مع تصاعد وتيرة المظاهرات والاعتصامات المؤيدة لفلسطين في جامعات الولايات المتحدة وأوروبا، ينبض قلب العالم من جديد، وينبعث الأمل الغائب مرة أخرى، بأن تكون هناك إمكانية، ولو بسيطة، لصياغة جديدة للعدالة، وجدوى من استحقاق بقائنا على الأرض، وألَّا نكره أنفسنا لدرجة اللا عودة، فهناك من يرفع الحرج عنَّا؛ هذا الهامش الطلابي الذي يمثل الصوت الغائب من العالم.
مهما استلبت حياتنا موجات الاستهلاك والتغييب، مرة واحدة يرتد العالم ويستعيد هذا القلب الذي نسيه، حصيلة الاستعادات الاضطرارية والانتفاضات المفاجئة، والرغبة في حياة أفضل.
كلما تقادم الزمن انبثق هذا القلب من الظلام.
هذه المرة يبزغ هذا القلب وسط سماء العالم الأول، المتقدم، والمستغِل والمستعمِر، فيكتسب نزاهة الإخلاص النقي للقضية، بغض النظر عن مصلحته أو مدى تضرره منها.
في أوقات الأزمات هناك دائمًا من يمثِّل هذا الجزء النقيَّ من الحياة ومن الخيال، ويتحدث بعمق وصفاء هذا الصوت الغائب.
بالطبع لا يوجد زمن محدد ولد فيه هذا القلب، ربما يتخطى مفهوم الزمن، ويصبح من أساسات الوجود والبقاء التي لا تحتاج لتأصيل، ربما كونه جزءًا فاعلًا وأصلًا نقيًا من أصول الحياة نفسها، تمامًا مثل مقاومتنا للموت وتشبثنا بالحياة، قبل خلط الأوراق وتشابك المصالح، وجر الحياة من عنقها باتجاه مسلمة البقاء للأقوى، وتسليمنا لها.
دائرة القداسة حول رؤوس الطلبة
دائمًا تحوط الطلبة هذه الدائرة من القداسة، كونهم يحتفظون داخل أعمارهم بهذا الحد من إنكار الذات والمجازفة، والنقاء والرغبة في قلب الطاولة على الجميع. يرصدون قبل غيرهم إشارات عودة هذا القلب، فيُلبُّون سريعًا هذا النداء الخفيّ الذي يأتي من عمق التاريخ، فلا تزال لهم حاجة في الدنيا يجب أن يقضوها.
حديثًا، كانت استعادة هذا القلب بعد حرب فيتنام، عبر ثورة الطلبة في 1968 في فرنسا، ومنها امتدت لباقي جامعات وساحات العالم، التي ستمتلئ بالمتاريس وقنابل الدخان، هذا الصراع القديم الذي يصاحب دائمًا ولادة هذا النوع النقي والمترفع من الرفض.
كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أحد المشاركين في ثورة الطلبة مايو 68 "لم تكن فسحة للخيال بل كانت جرعة للواقعيّة".
فهذه الثورة الاستثناء، ليست في حقيقتها استثناءً، حتى ولو كان زمنها قصيرًا، بل هي ما يجب أن يكون عليه الواقع. العيش لأيام في ظل هذا القانون الآخر، الغائب دومًا عن التمثيل، ولكنه جاهز دائمًا ليفاجئنا وينبثق من قلب الظلام، كإحدى ممارسات وتجليات مكر التاريخ.
كلُّ استثناء يخرج عن المعتاد، ويجري في مجرى الزمن، ويتشكل مثاله بالإرادة التي ولَّدته، ويتناسل بطريقته عبر رغبته الدفينة في المساهمة في تشكيل الحياة.
