قرن كيسنجر.. سياسة وتاريخ وجرائم حرب
إذا كان هناك شخص واحد فقط يمكن اعتباره رمزًا للسياسة الخارجية الأمريكية منذ بدء الحرب الباردة حتى اليوم، فعلى الأغلب سيكون هاينز كيسنجر؛ ذلك الصبي اليهودي الألماني الذي ترك ألمانيا عام 1938، أي قبل عام من الحرب العالمية الثانية، ليستقر في نيويورك ويغيِّر اسمه إلى هنري، ويتشكل وعيه السياسي والعسكري في المرحلة التي أصبحت خلالها الولايات المتحدة إحدى القوتين العظميين في العالم.
في السنوات الأكثر سخونة في الحرب الباردة، كان كيسنجر أحد أبرز من صاغوا السياسة الخارجية الأمريكية؛ سواء على الجبهة الفيتنامية وآسيا، أو في أمريكا اللاتينية، وفي الشرق الأوسط بطبيعة الحال. في الفترة نفسها أيضًا تحول كيسنجر إلى عراب العلاقة مع الصين، وهو ما استمر حتى رحيله.
وبعد خروجه من البيت الأبيض حيث قضى نحو عشر سنوات. ظلَّ إرثه السياسيُّ باقيًا، رغم اختلاف توجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتغيِّر شكل العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، والانتقال إلى الحرب على الإرهاب.
من المؤكد أن سنوات الصبي هاينز في ألمانيا، التي شهدت صعودًا لهتلر وحزبه للسلطة، تركت أثرًا في أسلوبه ونظرته للملفات السياسية التي عمل عليها خلال سنوات خدمته في البيت الأبيض. حتى بعد أن أمضى 85 عامًا من حياته في الولايات المتحدة، ظلت لكنته الألمانية ظاهرة في نطقه الإنجليزية.
وبينما احتفظ هاينز بلكنته، تخلَّى عن اسمه وغيَّره إلى هنري، لكنَّه ظلَّ دون جنسية لخمس سنوات، إلى أن منحته مشاركة الولايات المتحدة رسميًا في الحرب حقَّ المواطنة، عندما استُدعي عام 1943 للتجنيد.
وبسبب إتقانه الألمانية، خدم الشاب هنري جنديًا في وحدة للاستخبارات العسكرية. لم تكن خدمته في الخطوط الخلفية للقتال أو لأداء مهام مكتبية، بل شارك في معركة الأردين في الجبهة الغربية، وهي آخر هجوم ألماني كبير خلال الحرب، استمرَّ خمسة أسابيع وقاتل فيه أكثر من مليون جندي من فيالق الجيوش الأمريكية والبريطانية والنازية.
وعلى الرغم من أنه لسنوات لم يتحدث عن تجربته في تحرير من تبقوا من اليهود المحتجزين في معسكر اعتقال "آهلم" في أبريل/نيسان 1945، الذي وصفه جندي أمريكي بأنه "الجحيم على الأرض"، فإن هذه التجربة تركت أثرًا غائرًا في نفسه. عمقت مشاهداته في "آهلم" شعوره بالولاء نحو جذوره العائلية اليهودية، ولكن في الوقت ذاته، لم تجعله هذه التجربة حريصًا على حماية حقوق الإنسان في البلدان التي تحالف مع أنظمتها القمعية، عندما أصبح المسؤول الأول عن السياسة الخارجية الأمريكية بعد سنوات.
السقوط في "الواقعية"
عندما هرب هاينز مع أبويه وأخيه الأصغر إلى نيويورك، أدرك مبكرًا أهمية القوة والقدرة على استعراض أثرها كأداة لتحقيق مصالح الدول السياسية، ما انعكس في عمله الأكاديمي بعد الحرب العالمية الثانية، بل واعتبرها أساسًا نظريًا لعمله السياسي لاحقًا.
فبالإضافة إلى تاريخه العسكرية، كانت مسيرته الأكاديمية التي ضمَّت كتبًا مثل الأسلحة النووية والسياسة الخارجية، الذي نشر عام 1957، وأبحاثًا عن السياسة الخارجية الأمريكية صدرت في كتاب عام 1969، سببًا في دخوله البيت الأبيض في العام نفسه، مستشارًا للرئيس ريتشارد نيسكون للأمن القومي.
