قطعت بسيارتي الأسبوع الماضي مع زوجتي ألف كيلومتر، من واشنطن العاصمة إلى مدينة ديترويت في ولاية ميتشجان، ذهابًا وإيابًا، لحضور تجمع داعم لفلسطين، شبابي في أغلبه. وهي رحلة أعادت لي أملًا كدت أفقده في مستقبل العمل الجماهيري التنظيمي للعرب في الولايات المتحدة، وقدرتهم على التأثير السياسي ولو بعد حين.
نحو 3500 شخص شاركوا في هذا التجمع الذي استضافه مقر المؤتمرات في ديترويت، تحت اسم "مؤتمر الشعب من أجل فلسطين" ونظمته "حركة الشباب الفلسطيني"، وضم العديد من منظمي الحراك الطلابي من اعتصامات ومظاهرات الجامعات الأمريكية، واستضاف ناشطين ومشاركين، من الحراك الطلابي ومن خارجه، في الاحتجاجات ضد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع المحتلين.
وكان من أبرز هؤلاء الحلفاء، العديد من النشطاء اليهود الأمريكيين، سواء من المعادين للحركة الاستعمارية الصهيونية، أو دعاة العدالة والسلام. ومعهم كذلك ناشطات من حركات نسوية ونشطاء من بعض جمعيات السود الأمريكيين، ومتظاهرون مخضرمون من اليسار الأمريكي والحراك الطلابي، عاصر بعضهم حرب فيتنام واحتجَّ عليها، ويواصل كثيرون منهم الاحتجاج على تأثير أصحاب المال وصناعة السلاح في العملية الانتخابية الأمريكية.
شيء مفرح أن يكون منظمو هذا المؤتمر الضخم ومقدمو ضيوفه ومتحدثيه شبابًا في أوائل عشريناتهم، وقد تعودت في مؤتمرات المنظمات العربية في أمريكا، التي كثيرًا ما حضرت فعالياتها طوال عقود، على فئات عمرية تتراوح من الخمسين حتى السبعين من العمر!
جاء إلى المؤتمر في ديترويت بعض آباء وأمهات شباب الحراك الطلابي، من الفخورين بما حققه أبناؤهم، رغم مخاوف الأهل التي حملوها من عالمنا العربي من ممارسة السياسة، لكنهم وجدوا في استقلالية وعناد ومثالية الصغار ما يستحق الدعم، بعد أن اعترف العالم بوقفة أبنائهم وبناتهم، وإنجازهم الذي لم يتمكنوا هم من تحقيقه في بلادهم الأصلية أو حتى بلاد المهجر، وهم يكافحون من أجل لقمة العيش و"الاستقرار"!
حراك بين الأسطورة ونفيها
ما حرّك العرب لبدء تنظيم أنفسهم في الولايات المتحدة، كان أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر"، بعد انتصارها في حرب 1967، واحتلالها في ستة أيام ما بقي من فلسطين التاريخية، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بالإضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية!
أما الحراك السياسي الثاني والأقوى لعرب أمريكا فهو الحراك الشبابي الحالي، الذي جاء ردًا على تكذيب أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر"، في أحداث طوفان الأقصى الذي قهر بسهولة الجيش الإسرائيلي، ليس فقط بميليشيات مقاومة دون حاجة إلى جيوش عربية وتسليح من القوى العظمى، بل وبالقدرة على الاستمرار في القتال لأكثر من ثمانية أشهر.
في بداية التسعينيات مع نهاية الحرب الباردة وانطلاق أوسلو انحسر نشاط ونفوذ أقطاب العرب الأمريكيين
جاء الحراك التنظيمي الأول عقب هزيمة يونيو/حزيران وإحباط المواطن العربي من جدوى المنظومة العربية الحاكمة، ليحاول التغيير من الخارج بالتوعية بالقضية الفلسطينية ومحوريتها في الصراع العربي الإسرائيلي، حتى لا يتحول إلى مجرد معركة أخرى بالوكالة ضمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مع بدء تسليم إسرائيل المسؤولية الوظيفية الكاملة لرجل شرطة الغرب، المكلّف بحماية مصالحه في المنطقة.