انقسم العالم إلى جبهتين: الحكومات من ناحية، وهذا الصوت الشاب الرافض من ناحية أخرى، الذي أصبح يمثل إحدى كفتي الميزان. ما كان يشغل هذا الصوت الهامشي هذا المكان والمكانة المهمة، أو يجذب إليه الأضواء ورجال الشرطة؛ لولا أنَّ التواطؤ حول قضية فلسطين وصل لدرجته القصوى والمفصلية.
في مسرحية الزنوج للكاتب الفرنسي جان جينيه التي تناقش مفهوم العنصرية، وتحاكم نظرة الرجل الأبيض العنصرية للزنوج، كان اقتراحه، بجانب أن يؤدي المسرحية ممثلون ذوو بشرة سوداء، أن يكون من بين المتفرجين "ولو شخص واحد أبيض تُسلَّط عليه الأضواء"، كونه المعنيَّ بهذه الرسالة، وإن لم يكن هناك رجل أبيض فيمكن طلاء وجه رجل أسود بالأبيض، أو وضع دمية بيضاء تملأ هذا المكان الرمزي الذي يمثل الطرف الآخر من أي معادلة للحياة، وبدونه تتجمد الإشارات وتموت الحياة.
داخل هذا الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات التي تملأ ساحات البلدان يجتمع في تجلط تاريخي نادر الطرف الآخر، الذي ظل مكانه شاغرًا منذ عقود التحرر في الستينيات.
رجعوا التلامذة يا عم حمزة
قابلت العديد من جيل مايو 68 في فرنسا، بعدما دخلت مجتمعاتهم في حزام الاستهلاك والاستسلام للأمر الواقع. كان أغلبهم يطلقون ذقونًا طويلة بيضاء، كأنهم يخبئون داخلها شفرة التحرر الذي لا يموت، بجانب نبرة انكسار واضحة وندم على أنَّ ما فعلوه لم يكتمل.
ربما هذا الاستثناء الثوري، أو شديد الواقعية بتعبير جيل دولوز، الذي فاق الخيال، لن يكتمل في يوم من الأيام.
دائمًا أيُّ استثناء يطرأ على حياتنا يعقبه ندم، ربما لأنه يشكل حلمًا أعمق من كل لحظاتنا جدارة، فالندم ليس مشروطًا بعدم الاكتمال، لكنه أحد أعراض التمرد.
قابلت أيضًا كثيرين من أبناء الحركة الطلابية المصرية في 72، الذين غنى لهم الشيخ إمام "رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني". دائمًا ما ينظرون للخلف بغضب وسخرية بحثًا عن ذلك الأمل الضائع، وذلك الوهم الذي سرعان ما تبددت جرعة السعادة الناتجة عنه، وعادوا لواقع أكثر سوداوية.
الثورات والاحتجاجات أرزاق. هناك مسافة بين الماضي الذي ينظر إليه أبناء جيل 68 في فرنسا والعالم، والماضي الذي ينظر إليه أبناء جيل الحركة الطلابية في مصر 72. ولكنَّ الباعث كان واحدًا، والرغبة في استعادة هذا القلب المنسي وانتزاعه من الظلام كان هو الهدف.
يحتاج الحاضر دومًا للخروج عنه، وعدم الاستسلام لعدميته. فخلف هذا الحاضر يعيش حاضر آخر خالد لا يموت، تؤبِّده رغبة التحرر بكل ما تحمله من قوة وأصالة. زمن الثورات لا يشتغل على المستقبل، بل على هذا الحاضر الخفي. وكلما اشتد الحاضر اغترابًا، زادت الحاجة لبعث هذا القلب الكوني من الظلام.
بوح جسدي جماعي
ربما تحمل اعتصامات طلاب أمريكا وأوروبا في جانب منها شكل الاحتفال، ولكنه شبيه بالاحتفال الكرنفالي، كما وصفه الناقد الروسي باختين، الذي يتضمن ضمن طقوسه الحميمية بين ممارسيه، وتنقلب لفترة استثنائية الأوضاع السلطوية وتنفتح فيه الأنفس وتعرض كلَّ ما هو غريب بداخلها كنوع من البوح والكشف، فالاعتصامات نوع من البوح الجسدي الجماعي.
