بدأ كل شيء عندما ظهر محامٍ فجأة من العدم.
في 17 يونيو/ حزيران 1972، ألقي القبض على خمسة أشخاص وهم يزرعون أجهزة تنصُّت داخل مقر اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، في المجمع السكني ووترجيت بالعاصمة الأمريكية واشنطن. قُدّم الخمسة لاحقًا للمحاكمة، وعندما ظهر خلال أولى جلسات المحاكمة محامٍ يترافع عن المتهمين، استرعى ذلك انتباه بوب وودوارد، مراسل واشنطن بوست.
ما أثار اهتمام وودوارد هو أن المتهمين الخمسة، الذين لم يجروا أي اتصال هاتفي منذ لحظة القبض عليهم، رفضوا خلال جلسة المحاكمة أن يترافع عنهم محاميان قررت المحكمة تعيينهما من أجل هذه المهمة، واختاروا محاميًا آخر للدفاع عنهم. كان السؤال الأول الذي بدأ القصة كلها؛ من الذي أوكل للمحامي الثالث مهمة الدفاع في هذه القضية؟
من هنا يبدأ وودوارد مع شريكه كارل برينستون سرد قصة فضيحة ووترجيت، التي انتهت ببيان استقالة ألقاه الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية ريتشارد نيكسون في الثامن من أغسطس/ آب عام 1974، في كتابهما كل رجال الرئيس والذي حوّله لاحقًا المخرج آلان باكولا إلى فيلم بنفس الاسم (All the President's Men).
ريتشارد نيكسون كان رئيسًا مفضلًا للسينما الأمريكية، تناولته عدة أفلام إلى جانب كل رجال الرئيس، مثل نيكسون (Nixon) فروست/ نيكسون (FROST/NIXON) و(Our Nixon) وغيرهم من الأفلام الروائية والوثائقية والتي كان آخرها فيلم ستيفن سبيلبرج "ذا بوست" (The Post) في إشارة لصحيفة واشنطن بوست التي تصدّت عام 1971 مع نيويرك تايمز وبوسطن جلوب وصحف أخرى، لنشر وثائق البنتاجون المسربة عن حرب فيتنام، لتدخل في نزاع قانوني مع البيت الأبيض انتهى نهاية سيئة بالنسبة لنيكسون.
يتناول كل رجال الرئيس، تمامًا مثل "ذا بوست"، أزمات نيكسون مع الصحف، أو ربما مع واشنطن بوست على وجه الخصوص، ورغم اختلاف الحادث الذي يتناوله كل فيلم، فإن ثمة تتابع قد يجعل أحدهما يمهّد للآخر، أو هكذا اختار سبيلبرج عندما ختم فيلمه بمشهد كشف الرجال الخمسة داخل مجمع ووترجيت، وهو في الوقت نفسه أول مشاهد كل رجال الرئيس، كأنه يحيلنا إليه مجددًا.
ولكن الاختلاف الأهم بين الفيلمين يبقى في السياقات التي شهدت ظهور كل واحد منهما.
تفاصيل وود-ستون
عُرض كل رجال الرئيس في صالات العرض عام 1976 بعد سنتين فقط من استقالة نيكسون، مستندًا إلى كتاب الصحفيين الشابين اللذين يحتفيان بانتصارهما، ليصبح في النهاية توثيقًا لقصة مقالات وود-ستون التي كشفت الحقيقة وأطاحت بالرئيس، أما فيلم سبيلبرج فجاء في خضم صراعات يخوضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع وسائل الإعلام ومع رموز هوليود على حد سواء، ليبدو كفيلم يحاول تذكير ترامب ببعض الأمور.
في كل رجال الرئيس نحن مهتمون بالإجابة عن سؤال "كيف وقع كل ذلك"، كيف وصل وودوارد (روبرت ريدفورد) وبرينستون (داستن هوفمان) إلى حقيقة الأمر؟ متى بدأت الشكوك تحوم حول تورط مسؤولين كبار في لجنة إعادة انتخاب نيكسون؟ وما هي الخيوط التي لاحقها وود-ستون، وإلى أين آلت بهما؟
بدأت شكوك وودوارد إذن عندما ظهر محامٍ من العدم في قاعة المحكمة. فتح ذلك نقاشًا حول احتمال تورط مسؤولين كبار في قضية التجسس على مقر الحزب الديمقراطي، قبل أشهر من انتخابات الرئاسة التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1972، وبدأ وود-ستون يعملان على المسألة، خاصة مع وجود اسم مسؤول في البيت الأبيض ورقم هاتفه في مفكرة كانت مع أحد المقتحمين الخمسة.
