بعد هجوم تيت الشهير الذي شنته قوات الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام عام 1968 ضد الجيش الأمريكي، وشكَّل نقطة تحول فارقة في الحرب الفيتنامية، توصَّل هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي حينها إلى نتيجة مفادها أنَّ "حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".
فعلى الرغم من تمكُّن القوات الأمريكية، بمعاونة جيش فيتنام الجنوبي، من التغلب على ذلك الهجوم، فإن كلَّ التقديرات ذهبت إلى أنَّ هذا الانتصار تحول إلى كارثة سياسية وإعلامية حلَّت بإدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، التي فقدت مصداقيتها وخسرت سمعتها وشعبيتها، مع تداول وسائل الإعلام على نطاق واسع صور الفظائع وجرائم الحرب التي ارتكبها الأمريكيون وحلفاؤهم بحق الشعب الفيتنامي، وأيضًا صور توابيت الجنود الأمريكيين الذين عادوا إلى بلادهم قتلى.
كانت الرسالة الأهم التي استهدفت المقاومة الفيتنامية إيصالها من هجوم تيت، أنها لم تُهزم، ولا تزال تحارب من أجل قضية الفيتناميين العادلة حتى تحرير الأرض وتوحيد البلاد، وأن ادعاءات الإدارة الأمريكية بقرب انتصارها في تلك الحرب ليست إلا حلقة من مسلسل الأكاذيب التي اعتادت واشنطن ترويجها خلال تلك الحقبة.
بعد شهور من ذلك الهجوم، خسر الديمقراطيون الانتخابات الرئاسية، وحلَّت إدارة جمهورية جديدة في البيت الأبيض، سعت إثر الضغوط الهائلة للخروج من مستنقع فيتنام الذي غرقت فيه أربع إدارات سبقتها، بناء على حسابات وتقديرات ثبت لاحقًا أنها كانت خاطئة.
"لقد خضنا حربًا عسكرية وخاض خصومنا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي، وكان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا النفسي، وفي هذه العملية فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إنَّ حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر"، هذا ما خلص إليه كيسنجر عام 1969 بعدما أيقن أنَّ بلاده لن تحقق أهدافها من تلك الحرب، حتى بعد نصرها العسكري الكاذب في معركة تيت.
انتصار المقاومة في استنزاف العدو
تعددت المقارنات والمقاربات بين ما حدث في هجوم تيت وبين طوفان الأقصى، من حيث إنَّ كلًا منهما استهدف تحريك القضية، وأعلن من خلاله أصحاب الحق تمسّكهم بهدف تحرير الأرض، وقدرتهم على مواجهة عدوهم المتغطرس بقوته، وهزيمته نفسيًا وأخلاقيًا، بتلطيخ سمعته وتأليب الرأي العام ضده.
شملت الأهداف الاستراتيجية التي سعت المقاومة الفلسطينية إلى تحقيقها من طوفان الأقصى إعادة الزخم إلى القضية الفلسطينية التي كادت تسقط من حسابات العالم، وجذب الشعوب العربية مجددًا حول قضيتهم المركزية، وتنبيه هذه الشعوب إلى أنَّ المشروع الصهيوني لا يزال يهدد دولهم، كما أرادت وضع حدٍّ لقطار التطبيع الذي بدا أنه ماضٍ في طريقه وسيلحق به كل العرب.
على جانب آخر، استهدفت المقاومة الفلسطينية من هذه العملية نسف مخطط نتنياهو بـ"شرق أوسط جديد بدون فلسطين"، الذي أعلن عنه خلال وجوده في الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، بالإضافة إلى هز ثقة الإسرائيليين في جيشهم الذي وعدهم بتوفير الأمان، فإذا به يتداعى أمام مجموعة من المقاتلين المجهزين بأسلحة بسيطة.
عملت المقاومة الفلسطينية أيضًا على كشف الوجه الحقيقي للدولة العبرية التي ساءت سمعتها على مستوى شعوب العالم، حتى أن اسمها لا يُذكر إلا متبوعًا بتعبيرات الإبادة الجماعية والفصل العنصري وجرائم الحرب ضد المدنيين.. إلخ.
حتى الآن تحقق للمقاومة ما أرادت، فالكيان الصهيوني تعرض لهزيمة استراتيجية ساحقة لم تلحق به منذ تأسيسه، وكل ما يفعله نتنياهو ومجلس حربه هو مضاعفة عدد القتلى المدنيين واستهداف البنية التحتية للقطاع، لتتحول غزة إلى منطقة تستحيل الحياة فيها.
زاد ذلك منسوب الخسائر الاستراتيجية التي تلحق ببلاده، فكلما زادت عمليات الإبادة والتدمير زاد احتقار العالم لهذا الكيان واستحكمت عزلته وصار منبوذًا، على الأقل على مستوى الشعوب، فيما تتراكم مشاعر الكراهية والرغبة في الثأر والانتقام في نفوس العرب والمسلمين، ما يُغلق الباب تمامًا أمام قبول تلك الدولة باعتبارها كيانًا طبيعيًا في المنطقة يمكن التعايش معه بأمان.