انعكست هذه الخلفية على سنوات خدمته، فلم يكن هنري مجرد موظف كبير في الإدارة الأمريكية خلال الحرب الباردة. آمن بأنَّ عليه تحديد أهدافٍ يستطيع العمل على إنجازها من داخل البيت الأبيض، وكتب أنَّ "الرجال لا يتحولون إلى أساطير بما يعرفونه، أو حتى بما يحققونه، بل بالمهام التي حددوها لأنفسهم".(1)
آمن كيسنجر بمبدأ الواقعية/realism في العلاقات الدولية، الذي يقوم على أنَّ الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي تُحتِّم على الدول السعي لتحقيق أمنها والحفاظ على مصالحها بمُراكمة أسباب قوتها المادية والعسكرية، وعقد التحالفات، لتعزيز نفوذها داخل النظام الدولي. كما أنَّ "الواقعية" هذه تعتقد أنَّ أعضاء النظام الدولي، أي الدول ذات السيادة، تعمل ضمن نظام يخلو من العدالة، بالتالي لا ينبغي إخضاعها للأطر الأخلاقية.
هوس كيسنجر بالواقعية ظهر عندما دعم الحاكم العسكري لباكستان الجنرال يحيى خان عام 1971 في حملته الدموية على باكستان الشرقية التي نالت استقلالها وأصبحت بنجلاديش، كما بدا خلال دعمه للديكتاتور العسكري الجنرال أوجستو بينوشيه في انقلابه الدموي على رئيس تشيلي المنتخب سلفادور أليندي في 11 سبتمبر/أيلول 1973.
في كلتا الحالتين، باكستان وتشيلي، لم يكترث كيسنجر بضحايا الجنرالين، أو بتناقض دعم الديكتاتوريات العسكرية مع خطاب قيم الديمقراطية الأمريكي، الذي يجعل الولايات المتحدة تعتبر نفسها "زعيمة العالم الحر" الذي يخوض معركة الحقوق والحريات مع "الكتلة الشرقية" السوفيتية، نموذج "القمع والديكتاتورية".
وبعد سنتين من انقلاب بينوشيه، وافق كيسنجر على خطط الرئيس الإندونيسي محمد سوهارتو لغزو تيمور الشرقية، دون أيَّ اعتبار لحق تقرير المصير. وفي العام التالي دعم الجنرال خورخيه فيديلا في انقلابه على الرئيسة المنتخبة إيزابيل بيرون، وفي حملته دموية على المعارضين، وقد أدَّت إلى مقتل أو اختفاء نحو 30 ألف شخص، وعرفت باسم "الحرب القذرة"!
ويمكن تلخيص نظرة كيسنجر لحق الشعوب في ممارسة الديمقراطية في جملته التي قالها عن تشيلي بعد فوز أليندي بالانتخابات "لا أفهم لماذا يتعين علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد بلدًا يتحول إلى الشيوعية بسبب عدم مسؤولية شعبه"! اعتبر كيسنجر أنَّ المصلحة الأمريكية في هزيمة الشيوعية أكثر أهمية من احترام خطاب القيم الأمريكية.
وإلى جانب التورط في الدماء، يمكن أيضًا فهم تورط كيسنجر في واقعيته من مبادراته السياسية خلال عمله مستشارًا للأمن القومي (1969 - 1975) ثم وزيرًا للخارجية (1973 - 1977)، إذ سعى لتعزيز مكانة الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة بمبادرته للانفتاح على الصين بداية السبعينيات، التي اعتقد أنها ستعمِّق الخلاف السوفيتي الصيني، وتدشِّن تعاونًا اقتصاديًا وسياسيًا بين واشنطن وبكين.(2)
نجح كيسنجر في مبادرته التي تُوِّجت بزيارة نيكسون التاريخية للصين عام 1972. كما أنشأ علاقة شخصية مع الزعيم الصيني ماو تسي تونج، وصادقَ رئيسَ الوزراء والرجل القوي في الحزب الشيوعي الصيني تشوان لاي. ولاحقًا؛ طور كيسنجر علاقاته مع جميع زعماء الصين وصولًا لرئيسها الحالي تشي جينبينج، وأصبح مستشار الصين الأشهر فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن، وهو ما يفسر احتفاء الرئيس الصيني ووزير خارجيته بكيسنجر عندما زار بكين للمرة المائة في يوليو/تموز 2023، حيث وصفه بـ"الصديق القديم الذي تحتاج السياسة الأمريكية الحالية إلى حكمته كما تحتاج إلى شجاعة نيكسون"!
