رغم تعدُّد الرؤى داخل الدين الإسلامي وتدرجها من الاعتدال إلى التطرف، ومن قبول الآخر إلى النفور منه وكراهيته، بقيت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى المسلمين بعين واحدة؛ عين إمبراطورية بزغ نجمها بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال تقف على رأس العالم من حيث القدرات العسكرية، والإمكانات الاقتصادية، وفرض الأفكار التي تنتجها، وكذلك بعض التصورات السياسية التي تتبناها.
نعم يموج المجتمع الأمريكي بأفكار متعددة حول الإسلام، بعضها يحمله المسلمون الأمريكيون أنفسهم، أو مهاجرون يعتنقون ديانات مختلفة، لكن استراتيجية الإدارات الأمريكية حيال المسلمين تتسم بقدر كبير من التماسك أو التوحد، الذي يخدم مصالح أمريكا في العالم الإسلامي، بوصفه الامتداد الجغرافي، الذي يتوسط العالم، من غانا إلى فرغانة.
تدرجت علاقة واشنطن الرسمية بالعالم الإسلامي، والإسلام كعقيدة وثقافة في قلبه، من محاولة الاكتشاف وبناء علاقات تجارية أو أمنية، إلى محاولة تغيير الكثير من الأفكار والطقوس الدينية نفسها. ويمكن تتبع هذا التطور، أو بالأحرى التغيّر، من خلال عدة محطات تاريخية.
الإسلام يواجه المد القومي
حين انسحبت بريطانيا من شرق السويس، وهي تعني منطقة الخليج العربي الذي ظهر فيها النفط، كان على الولايات المتحدة أن تملأ هذا الفراغ، ومن ثَمَّ سعت إلى بناء علاقات متميزة مع أنظمة الحكم القائمة، حتى تضمن تدفق النفط إليها.
وبعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، أكملت الولايات المتحدة الطريق الذي بدأته بريطانيا بترتيب وهندسة علاقاتها مع نظم الحكم في المنطقة العربية، بما يضمن أمن الدولة العبرية.
ومع ظهور الاتحاد السوفيتي منافسًا قويًا للولايات المتحدة على الساحة الدولية، كان على واشنطن أن توظف التصور الإسلامي التقليدي أو المحافظ، أو الجماعات والتنظيمات الإسلامية صاحبة المشروع السياسي، في مواجهة الشيوعية، والأيديولوجيات القومية مثل الناصرية والبعثية.
بلغ الأمر ذروته حين حشدت أمريكا شباب هذه الجماعات لمنازلة الاتحاد السوفيتي على أرض أفغانستان بعد أن دخلها الجيش الأحمر عام 1979. وقتها، كانت واشنطن معنية بالتصالح ظاهريًا مع الإسلام، ما انعكس في الدعاية لحركة الجهاد الأفغاني-العربي ضد موسكو، حتى أُجبرت على الخروج مهزومة من أفغانستان.
أما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجدت الولايات المتحدة نفسها في حاجة إلى صناعة "عدو" لضمان استمرار سياسة الهيمنة في العالم، وتبررها أمام الشعب الأمريكي الذي تآلف مع الإنفاق المفرط على القدرات العسكرية، وعلى الدور الكبير الذي يلعبه المُركَّب الصناعي-العسكري داخل القرار الأمريكي محليًا ودوليًا.
وقتها ظهر من يتحدث عن الإسلام "كعدو قائم أو محتمل"، وكتب الباحث صمويل هنتنجتون رؤيته عما أسماه صدام الحضارات برعاية المخابرات الأمريكية، زاعمًا وقوع هذا الصدام بين الغرب المسيحي وتحالف الإسلام مع الكونفوشية.
لكنَّ الأهم من ذلك، ما جاء في كتاب الفرص السانحة الذي أصدره الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1992، حيث كتب "المسلمون يزيدون على المليار نسمة، ويعيشون في 37 دولة من دول العالم، وينتمون إلى 190 جنسية، ويتكلمون مئات اللغات واللهجات، وهذا مصدر قوة كبير لهم. إنهم يسيطرون على معظم البترول الموجود في العالم، ويتمتعون بخصوبة هائلة في مجال النسل، ومن المتوقع أن يتضاعف عددهم في خلال عشرين عامًا.. وهم يعيشون على أرض يبلغ طول أضلاعها عشرة آلاف كيلومتر. هذه الإنجازات تبين ما كان عليه العالم الإسلامي في الماضي، وكذلك تُبين ما يمكن أن يكون عليه في المستقبل إذا توقفت الحروب بين المسلمين".