ورغم وجود فصائل وكتائب وألوية تناضل بالسلاح في غزة وتشتبك مع قوات الاحتلال على مدار الساعة منذ اندلاع المعركة الأخيرة، مثل شهداء الأقصى وألوية الناصر صلاح الدين وكتائب أبو علي مصطفى وألوية المجاهدين وكتائب المقاومة الوطنية وغيرها، فالإمكانات المادية والتقنية والبشرية لكتائب القسام وسرايا القدس، الجناحين العسكريين لحركتي حماس والجهاد، جعلتهما في صدارة المعركة النفسية والإعلامية التي تضغط على إسرائيل وحشرتها في الزاوية أمام شعبها وأمام الرأي العام.
ما يبثه الفصيلان يوميًا على قنوات الأخبار وحسابات السوشيال ميديا من فيديوهات لمعارك واستهدافات واشتباكات من المسافة صفر مع جنود جيش الاحتلال، أظهر هشاشة هذا الجيش وعدم قدرة جنوده على خوض حرب المدن، في المقابل صار المقاتلون الفلسطينيون الذين يخوضون معاركهم بأسلحة معظمها تم تصنيعه أو تطويره محليًا رمزًا للجسارة والاستبسال والتضحية.
الاستنزاف سياسي ومعنوي أيضًا
عندما بدأت تلك المقاطع في الظهور، لم ينتبه كثيرٌ من المتابعين لأنَّ الأمر بند رئيسي من خطة استراتيجية تطورها المقاومة وفق المعطيات على الأرض. وقُسِّمت خطة الحرب النفسية والإعلامية هذه إلى مراحل، لكلِّ مرحلة خطابها وصورها ومقاطعها القادرة على خلق انطباعات وتأثيرات من شأنها تغيير توجهات أو صناعة رأي عام.
ففي البداية كان الهدف هو نسف حالة التعاطف التي حصلت عليها إسرائيل عبر سردياتها الكاذبة لما جرى في مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر، وتحقق ذلك سريعًا من خلال معلومات وتحقيقات نُشرت لاحقًا في كبريات الصحف عن استهداف الجيش الإسرائيلي جنوده وأسراه مطبقًا خطة "هنيبال" التي تقضي بالتخلص من الأسرى حتى لا يُمنح أعداؤهم ورقة تمكنهم من التفاوض.
تبع ذلك مرحلة خلق بناء رأي عام دولي متعاطف مع الفلسطينيين، وذلك من خلال نشر صور للمأساة اليومية التي يمر بها أهل غزة إثر استمرار عمليات القصف العشوائي لبيوت المدنيين واستهداف المستشفيات والمرضى والأطفال حتى حديثي الولادة منهم، وهو ما تحقق بالفعل حتى صار العالم كله يتحدث عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
واستغلت المقاومة فترة الهدنة وعمليات تبادل الأسرى في تقديم صورة معاكسة لجنود الاحتلال، الذين ظهروا عبر ما نشروه هم من صور كأوغاد متعطشين لدماء الأبرياء، يتباهون بقتل الأطفال ويدفنون الأسرى أحياء، ويمثلون بالجثث ويسرقون أعضاء الأموات، فيما ظهر مقاتلو حماس والجهاد وهو يحترمون أسيراتهم ويعاملونهنَّ باعتبارهن "ملكات" على حد وصف عائلة إحداهن.
وبعد عملية الاجتياح البري، استهدفت فصائل المقاومة توصيل رسائل عبر مقاطع الفيديو التي تبث مشاهد القتال تثبت فيه زيف ادعاءات الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على مناطق وأحياء ومدن، وتستعرض فيها مستوى تسليحها وتدريبها وشجاعة مقاتليها الذين يلاحقون الدبابات والمدرعات بالعبوات الناسفة ومن مسافات يمكن قياسها بالسالب في بعض المقاطع.
وكما شكلت صور ومقاطع الاستهداف والاشتباك وحرب الشوراع عامل ردع لجنود جيش الاحتلال، أفقدت الجمهور الإسرائيلي الثقة في حكومته التي وعدته بأنها ستقضي على حماس وتعيد الأسرى أحياء من خلال العمليات العسكرية، وتعمقت الأزمة عندما اعترف الجيش نفسه بأنه قتل بعض أسراه رغم رفعهم الرايات البيضاء.
ولعبت حماس والجهاد على هذا الوتر بإذاعة تسجيلات لأسرى آخرين يحذرون من أن استمرار القصف سيعرض حياتهم للخطر، وهو ما حدث بالفعل مع مجموعة أخرى قُتلت بسبب القصف العشوائي للمباني.
رغم فاتورة الدم المرتفعة وسقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين بين شهيد ومفقود ومصاب، فإن المقاومة لا تزال حتى الآن طرفًا فاعلًا يخوض معركة غير متكافئة ويحقق انتصارات عسكرية وسياسية ونفسية وإعلامية، لكنَّ الخوف من إجهاض كلِّ هذه الانتصارات بمفاوضات ومبادرات ترمي في معظمها إلى العودة لوضع ما قبل 7 أكتوبر، وهو ما لم تقبله المقاومة حتى الآن رغم الضغوط التي تتعرض لها من كل الأطرف.