أعقل مجانين الأنمي.. ساتوشي كون وألاعيبه
منذ انطلاقته الأولى في بدايات القرن العشرين، ومع تطور تجارب الرسوم المتحركة اليابانية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وصل الأنِمي إلى ذروته باعتباره إحدى أقوى الصناعات الثقافية عالميًا.
عبر هذا المدى الزمني الطويل، ظهرت أسماء لامعة أسست مدارس رئيسية في هذه الصناعة؛ أوسامو تيزوكا (1928–1989)، الأب المؤسس للأنمي الحديث، وهاياو ميازاكي (1941) الذي قدّم عوالم جيبلي الساحرة، وإيساو تاكاهاتا (1935–2018) صاحب الواقعية الشعرية.
في قلب هذه الخريطة، برز ساتوشي كون (1963-2010)، المخرج الذي لم يعش طويلًا (47 سنة) لكنه أعاد صياغة الحكاية البصرية، وصنع أفلامًا صورت حياتنا وذواتنا من زاوية مبتكرة محت الحدود بين الواقع والحلم.
الكمال الأزرق
لم يكن الجمهور الذي شاهد فيلم كون الأول Perfect Blue (1997) يتوقع ما الذي سيمثله هذا الاسم في عالم صناعة الأنمي اليابانية. ربما لم يعرفوا كذلك ما الذي سيمثله في مسيرة الرجل الذي ألهم كريستوفر نولان في صناعة فيلمه الأيقوني Inception من إنتاج 2010، ونسخ دارين أرنوفسكي مشاهده في أشهر أعماله Black Swan.
لكن الأكيد أن الجماهير التي تعرضت في المرة الأول لتلك الهلوسة البصرية، والقصة المفعمة بالمعنى، والمزج حتى آخر لحظة بين الواقع والخيال، أثرتهم هذه الخلطةُ تمامًا كما أثرهم الصانعُ الذي بدأ رسام مانجا وهو شاب في الرابعة والثلاثين من عمره، ثم انتقل مع أسلوبه المميز من الورق للشاشة مخرجًا لأربعة أفلام طويلة ومسلسل تلفزيوني وعدة أفلام قصيرة.
سرعان ما أُسدل الستار على هذه المسيرة القصيرة لا لأن مبدعها أفلست أفكاره بل لأن سرطان البنكرياس سيمنعه من البقاء في عالمنا لمدة أطول، وسيحرمه من الحياة بين حكاياته ويحرمنا من الاستزادة من فن رجل فريد من نوعه.
هناك الكثير من التفاصيل المفتاحية التي نجدها في Perfect Blue وتساعدنا في فهم عالم ساتوشي كون، منها على سبيل المثال اختيار الفتاة ميما بطلةً للقصة وهو ما يتكرر في أفلامه.
يبرر كون اختياره الفتيات بطلات لأعماله، بتأكيد أنه لا يستطيع التعامل مع الأبطال الذكور لأنه يعرف حقيقتهم بحكم كونه ذكرًا، ولذلك تسمح له البطولات النسائية بافتراض المشاعر والأفكار حسب ما يريد هو رسمه وليس حسب ما يعرفه ويفهمه.
هناك أيضًا الشخصية الرئيسية التي تنقسم إلى طرفين يحاربان أو يكملان بعضهما البعض أو يفعلان الأمرين على طول الطريق.
كذلك يتكرر القطع الجريء الذي لا يعتد بفهم المتفرج ولا يفسر له بتسلسل اعتيادي بل يرميه في خضم المشاهد ويطلب منه أن يجد مكانه داخل الأحداث.
العرّابون الثلاثة
لا يتخلى كون عن أسلوبه الخاص إلا في عمله الثالث Tokyo Godfathers، فنراه يُخلِص للقصة الإنسانية عن المشردين الثلاثة مختلفي الطباع الذين يعثرون على رضيع ملقى في مكب نفايات كانوا ينبشون داخله عن هدية رأس السنة لأصغرهم، وهي مراهقة هربت من منزلها بعد أن طعنت والدها بسكين طعام على إثر خلاف.
