لم تكن جرائم الإبادة الجماعية والقتل الممنهج للنساء والأطفال والشيوخ وسياسات التجويع والإذلال التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، سوى ترجمة عملية للعقيدة التي اكتسبها جنود هذا الجيش في سنوات التكوين عبر روافد تعليمية.
يتلقى النشء في إسرائيل، سواء في الكنيس أو المدارس الدينية والعلمانية، جملةً من الأفكار والمبادئ والمعتقدات، تنفي حقَّ الفلسطينيين في أرضهم، فتذكر فلسطين التاريخية في كتب الجغرافيا الإسرائيلية على أنها أرض "يهودية صهيونية لليهود فقط ولا حق للأغيار فيها"، وتعرف مدن وقرى الضفة الغربية "يهودا والسامرة" على أنها "مدن يهودية عتيقة.. جذورها يهودية وهي أرض الأجداد والآباء".
على الجانب الآخر، وفي بلادنا وضعت خطط تفصيلية خصوصاً في الدول التي طبّعت مع إسرائيل أو في طريقها إلى إقامة علاقات معها، يتم بمقتضاها تعديل اتجاه بوصلة الأجيال الجديدة واختراق وعيهم وإقناعهم بأن التعايش مع الكيان الصهيوني ممكن، وذلك عبر تنقية المناهج الدراسية من كل يشكل إساءةً لـ"أولاد العم".
في مناهج التعليم العربية التي تم "تحديثها وتطويرها" في السنوات الأخيرة، صار "العدو الصهيوني المحتل" الذي خاضت ضده الدول العربية جولات عديدة من الصراع سقط فيها مئات الآلاف من الشهداء والمصابين دولةً صديقةً وشريكةً تربطنا بها "اتفاقيات سلام تاريخية وعلاقات دبلوماسية واقتصادية".
"صديقتنا" إسرائيل
في آخر تقرير له رصد معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي/IMPACT-SE، الإسرائيلي، كيف سرعت مصر ودول عربية عملية تغيير المناهج الدراسية لصالح إسرائيل واليهود.
وأشار تقرير المعهد الذي صدر في أبريل/نيسان 2023 إلى أنَّ وزارة التعليم المصرية أصدرت نسخًا منقحةً من المناهج الدراسية حذفت فيها مواد ونصوصًا سابقة تعادي السامية بعد ضغوط إسرائيلية وأمريكية.
طلبت من ابني أن يضع ما حفظه على ورق الإجابة ثم يردم عليه ولا يتذكر سوى دماء أشقائه الفلسطينيين
ونُقل عن المعهد الذي يراقب مناهج التعليم العربية، ليقدم تقارير حول التطبيع، أنه راجع وفحص 271 كتابًا مدرسيًا مصريًا في العام الدراسي 2023/2022، في مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية والدراسات الاجتماعية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، ورصد تغييرات جذرية لصالح اليهود وإسرائيل.
وأوضح التقرير أنَّ الصفات السلبية التي كان اليهود يُوصفون بها في الكتب المدرسية، مثل "عدم الوفاء بالعهود والاحتيال والجشع"، أزيلت لتحل محلها مفردات تتناول "التسامح، والتعايش وقبول الآخر". ولكنَّ الأمر لم يقف عند الكف عن وصم اليهود، بل امتد إلى إبراز المكاسب السياسية والاقتصادية لاتفاقات السلام بين إسرائيل ومصر، وغيرها من الدول العربية التي وقعت اتفاقات إبراهام، وكيف تم تطوير التعاون والعلاقات الاقتصادية وتبادل الزيارات الودية.
وحسب التقرير، أصبح مطلوبًا من الطلاب في المناهج الجديدة دراسة النتائج الإيجابية لزيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، وحفظ أحكام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وآثارها على "التنمية الاقتصادية".
لم أكن أظن أنَّ منهج التاريخ المصري الذي يدرسه طلبة الصف الثالث الإعدادي سيتجاهل عن عمد رصد محطات الصراع العربي الإسرائيلي، ومعاناة الشعب الفلسطيني الذي سُلبت أرضه وأُجبر على الشتات في أصقاع الأرض، ويردم فيه التراب على ثوراته وانتفاضاته ومقاومته وتضحياته.
قادتني الصدفة قبل أيام إلى مراجعة منهج الدراسات الاجتماعية للصف الثالث الإعدادي مع ابني الأوسط قبل امتحانات نهاية العام، لأتعامل بشكل مباشر مع ما جاء في التقارير، وأنَّ المناهج التعليمية التي من المفترض أن تشكل عقيدة ووعي أبنائنا تُزيف الحقائق وتهيل التراب على صفحات كثيرة من تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
مثلًا، أحد دروس التاريخ، الذي يتناول انتصار حرب أكتوبر المجيدة، ذكر أنَّ تلك الحرب "حققت بعض أهدافها وبصفة خاصة تحريك القضية الفلسطينية نحو الحل الشامل للصراع العربي الإسرائيلي واختيار مبدأ الأرض مقابل السلام".