يكتب أحد شهود ثورة الطلبة في مايو 68 في يومياته(*) "صارت جدران الحي اللاتيني مستودعًا للعقليّة الجديدة، لم تعد قاصرة على الكُتب، بل صارت معروضة بطريقة ديموقراطيّة على مستوى الشّارع ومتاحة للجميع. تآخى ما هو سطحي مع العميق، التقليدي مع ما كان مقتصرًا على الصالونات، ليحطّموا سريعًا الحواجز الجامدة والمقاصير في أدمغة الناس".
لا يزال داخل هذا الحاضر الخالد مساحة للتعبير واقتراح أشكال جديدة لاختيارات الحياة.
إنقاذ معنى الحياة
ربما أهم ما تشير إليه هذه الاعتصامات الطلابية، بجانب السر المدفون في العمر الشبابي؛ حالة الجماعية، مثلما تتقارب الخلايا البيضاء للدفاع عن الجسم الإنساني أمام أعدائه، فالجماعة وصورة المجتمع الآن لا تتكون إلا في كونها في حالة دفاع عن هذا الجسم الإنساني ضد الموت المحدق به.
هذه الروابط الدفاعية بين أعضاء هذا الهامش العالمي ستطرح مستقبلًا سبلًا للعيش تتعارض مع السياق العام شديد السلطوية والاستلاب، ربما من خلالها ستتحقق صيغ جماعية جديدة لممارسة الحياة فيما بينها. خلايا فكرية تنتشر في بقاع الأرض، بعد أن تنفضَّ الاعتصامات آجلًا أم عاجلًا، وينحت كل فريق معها تمثال الأمل الذي نحلم به جميعًا.
كلُّ ما يحدث إشارة على ولادة أو بعث قلب جديد للعالم.
هذا الميلاد، كالتاريخ، ليست هناك حدود واضحة بين أزمنته، بين موت وحياة، وإنما تداخل وامتزاج مستمران، حتى تتضح الرؤية ويظهر العالم الجديد المؤقت والمرتجل وشديد الواقعية بتعبير جيل دولوز، الذي ستكون من أهم سماته استعادة هذا الصوت الآخر داخله.
كلُّ هذه الاحتجاجات، على اختلافها، تنقذ معنى الحياة وليس قضية فلسطين فحسب.
كل هؤلاء الطلاب يحملون رغبات جامحة ضد المجتمع والرأسمالية والأنظمة التي يعيشون في كنفها ويبحثون عن مجتمع أفضل يسع أحلامهم، كما يشير الفيلسوف جيل دولوز وفيلكس جوتاري عالم النفس في كتابهما ضد أوديب. فالفصاميون المعاصرون هم فنانون ومفكرون ثوريون ومتمردون حالمون، يتمردون على مجتمعهم الرأسمالي باسم الرغبة.
هذا الاحتجاج والتمرد الجماعي أحد تجسُّدات هذه الرغبة الجماعية التي لا تُوجه فقط، كما يشير فرويد، إلى "عقدة أوديب" المنحصرة ضمن المثلث الشهير (الأب - الأم - الابن)، بل توجه مباشرة إلى المجتمع كماكينة لا شعور كبيرة، تدور فيها رغباتنا وأحلامنا مع لا شعورنا المكبوت.
يصبح هذا المجتمع الكبير موضوع الرغبة، من أجل تغييره ورفض استلابه للفرد، الذي يؤدي به إلى الشعور بالفصام. فما يحدث الآن ليس موجهًا فقط ضد ممارسات إسرائيل ومع فلسطين، بل أيضًا لإنقاذ هذه الذوات التي تاهت رغبتها وأصبحت سجينة العيادات النفسية والاستهلاك والجنس والفضاء الافتراضي.