لأجل هذه القصة لا يستخدم كون تقنياته السردية والإخراجية المعتادة. رُبما يفعلها في حدود الأحلام فقط، أو في مشهد عابر، فذلك طبع لا يمكن له بسهولة التغلب عليه. لكننا نجده أغلب الوقت يصب اهتمامه على القصة نفسها؛ على عاطفة "هانّا" الذكر بيولوجيًا الذي يشعر أنه وُلد في الجسد الخطأ ويفيض بعاطفة أمومية تجاه الرضيع المكتشف حديثًا، يفعل أيضًا مع "جين" المقامر الذي يروي قصة مختلقة عن نفسه لتحسين صورته أمام رفاقه.
تَهزم القصص الإنسانية المؤثرة أحيانًا كون فتجعله يتخلى عن شيطنته الإخراجية المعهودة؛ الذهان والمدينة السريعة والمجتمع الاستهلاكي والرعب النفسي والغموض، وهو ما نراه بشكل واضح في قطبي قمة مجده الفني، الكمال الأزرق وبابريكا، ومسلسله الوحيد Paranoia Agent.
إذا جمعنا ما تعرفنا عليه حتى الآن من أعمال كون سنجد أنه من أصل 4 أفلام، أنتج عملين مستخدمًا أسلوبه المعهود وأنتج عملًا واحدًا فقط تخلى فيه عن أسلوبه، ليجعل من القصة بطل الحدث، ويبقى عمل واحد هو Millennium Actress.
ممثلة الألفية
Millennium Actress أو ممثلة الألفية هو العمل الثاني في ترتيب أعمال كون، بعد Perfect Blue وقبل Tokyo Godfathers. من المهم أن نستعيد تفاصيل هذا الفيلم الذي نعرفه على أنه "استثنائي" في ظروف غير استثنائية بالمرة.
بدأت قصة إنتاج ممثلة الألفية من عند تاكو ماكي، وهو برديوسر زميل لكون في استوديو Madhouse الذي أنتج جميع أعماله، بعد صدور Perfect Blue أراد ماكي أن يتعاونا سويًا لإنتاج فيلم جديد. لكنه لم يكن متأكدًا بشأن القصة أو المفهوم الذي يجب أن يتعاونا فيه، قال "ليس من الضروري أن يكون تمامًا كبريفكت بلو، ليس فيلم إثارة، يمكننا فحسب أن نهتم بالجزء المجسم".
شرح ماكي ذلك "التجسيم" الذي قصده في الفيلم الوثائقي عن صناعة ممثلة الألفية، كان يتصور شيئًا مثل Stereogram، شيء قد تتغير نظرتنا له وفق الزاوية التي نشاهده منها.
سرعان ما بدأ العمل من هذا المنطلق، لا أفكار مُحددة، لكنهما عرفا أن عملهما سيتكون من قصص معروضة داخل قصص، شيء يشبه عرض مسرحي متشابك مثل الحلقات.
وقع الاختيار على الحياة الغامضة والمشوار الفني المهم للممثلة اليابانية سيتسوكو هارا، التي بدأت مشوارها في سن المراهقة مثل تشيوكو واختفت عن الأضواء مبكرًا أيضًا. وهي البطلة الأهم في سينما ياسوجيرو أوزو الملقب بشاعر السينما اليابانية.
الخروج إلى النور
انتهت القصة في ربيع 1998، وانتهى الفيلم بالكامل في 2001 وحاز على تكريمه الأول بمهرجان الفانتازيا بمونتريال في 21 يوليو/تموز من نفس السنة، وكان من المفترض أن يبدأ الفيلم بعدها رحلة توزيعه في السوق الأمريكية ويتوج بالمجد الذي يكلل ثلاث سنوات من العمل، إلا أن حدثًا غير متوقع أفسد الخطة. صدر في الشهر نفسه فيلم Spirited Away/المخطوفة، لمخرج ياباني آخر لا يقل عبقرية عن كون، هو هاياو ميازاكي.