ساعات طويلة يلاحق وود-ستون الخيوط، ينسخان سجلات الكتب التي استعارها مسؤولو البيت الأبيض من مكتبة الكونجرس طوال سنة كاملة، يلاحقان قائمة طويلة تضم كل أعضاء الحملة الانتخابية لنيكسون ويرصدان الأموال التي تدفقت إلى لجنة إعادة انتخابه وإلى أين ذهبت، مع مساعدة بالطبع من الصوت العميق.
الصوت العميق
استند وود-ستون في سلسلة مقالاتهما على مصدر مجهّل أشارا إليه باسم "الصوت العميق"، كان يلتقي بودوارد في مرآب سيارات على أطراف العاصمة واشنطن، وقد ظل صاحب الصوت العميق هذا مجهولًا حتى عام 2005 عندما أعلن مارك فيلت والذي كان نائب مدير المباحث الفدرالية FBI في تلك الفترة، أنه هو ذلك الصوت العميق بطل قصص وود-ستون.
نحن هنا إذن بصدد فيلم مهموم بسرد التفاصيل الصغيرة وتركيبها كقطع البازل من أجل إدراك القصة كاملة، فيلم بعيد تمامًا عن كل الإكليشيهات المعتادة عن الحرية وعن العناوين العريضة الرنانة، طوال نحو ساعتين ونصف لم يأتِ ذكر التعديل الأول في الدستور الأمريكي سوى مرة واحدة، لا تكاد تلمح أثرًا لأحاديث السياسة، نحن هنا نشاهد قصة صحفيين يقومان بعملهما ويحتفيان بنجاحهما الشخصي والمهني.
هنا سيكون الصحفي هو بطل الحكاية، وصالة التحرير هي المكان الأساسي الذي نألفه، نتحرك منه ونعود إليه، بكل ما فيه من فوضى وصخب وضوضاء، الأوراق المتناثرة بعشوائية هنا وهناك، ثرثرة الصحفيين ورنين أجراس التليفون وضجيج النقر على مفاتيح الآلة الكاتبة، رغم كل هذا فإنه سيكون المكان الأكثر راحة طوال الفيلم.
ولأن الصحفي هو البطل في كل رجال الرئيس، فإن الفيلم لم يهتم كثيرًا بالتحقيقات التي أجراها الكونجرس مع الرئيس ورجاله، كما لم يتطرق إلى إحالة القضية إلى المحكمة العليا، نحن فقط نشاهد كيف استطاع وود-ستون تضييق الخناق شيئًا فشيئًا على نيكسون ورجاله ونجحا في إثبات أن اقتحام مقر ووترجيت لم يكن حادثًا منفردًا، لكنه كان في سياق حملة تجسس ممنهجة ضد الديمقراطيين مولتها حملة نيكسون وبمعرفته، لتستخدم هذه المعلومات في تشويه جورج ماكجفرن المرشح الديمقراطي المنافس في انتخابات 1972.
رسائل سبيلبرج
على العكس من كل رجال الرئيس فإن الصحفي كان له دور ثانوي في "ذا بوست".
في "ذا بوست" نحن مهتمون بقضية "حرية الصحافة"، وهي القضية التي أثيرت بين البيت الأبيض ومجموعة من الصحف أبرزها نيويورك تايمز وواشنطن بوست، على خلفية نشر وثائق سرية من البنتاجون تكشف دور الولايات المتحدة في فيتنام منذ عام 1945 وحتى مطلع السبعينيات، وتوضح أن الرؤساء الأمريكيين ليندون جونسون وجون كينيدي وريتشارد نيكسون كانوا على علم باستحالة تحقيق نصر عسكري أمريكي في فيتنام، ومع ذلك استمروا في خوض الحرب وكذبوا على الكونجرس وعلى المواطنين.
عندما بدأت نيويورك تايمز نشر هذه الوثائق في 13 يوليو/ تموز 1971، حصلت الحكومة على أمر قضائي يمنع نيويورك تايمز من مواصلة النشر، لتتلقف واشنطن بوست وغيرها من الصحف العصا وتكمل نشر الوثائق، قبل أن تتصدى المحكمة العليا في البلاد للمسألة قضائيًا وتصدر حكمًا تاريخيًا بأنه ليس من حق الحكومة أن تحاول فرض رقابة على الصحف ولا أن تمنعها من نشر أي وثائق بحوزتها.
