
أحمد مكي "الراجل أوي".. من الراب الكول إلى الراب الوعظي
تحولات لافتة مر بها المشروع الفني للمخرج والممثل والكاتب والرابر المصري أحمد مكي، المولود في 19 يونيو/حزيران 1978، لأب جزائري وأم مصرية.
المشروع الذي بدأه مكي بكركترات كوميدية مميزة مثل إتش دبور في مسلسل تامر وشوقية عام 2006 مع أحمد الفيشاوي ومي كساب، ثم في فيلم مرجان أحمد مرجان، وحزلقوم في لا تراجع ولا استسلام عام 2021، تحول تدريجيًا على مدى سنوات وتجارب لإعادة إنتاج للأبوية المصرية والتصورات التقليدية للذكورية بسمات النصح والوعظ.
لا يهدم مكي التصورات التقليدية للذكورية، بل يُعيد تغليفها بزيّ المصلح الاجتماعي، ويجعل من الهيمنة الرجولية أمرًا محببًا ومقبولًا وجزءًا من "الصح".
يمكن رصد بداية تحوله إلى تيمة ابن البلد الشهم، في مسلسله الأشهر الكبير أوي وفي أغاني الراب، التي يكتب كلماتها ويغنيها ويخرجها.
من دبور إلى الكبير
في الكبير أوي، يتكرر النمط الذكوري الأخلاقي بوضوح؛ حيث تُصوَّر المزاريطة؛ البلد التي يحكمها العمدة/مكي، مكانًا يعج بالأغبياء، بينما الكبير هو الأذكى بينهم والعارف بالصواب والخطأ والعيب والصح، بالتالي يستحق قيادتهم.
يعتمد المسلسل على كوميديا الموقف، لكنه يعزز فكرة أن الصعيدي الرجل الصارم ورمز الرجولة هو الوحيد القادر على تحمل المسؤولية، بينما الباقون إما أغبياء أو ساذجون.
يقدم مكي نموذجًا مغايرًا لابن البلد عند رمضان والعوضي من خلال الالتزام الصارم بالأطر الأخلاقية
يمتد النمط الذكوري إلى أفلام مكي، ففي فيلم لا تراجع ولا استسلام تحوّل حزلقوم من شخص مستهتر وغبي إلى رجل صامد يُكمل مهمته ويحمي حبيبته وأمه، هذا رغم أن الكوميديا في الفيلم مبنية أساسًا على غباء الشخصية وصوتها المميز.
لا يبدو أن تصورات الفنان الذي قضى طفولته وشبابه في منطقة الطالبية فيصل عن الرجولة والجدعنة موجهةٌ في الأساس نحو استهداف شريحة ما من الجمهور، لكنها تصورات تستند إلى رؤيته لنفسه ولموقعه من العالم، ففي أحد اللقاءات تحدث بفخر عن والده الجزائري شديد السُمرة، وانتمائه إلى قبيلة بني هلال العربية، التي يُنسب إليها البطل الشعبي الأسطوري أبو زيد الهلالي.
يغاير نموذج مكي الرجولي النمط الذي يتبناه فنانون آخرون مثل محمد رمضان وأحمد العوضي اللذين يفضلان الذكورية المرتبطة بالهيمنة والقوة البدنية، حيث يظهران غالبًا في أدوار الرجال الذين يفرضون سيطرتهم، سواء كانوا في جانب الخير أو الشر.
على سبيل المثال يمكن لرمضان أن يجسد شخصية ابن بلد جدع، لكنه في الوقت نفسه لا يجد مشكلة في لعب دور المجرم الصاعد أو الرجل الذي يكتسب مكانته بالقوة والدهاء، ليعزز صورته الأسطورية التي يريدها لنفسه ويفضلها كرجل لا يُقهر.
يسير العوضي هو الآخر في طريق رمضان نفسه، حيث يعتمد على صورة الرجل الصلب الذي يحل مشاكله بالقوة، مع وجود مشاعر عاطفية تجاه أفراد أسرته أو محبوبته، لاكتساب التعاطف.
أما مكي، فيحيط نموذج "ابن البلد الجدع" بإطار أخلاقي صارم. فهو ليس فقط الرجل القوي، بل هو الرجل الذي يُفترض أن يكون قدوة، وهذا يتضح في شخصياته الكوميدية وحتى في الراب الوعظي الذي يقدمه.
على النقيض من رمضان والعوضي، لا يُظهر مكي أي انحراف عن القيم التقليدية، ولا يقترب من شخصيات المجرمين أو الخارجين عن القانون، مما يجعله أكثر أمانًا للعائلات وأقرب لفكرة البطل الإيجابي أو المحافظ على قيم الأسرة المصرية.
