في تحريض مؤسسات بلد ضد شبابه. لكنَّ هذه المواجهة شجعت كثيرين، ولو بعد حين، على انتقاد إسرائيل ومناقشة سطوة اللوبي المؤيد لها، مع كشف عدائه السافر للحركات الاحتجاجية في مدن وجامعات أمريكا، التي عوَّدنا شبابها على أنه متقدم بأفكاره بسنوات عن مجتمعه المحافظ.