ولأن سبيلبرج هنا بصدد التأكيد على أهمية حماية حرية الصحافة كمبدأ وقيمة؛ فإنه يركز أكثر على إبراز ما يهدد الصحافة الحرة، أي السلطات الحكومية التي تحاول منع النشر في القضايا التي تزعجها، وأصحاب رأس المال الذين يحاولون النأي بالصحف التي يمتلكون أسهمًا فيها عن المشاكل.
تتعرض كيث جراهام (ميريل ستريب) والتي ورثت صحيفة واشنطن بوست عن زوجها لضغوط شديدة من المستثمرين بعد أن عرضت صحيفتها أسهمًا في البورصة من أجل تخفيف حدة ما تنشره، بينما تحاول هي أن تقاوم هذه الضغوط التي تدفعها لتجاوز مبدأ أساسي في العمل الصحفي يمنع ملاك الصحف من التدخل في السياسة التحريرية للصحف التي يمتلكونها، مثلما تحاول أيضًا مقاومة ضغوط أخرى من شخصيات سياسية متورطة في القضية تربطهم بها علاقة شخصية، مثل وزير الدفاع حينها روبرت ماكنمارا.
تبدو جراهام مرتبكة دائمًا، تتلعثم وهي تحاول أن تقنع رئيس تحرير صحيفتها بن برادلي (توم هانكس) بالابتعاد عن المشاكل، تستيقظ بفزع من نوم غير مريح وهي ترتدي نظارة القراءة وتحيط بها الوثائق والأوراق، تسقط كرسيًا أثناء مرورها بين طاولات المطعم، ولكنها رغم كل شيء تختار دعم صحفييها ومواصلة الصدام مع البيت الأبيض حتى النهاية.
إكليشيهات مفيدة
الصحفيون في "ذا بوست" شخصيات ثانوية، كيفية الحصول على الوثائق السرية من البنتاجون استغرقت نحو ثلاث مشاهد، مكالمة هاتفية ورحلة طيران ولقاء سريع في أحد الفنادق، التركيز كله على صراع المؤسسات بين واشنطن بوست والبيت الأبيض، التفاصيل الصغيرة التي تتعلق بالمهنة غائبة، صالة التحرير مكان ثانوي، لا أوراق متناثرة فيه ولا تناغم لضوضاء الصحفيين مع النقر على الآلة الكاتبة، يغيب كل هذا لصالح كادرات واسعة تعزز في ذهن المشاهد قيمة واشنطن بوست كمؤسسة عريقة تقارع البيت الأبيض، عزز سبيلبرج هذه الفكرة بإكليشيهات معتادة في السينما الأمريكية، مثل ذلك المشهد المسرحي الذي تقف فيه صحفية وسط صالة التحرير وتتلو نَصَّ الحكم القضائي الذي ينتصر لحرية الصحافة وينهي حظر النشر في القضية وسط تصفيق حاد.
هذه التفاصيل تبدو مفهومة في ظل الظرف السياسي الذي عُرض فيه "ذا بوست"، خلال العام الماضي، أي بعد نحو سنة من تولي دونالد ترامب مقاليد الأمور في واشنطن، أدخل نفسه خلالها في مناوشات عديدة مع وسائل إعلام وجهت له النقد أو نشرت معلومات كان يفضّل الاحتفاظ بسريتها، بعضها عن علاقاته الجنسية المدفوعة، وبعضها الآخر عن علاقة الاستخبارات الروسية بحملته الانتخابية.
مناوشات ترامب لم تقتصر فقط على وسائل الإعلام، فقد شن الرئيس الأمريكي هجومًا كذلك على العديد من رموز هوليود، مثل الممثلة ميريل ستريب التي قامت بدور بطولة في "ذا بوست"، ووصفها بأنها "ممثلة مبالغ في تقديرها" بعد أن وجهت نقدًا لسياساته، ومثل ستريب كثيرين ممن اصطدموا برجل الأعمال الذي يسكن البيت الأبيض.
هنا إذن يبدو سبيلبرج مهتمًا بإيصال رسالة محددة وإعلان موقف واضح من التعديل الأول على الدستور الأمريكي "لا يصدر الكونجرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميًا، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف".
دروس قاسية تلقاها ريتشارد نيكسون على يد الصحافة، وثقها السينمائيون كلٌّ بطريقته، ولكن في النهاية حكايات وود-ستون ورسائل سبيلبرج، ستبقى تذكيرًا لمن يرتكبون ما ارتكب نيكسون.