ابن البلد المهيمن
في مشواره الغنائي، يسير مكي على النهج نفسه، تحوّل إلى الراب الوعظي، حيث يقدم نصائح أخلاقية وينتقد ظواهر اجتماعية بأسلوب أقرب للموعظة، بدلًا من أن يكون صاحب كاريزما شبابية مثل باقي مغني الراب.
أمثلة ذلك تظهر في أغاني مثل فيسبوكي، حيث ينتقد ثقافة السوشيال ميديا ويؤكد أنه لا يملك حسابًا على فيسبوك، وكأنه يضع نفسه في موضع الناصح الأخلاقي. كذلك في أغنية قطر الحياة، حيث يحكي عن معاناة الشباب مع الإدمان والانحراف، مقدمًا رسائل توجيهية واضحة حول أهمية الأخلاق والاجتهاد في الحياة. وحتى في أغنية أيام زمان، التي تبدو ذات طابع نوستالجي، فإنه يرسّخ مفهوم أن الماضي كان أكثر أصالة ورجولة مقارنة بالحاضر.
https://www.youtube.com/watch?v=DjLpLaGPANMفي أغنية وقفة ناصية زمان، يعتمد مكي على النوستالجيا مرة أخرى ليؤكد على قيم الرجولة والشهامة التي يرى أنها تراجعت في الزمن الحالي.
هذا التوجه يجعله مختلفًا عن مشهد الراب المصري، الذي يعتمد غالبًا على السرد الشخصي والتعبير عن التحديات الحياتية بأسلوب أكثر فردية وذاتية. على العكس، يبدو وكأنه يؤدي دور المصلح الاجتماعي الذي يسعى لتوعية جمهوره بدلًا من مجرد مشاركة تجاربه الشخصية، كما يفعل مغنون آخرون في الراب المصري مثل ويجز أو مروان بابلو، بل يفضل نموذج "الأخ الأكبر" الذي يوجه النصائح للمستمعين.
سمير أبو النيل
نادرًا ما خرج مكي عن هذا السياق، مثلما حدث في فيلم سمير أبو النيل الذي كتبه بلال فضل. هنا، يقدم شخصية مختلفة لرجل بخيل تتركز الكوميديا حول المفارقات الناتجة عن بخله، وليس حول جدعنته أو تحوله إلى البطل الشهم.
تتحرك الأحداث السياسية لثورة يناير وما تلاها في الخلفية، لكن سمير لا يظهر مُصلحًا اجتماعيًا أو قائدًا أخلاقيّا، بل شخص أناني يتعرض للخداع في النهاية قبل أن يسترد أمواله.
هذه المساحة التي أعطاها بلال فضل للكوميديا الصافية جعلت الفيلم مختلفًا عن أعمال مكي الأخرى، حيث يتحكم في السرديات التي يقدّمها بنفسه، لضمان أن تبقى ضمن رؤيته الخاصة عن البطولة والرجولة.
الغاوي
في أحدث أعماله، مسلسل الغاوي، الذي عُرض في رمضان 2025، حاول مكي أن يقدم شخصية مختلفة عن نمطه المعتاد. من خلال تيمة رجل يعيش في منطقة شعبية ومغرم بتربية الحمام، لكنه ليس بالضرورة الشهم الجدع المثالي، بل يظهر بصراعات داخلية أكثر تعقيدًا. ورغم أن العمل يبتعد عن الكوميديا الصريحة التي ميزت الكبير أوي، فإنه لا يخرج تمامًا عن قالب "ابن البلد" الذي يواجه تحديات الحياة بعزيمته وذكائه الشعبي.
يكشف الغاوي عن محاولات مكي للبحث عن اتجاهات جديدة، لكنه لا يزال مرتبطًا برؤيته التقليدية للبطل الشعبي الذي يحمل قيم الرجولة والشهامة كجوهر أساسي لشخصيته.
على مستوى الراب في مسلسله الأحدث، يختلف مكي عن مغنين مثل أبيوسف أو شاهين، اللذين يقدمان رؤية أكثر تحررًا وغير مرتبطة بالنصائح الاجتماعية المباشرة.
يمكن قراءة هذا العمل على أنه مجرد تغيير في الشكل لا المضمون مثله مثل مسلسل خلصانه بشياكة، من إنتاج 2017، الذي قدم من خلاله فنتازيا كوميدية خارج النمط المعتاد، لكنه كان امتدادًا أيضًا لنظرته الذكورية حيث صور المسلسل في بدايته أن العالم عبارة عن صراع بين الرجال والنساء.
في خلصانة بشياكة، تتولد الكوميديا من غباء الرجال، لكنه يصورهم في الوقت نفسه ضحايا للتطرف النسوي، حيث يسعون للانتقام منهم في عالم ما بعد الكارثة، وسرعان ما تعود الأمور إلى نصابها من وجهة نظر ذكورية بأن الرجل رجل والست ست، وأن "مكي" ابن بلد وجدع ومحتفظ بأخلاق وحقيقة وأصالة ما.