وخلال سنواته في البيت الأبيض نجح كيسنجر في توثيق علاقته الشخصية بالزعماء الصينيين وبالزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف، واستخدم تلك العلاقات في التأثير على مواقف البلدين تجاه النزاعات التي تعتبرها الإدارة الأمريكية مهمة لها. فعل ذلك خلال حرب فيتنام، كما فعل ذلك خلال حرب أكتوبر.
لم يكن كيسنجر مجرد ابنٍ آخرَ للمؤسسة الحاكمة في واشنطن. بل كان أحد أهم ممثليها في المجتمع الدولي خلال سنوات خدمته في إدارتي نيكسون وفورد. وهو ما سيتطور لاحقًا كمستشار للمؤسسة الحاكمة فيما يتعلق برؤية الإدارات الأمريكية المتعاقبة لدور الولايات المتحدة في العالم، وكيفية مواجهة التحديات المتغيرة، خاصةً خلال العقد الأخير في الحرب الباردة وما تلاها من سنوات تشكل نظام عالمي جديد، تهيمن الولايات المتحدة على شؤونه.
الخروج من فيتنام
خلال زيارته الأولى لفيتنام عام 1965، أدرك كيسنجر صعوبة انتصار الولايات المتحدة في حربها الطويلة في فيتنام، وأنه من الأفضل أن تبدأ مفاوضات مع فيتنام الشمالية من أجل الوصول إلى هدنة. لكن بدلًا من الدعوة لإنهاء الحرب، أرسل كيسنجر أثناء حضوره مفاوضات سلام باريس عام 1968، معلومات لحملة نيكسون الانتخابية، لتستخدمها في حثِّ وفد فيتنام الجنوبية على إفشال المفاوضات، خوفًا من أن يؤدي التوصل للسلام إلى فوز الديمقراطيين بالرئاسة!(3)
كما لم يؤدِّ إدراكه خسارة الحرب قبل دخوله الإدارة الأمريكية، إلى وقف التصعيد العسكري إثر وجوده في مركز صنع الحدث، بل العكس هو ما جرى؛ حيث انخرط في مفاوضات سرية في باريس مع ممثلي فيتنام الشمالية، رغم اعتراضات حليفة واشنطن، فيتنام الجنوبية. وفي الوقت نفسه شجع قصف كمبوديا، التي كانت مصدرًا لغارات قوات الفيتكونج الموالية لفيتنام الشمالية.(4)
وافق كيسنجر شخصيًا على 3875 غارة على كمبوديا التي قُصفت من الجو بأكثر من مليوني طن من القنابل، وتسبب ذلك في مقتل مئات الآلاف ونزوح ربع سكان البلاد. مسح القصف قرىً كاملة بسكانها وحيواناتها ومزارعها. يكفي أن نعلم أن حجم القنابل التي سقطت على كمبوديا بين عام 1965 وعام 1973 تجاوز ما ألقي على ألمانيا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية، بما فيها قنبلتا هيروشيما وناجازاكي الذريتان!
قامت استراتيجية كيسنجر في فيتنام على أن تمر الطريق لوقف إطلاق النار بمرحلة تصعيد عسكري هائل، ولكنها في نهاية الأمر لم تؤدِّ إلا للمزيد من التنازلات الأمريكية في مفاوضات باريس، التي ظهرت خلال اتفاقية السلام التي تم التوصل إليها في يناير 1973. لخص الدبلوماسي الأمريكي المخضرم جون نيجروبونتي فشل استراتيجية كيسنجر بالقول "لقد قصفنا الفيتناميين الشماليين ليقبلوا تنازلاتنا"!
النتيجة النهائية لحرب فيتنام لم تكن في صالح الولايات المتحدة، لكنَّ كيسنجر اعتقد أنه من خلال عمليات القصف والتصعيد العسكري في فيتنام وكمبوديا ولاوس سينجح في الخروج من المستنقع الفيتنامي دون الإضرار بالهيبة الأمريكية، فحدث العكس؛ كان مشهد الانسحاب من سايجون، الذي أشرف عليه كيسنجر شخصيًا، كارثيًا، ففي العشرين من أبريل/نيسان عام 1975، أمر كيسنجر، سفير واشنطن في سايجون، بإجلاء الأمريكيين فقط وعدم إجلاء أي شخص من فيتنام الجنوبية!(5)
إسرائيل أولًا
رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قررت نقل علاقاتها مع إسرائيل إلى مرحلة التحالف العسكري والسياسي بعد حرب 1967، إلا أن كيسنجر، مع دخوله البيت الأبيض، نقلها إلى نقطة أبعد؛ باعتبارها ملفًا شخصيًا ويهوديًا وعائليًا. فقد كتب أنه كان يتعامل مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير باعتبارها "خالته" التي أحيانًا تكون راضية عنه، وأحيانًا توَّبِّخه عندما تشعر أنه لا يستجيب كفاية لمطالب إسرائيل.