مر الدرس في ثلاث صفحات فقط، مرور الكرام على المعركة التي خاضها الجيش المصري، وقدمها على أنها "نقطة تحول في الصراع العربي الإسرائيلي، أثبتت أنَّ منطق القوة لا يمنح سلامًا"، ثم انتقل منها مباشرة إلى مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات بزيارة إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني 1977، التي "مهدت الطريق أمام إسرائيل للقبول بمبدأ التفاوض بين الأطراف المهتمة والمعنية بالقضية".
ثم يبلغ التدليس مداه، عندما يذكر مؤلف الكتاب أنَّ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل أدت إلى إقامة علاقات ودية، سياسية واقتصادية وثقافية، بين الدولتين، وأنَّ الاتفاقية فتحت الطريق إلى البدء في مفاوضات إنشاء حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وتحت عنوان "مزايا السلام وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي"، ادعى مؤلف الكتاب أن "اختيار السلام بدلًا من الحرب التي تستنزف كافة الموارد الاقتصادية والبشرية عاد بالنفع على وطننا العربي الذي حقق له هذا السلام: الاستقرار الداخلي، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإصلاح البنية الأساسية للبلاد، وتشجيع رؤوس الأموال العربية والأجنبية للاستثمار في مصر وغيرها من الدول العربية، وتنشيط حركة السياحة مما يؤدي إلى زيادة الدخل القومي"، متناسيًا أن مصر بعد عشر سنوات على توقيع اتفاقية السلام، كادت تعلن إفلاسها بسبب تراكم الديون، لولا مشاركتها في حرب تحرير الكويت، وما ترتب عليها من إسقاط نصف الديون المصرية وإعادة جدولة نصفها الآخر.
ولم ينسَ الكاتب أن يمر في هذا الدرس سريعًا على مؤتمر مدريد للسلام واتفاقية أوسلو، لكنه صمت ولم يتحدث عما نتج عن تلك الاتفاقيات، وهل حققت المرجو منها أم أنها تحولت إلى حبر على ورق؟
مجموعة من الأكاذيب
بعد أن أنهيت المراجعة مع ابني، لم أكن بحاجة إلى وقت أو جهد لإقناعه بأنَّ ما جاء في كتاب التاريخ ليس إلا مجموعة من الأكاذيب، فما يشاهده بعينيه على الشاشات وفي مقاطع الفيديو التي تملأ السوشيال ميديا أثبت أنه لا سلام مع مجرمي الحرب الصهاينة، وأنَّ تلك الدولة "إسرائيل" لا عهد لها ولا ذمة، إذ لم تلتزم باتفاقات ولم تحترم معاهدات أو قوانين، وأن أبناءها المخلصين الذين تلقوا تعاليمهم في مدارس تحرض على الكراهية يتمنون زوالنا.
قبل أن نُغلق الكتاب طلبت من ابني أن يضع ما حفظه على ورق الإجابة، ثم يردم عليه ولا يتذكر سوى دماء أشقائه الفلسطينيين الذين تدهسهم آلة الحرب الصهيونية على مدار الساعة، وألَّا ينسى مشهد تباهي جنود جيش الاحتلال بقتل الأطفال وتدمير المستشفيات والبيوت وكأنهم في لعبة فيديو جيم، لأنه سيحتاج قطعًا إلى هذه المشاعر عندما يحين وقت الواجب الذي حُرم جيلنا من تأديته.
يغرسون في وجدان ووعي أبنائهم الكراهية ويحرضونهم على القتل والإبادة والتدمير، ويضغطون على حكوماتنا لتغرس في صدور أبنائنا أفكارًا زائفةً عن السلام وآثاره ونتائجه، بغية أن تقبل الأجيال القادمة "إسرائيل" دولةً طبيعيةً يمكن أن تكون شريكًا وحليفًا وصديقًا لنا كعرب.
إن لم يكن لطوفان الأقصى مكاسب ممسوكة سوى أنه عرَّى الحقائق وكشف أمام الأجيال العربية الجديدة بالصوت والصورة أنَّ عدوهم "إسرائيل" ليس دولة بل كيان قائم على اغتصاب الأرض وقتل النفس، فكفى بذلك المكسب.
وضع طوفان الأقصى وما بعده من عدوان على الشعب الفلسطيني الحقيقة واضحة كالشمس، وثبَّت في يقين العالم كله وليس العرب فقط، أنَّ من يقوم على أمر تلك "الدولة" عصابة من المجرمين نُزعت منهم كل مشاعر الإنسانية.
أرادوا أن يزيفوا وعي الجيل الجديد ليقبل بالأمر الواقع وينسى فلسطين قضيته المركزية، حتى جاء السابع من أكتوبر لينسف كل هذه المؤامرات، ويخلق جيلًا جديدًا ترسخت في وجدانه القضية، ليحلم كما حلمنا باليوم الذي نسترد فيه الأرض والحق بالقوة، لأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.