خطفت تشيهيرو بطلة فيلم ميازاكي الأضواء التي كانت من المفترض أن تنعم بها تشيوكو بطلة كون. لم يحصل الفيلم على توزيع خارجي لائق، ورغم حصوله على إشادات نقدية وبعض الجوائز فإن مشاهدة وحيدة للفيلم كفيلة بأن نجادل أن ممثلة الألفية كان ليحوز مجدًا مختلفًا ومركزًا مميزًا في مشوار كون، ذلك لو أن القدر لم يتآمر عليه ويلقي به في طريق المخطوفة.
لنعد مرة أخرى إلى تشيوكو بطلة ممثلة الألفية؛ عجوز متقاعدة عاشت أزهى أيام حياتها في صناعة الأفلام اليابانية والآن ها هي تجلس أمام شخصين، أحدهما منتج برامج قضى شبابه مترددًا بين استوديوهات الأفلام، عرفها قديمًا، أحبها كمعجب وتماهى مع فنها حتى أنه لا يجد صعوبة في تخيل نفسه ممثلًا ثانويًا أو حتى كومبارس في قصص أفلامها، والآخر مصور، ليس من الفئة العمرية التي تأثرت بفن تشيوكو، ليس محكومًا بأي عاطفة أمامها ولكنه يقرأ قصتها بعيني عابر، لا ينفعل، لكنه منتبه لكل شيء.
تحكي تشيوكو عن نفسها، في الفيلم الذي بدا كأنه سيرة ذاتية لها، عن أهم ما وقع في حياتها: حُبها الأول الرسام الثائر المعارض للسلطة والمُطارد منها، الذي أعطاها مفتاحًا وطلب منها أن تحتفظ به لحين يجتمعان مرة أخرى سويًا. تحكي كيف طاردت أثره، كيف قبلت بأول وظيفة تمثيل فقط لأجل أن تكون قريبة من المكان الذي تظن أنها قد تلتقيه فيه.
تتعمق تشيوكو في الحكايات حتى يستحيل التفريق بين الحياة التي عاشتها والحيوات التي أدتها في أفلامها. كل دور، كل عصر، كل سيناريو، جميعها تقود لقصتها هي.
الأبطال الذكور في أفلام تشيوكو مفقودون دائمًا، بينما هي في حالة بحث محموم عنهم. سواء كانت ملكة تقتفي أثر امبراطور، فتاة جيشا، رائدة فضاء، سجينة، آنسة أرستقراطية، في الحرب والرخاء، المستقبل البعيد والماضي الأبعد. وموسيقى سسمو هيراساوا تضفر كل ذلك في حلقة واحدة، حلقة حرفية وصفها بنفسه في الفيلم الوثائقي، حتى أنه أسمى إحدى المقطوعات في الفيلم Rotation بمعنى دورة أو دوران.
إنها بطلة واحدة تعيش مئات الحيوات وهي تجسيد stereogram كما تمنى تاكو ماكي، يمكننا قراءة قصتها من خلال أفلامها وقراءة أفلامها من خلال قصتها وسنفهم أمورًا جديدة مع كل قراءة. وهي مخلصة لهدفها حتى النهاية، حتى عندما تتخلى عنه تتخلى بدون ندم، تتخلى وهي في أقصى درجات التقدير.
ما يجعل تشيوكو الأكثر فرادة بين بطلات كون هو أن أشرار القصة لا يحاربونها هي، أو على الأقل لا يملكون سلطة عليها، وما تحاربه طوال الفيلم هو إيمانها، بين يقينها المطلق لرحلة البحث التي خاضتها على مدار عمرها، وواقع أنها تبحث عن سراب. بين حقيقة أنها أحبت رسامًا معارضًا للسلطة، واتخاذها من العمل في أفلام دعاية الحرب اليابانية وسيلة للوصول إليه، بكلمات أبسط: حاولت تشيوكو الوصول لحلمها باستخدام أكثر الطرق التي ستبعدها عنه.
إنها إنسانة سهل أن نرى أنفسنا في قصتها -نصًا ومجازًا- فهي مثلنا تسعى إلى شيء بكل دمها ودموعها، لكنها لا تعلم إذا كان ذلك الشيء ينتظرها في آخر الطريق أم لا.