في كتابه سنوات الاضطرابات/Years of Upheaval، وهو الجزء الثاني من ثلاثية سيرته الذاتية، يسرد تفاصيل دوره في حرب 1973 منذ أن أيقظه مساعده لشؤون الشرق الأدنى جوزيف سيسكو في السادسة من صباح السادس من أكتوبر من النوم في جناحه بفندق والدورف في نيويورك، ليخبره بأنَّ مصر وسوريا وإسرائيل على وشك الدخول في حرب. اعتقد كيسنجر وقتها أنَّ الأطراف الثلاثة أخطأوا في قراءة النيّات، وما زال بالإمكان تجنب الحرب بينهم.
وعلى الرغم من السرية التي أحاط بها السادات موعد بدء الحرب، قرر أن يرسل لكيسنجر في اليوم الأول تأكيدًا بشأن محدودية أهدافه العسكرية. في كتابه القيادة/Leadership، يكتب "في اليوم الأول من الحرب، أبلغني السادات، عندما كنت وزيرًا للخارجية آنذاك، أن أهدافه محدودة، وأنه ينوي بذل جهود لتسهيل مفاوضات السلام بعد انتهاء الأعمال العدائية. وفي اليوم الثاني للحرب أجبت 'أنت تشن حربًا بالأسلحة السوفيتية. ضع في اعتبارك أنه سيتعين عليك صنع السلام مع الدبلوماسية الأمريكية'".
أدرك كيسنجر أنَّ السادات قرر الرهان على الدور الأمريكي بدلًا من السوفييت، وأنَّ هذا يعني استعداده، فور توقف القتال، الانخراط في الجهود الأمريكية للتوصل لتسوية مع إسرائيل. وبالتالي سعى كيسنجر لتقوية موقف إسرائيل خلال الحرب من خلال الجسر الجوي الأمريكي غير المسبوق، ومن خلال العمل على مدار الساعة وبأقصى جهد في التواصل مع موسكو من أجل ضمان التوصل لوقف لإطلاق النار في التوقيت المناسب وفق الحسابات العسكرية الإسرائيلية.
كانت رؤية كيسنجر للصراع في الشرق الأوسط مبنية على أمرين؛ الحفاظ على أمن إسرائيل، والحرص على انتصار السلاح الأمريكي على السلاح السوفيتي، وحلفاء واشنطن على حلفاء موسكو. ولتحقيق هذين الأمرين، نشط كيسنجر في رعاية مفاوضات فض الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية، وبين القوات السورية والإسرائيلية في أعقاب الحرب، وأيضًا رعاية مؤتمرات للسلام مثل مؤتمر جنيف للسلام في ديسمبر 1973، حيث عمل على فصل المسارات التفاوضية بين الدول العربية وإسرائيل.
ولأن كيسنجر كان مرجعاً أساسياً لكل الدبلوماسيين الأمريكيين الذين عملوا على ملف عملية السلام في الشرق الأوسط ضمن الإدارات الأمريكية التي أعقبت خروجه من البيت الأبيض، فإن تكتيكات كيسنجر التي اتبعها خلال وبعد حرب أكتوبر 1973 مثل "الدبلوماسية المكوكية" التي دشنها برحلاته بين القاهرة وتل أبيب ودمشق، والحرص على المسارات التفاوضية المنفصلة بين العرب وإسرائيل، يمكن رؤية تطبيقاتها في كل مفاوضات السلام التي جرت منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
الأب الروحي للتناقض الأمريكي
في خريف عام 2012، وخلال المحاضرة الأولى لي في جامعة كينجز كوليدج في لندن، ذكر المحاضر في قسم دراسات الحرب عددًا من مزايا الحصول على ماجيستير من هذا القسم وهذه الجامعة بالذات. أهم المزايا من وجهة نظره أن سبعة ممن حصلوا على الماجيستير العام الماضي حصلوا على وظائف في شركة الاستشارات الدولية Kissinger Associates في نيويورك، التي يملكها هنري كيسنجر.
