
نقاشات عاقلة عن "الرجل المجنون"
عاد الملياردير الأمريكي المثير للجدل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية لسنوات أربع، ليثير بشعبويةٍ النقاشَ مجددًا حول جدوى رسم صورة ذهنية عن الحاكم المجنون.
ومع بدء الولاية الثانية لترامب، الذي لم يتقلد أي منصب سياسي قبل انتخابه رئيسًا للمرة الأولى عام 2016، قفزت إلى الواجهة مجددًا النقاشات بشأن نتائج ادعاء الحُكَّامِ الجنونَ أو التظاهر أو التهديد به في شؤون الحكم ومسارات التفاوض، وهي نقاشات تعود لقرون.
يرى الفيلسوف السياسي نيقولا مكيافيلّي (1469-1527) أن "التظاهر بالجنون قد يكون في بعض الأحيان أمرًا حكيمًا جدًا"، واستخدم مكيافيلي هذا المفهوم في كتابه نقاشات حول ليفي، وفيه يشير إلى أن القادة بإمكانهم استغلال منهج التظاهر بالجنون أو السلوك غير المتوقع، لإرباك الخصوم وتحقيق مكاسب استراتيجية.
فيتنام تستدعي الجنون
مع تورُّط الولايات المتحدة الأمريكية في حرب فيتنام في ستينيات القرن العشرين، تطورت حركة مدنية مناهضة للتدخل الأمريكي هناك، ساهم بنصيب كبير في تصعيدها المحللُ الاستراتيجي دانيال إلسبيرج، عندما سرب لصحيفة نيويورك تايمز عام 1971 وثائق سرية عُرفت بوثائق البنتاجون، تتضمن تقديرات موقف شارك في إعدادها لصالح وزارة الدفاع حول النشاط الأمريكي في فيتنام وجنوب شرق آسيا، وتسبب نشرها في صدمة للشعب الأمريكي الذي اكتشف تضليل وكذب الحكومات المتعاقبة بشأن نتائج الحرب.
ناقش إلسبيرج كثيرًا في أدبياته ارتباط "نظرية المجنون" بالسياسات الأمريكية الخارجية التي تبناها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، ومفادها أن القادة الذين يتصرفون بشكل غير متوقع أو يبدون كمجانين لديهم فرص أكبر للضغط على خصومهم لتقديم تنازلات، بالتالي تحقيق مكاسب، وذلك بسبب الخوف من ردود أفعالهم غير المتوقعة.
في كتابه حرب العشرة آلاف يوم ينقل الصحفي الكندي مايكل ماكلير عن أحد مساعدي نيكسون في البيت الأبيض، قوله إن مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر كان يمارس تطبيقًا عمليًا لـ"النظرية" أثناء مفاوضاته مع الفيتناميين في باريس. فكلما تعقدت الأمور، كان يهدد بأنه لا يضمن رد فعل "الرجل المجنون الذي يجلس في البيت الأبيض" ويمكنه استئناف قصف فيتنام في أي لحظة وأن يسويها بالأرض.
النقاش النظري
يدور جدل منذ عقود بين المحللين والمنظرين حول نجاعة استخدام نظرية "الرجل المجنون" وعما إذا كانت تؤتي ثمارًا يجعل الانحياز لها أمرًا صحيحًا.
يرى توماس شيلينج في كتاب استراتيجية الصراع أن عقلانية القائد الواضحة "لا تُعدّ ميزةً عالميةً في الصراعات"، لأنه إذا اعتقد الآخرون أنّ "الرجل المجنون" قد يفعل أيّ شيء إذا لم يحصل على ما يريد، فإنّ التهديد بالتصعيد يصبح أكثر مصداقيّة، ما يجعل تقديم المزيد من التنازلات لتهدئة التصعيد أمرًا منطقيًا. لكن شيلينج لم يرَ أن هذه هي الطريقة المثلى التي يجب أن ينتهجها رئيس الولايات المتحدة، أو أن حيلة الرجل المجنون ستؤدي لنجاح جيّد على المدى الطويل.
لكن إلسبيرج يعتقد أن المكاسب التي حققها نيكسون من استخدام نظرية المجنون ضئيلة، إذ لم يسفر التظاهر بالجنون والتعبير الزاعق عن الغضب عن أيّ تنازلات، وفق باحثين وأكاديميين وشهادات شخصية.
وفي تحليل نشرته مجلة فورين بوليسي، الشهر الماضي، استعرض دانيال دبليو دريزنر أبحاثًا حديثةً حول نجاعة نظرية "الرجل المجنون" في حالة ترامب، كان أحدها ذلك الذي خلصت فيه روزان ماكمينوس، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، إلى أن بإمكان هذه الاستراتيجية أن تتحقق في إطار مجموعة محدودة من الظروف. وفي ورقة متابعة، استنتجت مكمانوس أنَّ نهج الرجل المجنون "قد يكون مفيدًا في التفاوض على الأزمات عندما تكون صفة الجنون ضئيلة".