بعد سنوات، بحثت أمريكا عن صيغة لاحتواء التنظيمات المتطرفة التي صنعتها ثم اشتد ساعدها، لا سيما بعد نشأة تنظيم القاعدة في التسعينيات ووقوع عمليات إرهابية في مدن أوروبية عدة، ثم أحداث 11 سبتمبر 2001. هنا تحدث أمريكيون عن تشجيع جماعات إسلامية معتدلة لاحتواء تنظيمات متطرفة، وتقليل خطرها على الغرب، أو دفعها للتخلي عن فكرة منازلة العدو البعيد، أمريكا وإسرائيل.
صناعة الإسلام المستأنس
سعت أمريكا إلى صناعة ما تسميه "الإسلام المستأنس"، الذي رأته في الطرق الصوفية، ومن ثَمَّ استضافت عدة مؤتمرات للمتصوفة، ودعت المئات من شيوخ الطرق عبر العالم، في محاولة لخلق مسار مسلم لا يناوئ مصالحها وسياساتها في العالم.
بعد طوفان الأقصى واحتمالات عودة ترامب ستواصل أمريكا انزلاقها من نقد التطرف لمواجهة الإسلام نفسه
تنبهت واشنطن إلى أن الطرق الصوفية لعبت دورًا مهمًا في الكفاح ضد الاستعمار، فاتجهت مع موجة الربيع العربي التي شهدت صعود التيارات الإسلامية، للحديث عما أسمته تعميم النموذج التركي، الذي بدأ مع حزب الرفاه ثم العدالة والتنمية، على العالم العربي. كان الهدف من هذا دمج الجماعات السياسية الإسلامية في نظم ديمقراطية، بعد أن طالبت واشنطن أنظمة الحكم في المنطقة بالإصلاح السياسي.
في ضوء هذا موّلت مؤسسات أمريكية مشاريع بحثية ترفع شعار "إسلاميون لكن ديمقراطيون"، وبنت صلات مع الجماعات التي صنفتها معتدلة، خاصة مع إدراكها أنها المرشحة لتشكيل بدائل أنظمة الحكم القائمة، بتجذرها في الشارع، مع تراجع اليسار بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وعدم وجود حوامل اجتماعية قوية للتيار الليبرالي.
مع تزايد الاستقطاب وتفاقمه، لم تلبث أن ظهرت أفكار ترى أن المشكلة ليست مع جماعات متطرفة ولا ما يسمى "الإسلام السياسي" بمعتدليه ومتطرفيه، إنما مع الإسلام نفسه، الذي يحمل في متنه وحواشيه نزعة نضالية، تنظر إلى الغرب كطامع في العالم الإسلامي، ولا بد من مواجهته.
تمت ترجمة الرؤية الأخيرة التي يعد برنارد لويس أبرز الداعين لها، والصهيونية المسيحية المسار الذي يغذيها، في تصورات رأيناها في ضغوط على أنظمة حكم لتغيير مناهج التعليم، وفي تمويل برامج بحثية، وقنوات إعلامية، استطاعت أن توظف عقولًا وأقلامًا في العالم الإسلامي، لا سيما من بين منتقدي الخطاب الديني بصيغته الراهنة.
ومن أسف، فإن الرؤية الأمريكية هذه أثرت سلبيًا في التصورات الإصلاحية الذاتية التي بدأت قبل أكثر من قرن، وأنتجت في العالم الإسلامي كله مفكرين راغبين حقًا في التجديد والإصلاح والعصرنة، ومؤمنين بأن الخطاب الديني الإسلامي بات في حاجة ماسة إلى إعادة نظر.
واليوم، وفي ضوء تداعيات طوفان الأقصى، أعتقد أن الولايات المتحدة، لا سيما إن عاد دونالد ترامب إلى الحكم، لن تتخلى عن تصورها الأخير، الذي انزلق من نقد الجماعات المتطرفة إلى مواجهة الإسلام نفسه، رغم حديث واشنطن المتكرر عن حرية الاعتقاد، أو مديحها القديم للجماعات الإسلامية حين كانت في حاجة إليها لمواجهة الشيوعية والقومية.
ربما يكون الشيء الوحيد الذي بإمكانه إعادة الولايات المتحدة إلى المرحلة التي كانت سائدة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين في التعامل مع الإسلام والمسلمين، هو رغبتها في توظيف "السنة" في مواجهة "المشروع الإيراني"، والمسلمين جميعًا في مواجهة الصين، مستخدمة في ذلك قضية مسلمي الأويجور.