رغم اقترابه من التسعين آنذاك، كان محتفظًا بحضوره العالمي من خلال علاقاته المتينة بزعماء الحزب الشيوعي الصيني المتعاقبين منذ زيارته الأولى للصين في يوليو 1971، أو من خلال الاستشارات التي قدمها لكل الرؤساء الأمريكيين اللاحقين على دخوله البيت الأبيض، وهو الترتيب الذي استمر مع الرئيس جيرالد فورد حتى نوفمبر 1975، ليتفرغ بعدها كوزير للخارجية حتى انتهاء ولاية فورد. كما ظلَّ كيسنجر حاضرًا على الساحة الدولية من خلال مقالاته وكتبه، التي صدر أحدثها العام الماضي.
لا يمكن اختصار كيسنجر في مناصبه الرسمية داخل إدارتي نيكسون وفورد بين عام 1969 وعام 1977. فالرجل لم يكن مجرَّد وزير خارجية مثل مايك بومبيو أو ريكس تيلرسون أو جون كيري، أو مستشارًا آخر للأمن القومي مثل جاك سوليفان أو جون بولتون أو سوزان رايس، بل هو الأب الروحي لعدد من الدبلوماسيين والعاملين في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية، الذين آمنوا بمنهجه في الحفاظ على المصالح الأمريكية ولو على حساب خطاب القيم الأمريكية المعلنة، وأهمها حقوق الإنسان وتداول السلطة ديمقراطيًا، وحقَّ تقرير المصير.
في المناظرات الرئاسية التي سبقت انتخابات 2008، استشهد جون ماكين بكيسنجر من أجل إثبات وجهة نظره فيما يتعلق بالتعامل مع إيران. ومن المدهش أن باراك أوباما استشهد أيضًا بكيسنجر خلال المناظرة نفسها لإثبات صحة وجهة نظره! أما هيلاري كلينتون، التي عارضت قرار كيسنجر قصف كمبوديا عندما كانت طالبة حقوق في جامعة "يال"، فحصلت على مشورته لاحقًا وهي وزيرة للخارجية.
كان كيسنجر قادرًا بعد أن ترك الإدارة الأمريكية في يناير/كانون الثاني 1977 مع انتهاء ولاية فورد الرئاسية أن يعيد صياغة نفسه باعتباره كاهنًا ومنظرًا لشؤون السياسة الخارجية الأمريكية، ومستشارًا ضليعًا في كلِّ ما يتعلق بالسياسة الدولية وتحديات القرن الجديد والقوى المرشحة للصعود فيه، وأبرزها الصين، التي كتب عنها كتابًا تجاوزت صفحاته الستمائة عام 2011.
امتلك كيسنجر مهارة أن يظلَّ حاضرًا حتى يومه الأخير، دون أن يشعر بالندم على اشتراكه في صياغة وتنفيذ قرارات وسياسات أدت لجرائم حرب وانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان، في كمبوديا وتشيلي والأرجنتين وبنجلاديش وتيمور الشرقية، على سبيل المثال لا الحصر!
ظلَّ كيسنجر تعبيرًا عن التناقض بين الولايات المتحدة التي تتبنى خطابًا عالميًا يتحدث عن ضرورة السعي للحفاظ على قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحق في تقرير المصير، وسياساتها البراجماتية المشغولة بتحقيق مصالح واشنطن ولو على حساب خطابها الخاص بالقيم!
(1) The Inevitability of Tragedy: Henry Kissinger and His World , 2020 by Barry Gewen
(2) Kissinger's Shadow: The Long Reach of America's Most Controversial Statesman by Greg Grandin
(3), (4) The Inevitability of Tragedy: Henry Kissinger and His World , 2020 by Barry Gewen
(5) Snepp, Frank (1977). Decent Interval: An Insider's Account of Saigon's Indecent End Told by the CIA's Chief Strategy Analyst in Vietnam.
تزامنت كتابة هذا المقال مع الذكرى الأولى لرحيل صديقي محمد أبو الغيط. أتذكره وأنا أكتب عن كيسنجر، مفتقدًا نقاشاتنا عن الصحافة، التاريخ، والناس. دُمتَ حيًا بيننا بذكراك يا صديقي الحكيم.