نجاح محدود
في رصده تعمد ترامب ربط سمعته بالجنون خلال ولايته الأولى، يلفت دريزنر النظر إلى خداع موظفي البيت الأبيض الصحفيين بأن الرئيس يتصرف كرجل مجنون، الأمر الذي جعل أحد هؤلاء الصحفيين، وهو جيم سكيوتو من شبكة CNN، يؤلف كتابًا عن سياسة ترامب الخارجية بعنوان نظرية الرجل المجنون.
لكن دريزنر يستنتج في النهاية أن هذه الاستراتيجية سجَّلت نجاحًا ضئيلًا خلال رئاسة ترامب الأولى، مستشهدًا بالتنازلات التجارية المتواضعة التي حصل عليها من كوريا الجنوبية والتوقف القصير لتجارب كوريا الشمالية الصاروخية.
وهنا، يلفت دريزنر إلى نجاح أسلوب ترامب المجنون مع حلفاء الولايات المتحدة بشكل أفضل من خصومها، فخلال محاولاته التقرب من قادة الصين وروسيا، لم يتمكّن من التصرّف بجنون أمامهم، في حين كانت جهوده لاستخدام استراتيجية الرجل المجنون مع إيران متفاوتة.
لكن المعضلة التي رصدها دريزنر هي أن أغلب القادة الأجانب اليوم على دراية كاملة بقواعد اللعبة التي يمارسها ترامب، وهذا السبب نفسه الذي أدى إلى فشل خطط نيكسون بادّعاء الجنون، إذ عرف المسؤولون السوفيت أوقات تظاهره بذلك.
الولاية الثانية
لا يعتقد دريزنر أن محاولة ترامب لتكرار نهج الرجل المجنون في سياسته الخارجية خلال فترة ولايته الثانية ستنجح، لكنه لا يعتقد أيضًا أن الرئيس سيتخلى عنها، مرجحًا أنه سيكون قادرًا هذه المرة على إنجاحها، وهو أمر مثير للقلق بالنظر إلى سيرته المثيرة من مجرم مدان إلى مرشح نجا من محاولتي اغتيال إلى رئيس لولاية ثانية، ما قد يرسخ لديه قناعةً بأنه لا يُقهر.
ويحذر دريزنر من أن ترامب غير قادر على إقناع أيّ شخص آخر بأنه مجنون حقًا، وإن ظل يتابع تهديداته الأكثر غرابة. قد تنجح هذه الخطة، لكنها قد تؤدي أيضًا إلى تفاقم الصراع وخروجه عن السيطرة.
ترامب سيضطر لإثبات أن لجنونه حدودًا وأن سياسته الخارجية لا تخلو تمامًا من المنطق
أما روزان ماكمينوس، فذهبت في مقال نشرته قبل أسبوعين فورين أفيرز إلى أن فترة ترامب الأولى كانت تدريبًا على عدم القدرة على التنبؤ بردود أفعاله. وتشير لاعتقاد نائبه جيه دي فانس بأن ذلك يعود بالنفع على الولايات المتحدة بنسبة 100%.
وتستعرض ماكمينوس أمثلةً تاريخيةً لقادة اتبعوا نظرية الجنون، لكنها تُقدِّر أنه رغم شيوع النظرية فإنها لم تقدم الكثير لأتباعها، بسبب عدم الوثوق في الاستسلام لشخص مجنون وعدم اليقين في التزامه حتى بعد تقديم تنازلات، وهي معضلة لا يستطيع أيُّ قائد يحرص على صورة المجنون حلَّها.
وتختم الباحثة الأمريكية بأن ترامب سيضطر لإثبات أن لجنونه حدودًا، وأن سياسته الخارجية لا تخلو تمامًا من المنطق، وأن بالإمكان الوثوق به في الحفاظ على الاتفاقات، وهو ما سيؤدي لزيادة احتمالات الامتثال لتهديدات واشنطن، ويقلل أيضًا من خطر التصعيد غير المقصود، وبالتالي طمأنة الحلفاء المتوترين بشأن سياسات ترامب.
لكنها تعود وتتشكك بقولها إنه "من المؤسف أن نقل المستوى الصحيح من الجنون أمر بالغ الصعوبة"، وربما ينجح ترامب إذا كان قادرًا على تصوير نفسه كمن لا يمكن التنبؤ بتصرفاته دون أن يبدو مختل العقل، لكن إذا ظهر بصورة غير العقلاني إلى حدٍّ ميؤوس منه، فمن غير المرجح أن يحصل على ما يسعى إليه.
تشير النقاشات الرصينة في الغرب إلى أن فترة ترامب الثانية ستكون اختبارًا لنظرية الرجل المجنون ومدى نجاحها في الإخضاع، لكن في الوقت ذاته فعليه إثبات أنه موثوق الكلمة ويحافظ على الاتفاقات، والأرجح أن عالمنا العربي سيكون له نصيب وافر من ساحات الاختبار للنظرية المجنونة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.