من أبرز الأسماء في تنظيم الجمعيات المدافعة عن القضية الفلسطينية والحقوق العربية في أمريكا، الأستاذ الجامعي الأمريكي من أصول فلسطينية إبراهيم أبو لغد (1929-2001) الذي أسس عام 1968 جمعية خريجي الجامعات من العرب الأمريكيين (AAUG)، بالمشاركة مع المحامي الأمريكي من أصل لبناني عابدين جبارة (84 سنة)، الذي شارك بعد ذلك عام 1980 في تأسيس ورئاسة اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز (ADC)، بدعم من السيناتور العربي الأمريكي جيمس أبو رزق (1931- 2023).
وضعت الجمعية الأولى للعرب من خريجي الجامعات الأمريكية الأساس لتنظيم عمل الناشطين سياسيًا في مواجهة جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، التي كانت سبّاقة في نشاطها الصهيوني حتى قبل قيام دولتهم عام 1948 بما لا يقل عن ربع قرن.
لفت هذا التنظيم والنشاط السياسي أنظار أجهزة الأمن الأمريكية ومن بينها المباحث الفيدرالية، لتتبعهم ومراقبتهم، سواء بذريعة الخطر الشيوعي خلال الحرب الباردة، أو التوجهات القومية المناهضة للسياسات الخارجية الأمريكية التي لم تعُد تُخفي تحالفها مع إسرائيل بعد انتصارها الساحق على الجيوش العربية، وتحطيم التهديد الناصري للأنظمة العربية الصديقة لأمريكا آنذاك.
بلغت هذه المنظمات ذروتها بعد منتصف السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، بعد أن اتسعت قواعدها الجماهيرية واعتزازها بانتصار أكتوبر، كما بدأت بعض الدول العربية بعد تحسن مدخولاتها النفطية في دعم تلك الجمعيات، خصوصًا فيما يتعلق بالقضايا القومية المشتركة.
سنوات الهزائم والانحسار
لكنَّ غزو العراق للكويت والانقسام العربي بشأن التدخل العسكري الأمريكي ضد العراق 1991، كان بداية النهاية للعديد من تلك التنظيمات، سواء لقطع التمويل الخليجي عن بعضها القومي الذي عارض التدخل العسكري الأمريكي، أو الانقسام في الرأي والانتماء القُطري بين ناشطيها من أبناء الجاليات العربية المشاركة في العمل التنظيمي.
وفي بداية التسعينيات، مع نهاية الحرب الباردة وحرب العراق الأولى، ثم بدء عملية أوسلو التي أدت لانقسام آخر بين الفلسطينيين أنفسهم، انحسر نشاط ونفوذ أقطاب العرب الأمريكيين الذين قادوا الحراك السياسي الأول لخريجي الجامعات الأمريكية. ومع احتضار جمعياتهم، تنامى نشاط وشعبية لجمعيات المسلمين الأمريكيين، خصوصًا تلك التي دعمها الجمهوريون من أصدقاء دول الخليج مثل الرئيس بوش الأب، وأصبحت دول الخليج تدعم الإسلاميين بدلًا من القوميين منهم.
لكنَّ أحداث 11 سبتمبر ثم حرب العراق الثانية أنهت الدعم السعودي الأكبر لتلك الجمعيات، وانقلب بوش الابن على الجمعيات الإسلامية التي رحب بها أبوه، بينما انشغل العرب الأمريكيون عن القضية الفلسطينية بالدفاع عن حياتهم وأسرهم ضد موجة العداء العاتية نحوهم، التي وجدت فيها المنظمات الصهيونية ستارًا لتعقب أي نشاط سياسي لجمعيات العرب الأمريكيين، التي تضاءلت أعداد أعضائها وانحسر نشاطها حتى اقتصر على أمسيات ثقافية وبيانات سياسية لا يقرأها أحد.
ظل الأمر على هذا النحو، إلى أن بدأ الحراك الثاني والأهم للشباب العرب في الولايات المتحدة من أجل فلسطين، الذي يواجه تحديات كثيرة، لكن هذه قصة أحكيها في المقال القادم، عمّا حدث في ديترويت.