IMDB
لقطة من فيلم The Substance بطولة ديمي مور وإخراج كورالى فارجيت، إنتاج 2024

The Substance.. جوهر الجسد الأنثوي ووحشية نجمة البوب كورن

منشور الأحد 2 فبراير 2025

استبعد صاحب قناة تليفزيونية شهيرة نجمة برنامج الرياضة الصباحي إليزابيث/ديمي مور التي تجاوزت سن الخمسين واستبدل بها "شابةً مثيرةً". تسمع بطلة الفيلم بأذنيها كلام صاحب القناة عنها؛ سخريته من تقدمها في العمر، ووصفه لها بـ"العاهرة العجوز"، وحديثه عن أن خصوبة النساء تنخفض بعد سن الخامسة والعشرين.

لقطة من فيلم The Substance بطولة ديمي مور وإخراج كورالى فارجيت، إنتاج 2024

بعد سماعها الحديث السام لمنتج البرنامج، تتغير نظرة إليزابيث إلى نفسها في المرآة. يخفت حماسها تجاه الاحتفال بعيد ميلادها، تجاه جسدها، ونجوميتها، وقيمتها، وجدوى حياتها، من هنا يكبر دافعٌ داخلها لتخوض تجربة علمية تأخذ من جسدها جوهره الأنثوي "المادة" لتمنحها جسدًا أنثويًا جديدًا؛ نسخة شابة ومثيرة، للتخلص من الجسم القديم المهزوم.

هذه خلاصة نظرة الرجال إلى النساء في فيلم The Substance؛ جسد شاب، مثير، يتمتع بالخصوبة. تبدأ رحلة البطلة من تلك النظرة تحديدًا، وتنتهي بها إلى تدمير جوهرها الأنثوي.

وفق الناقد الفني الإنجليزي جون بيرجر مؤلف كتاب طرق الرؤية "ينظر الرجال إلى النساء، وتنظر النساء إلى الطريقة التي يُنظَر بها إليهن، وهذا لا يحدد أغلب العلاقات بين الرجال والنساء فحسب، بل يحدد أيضًا علاقة النساء بأنفسهن. إنَّ من يراقب المرأة في ذاتها هو الذكر، والأنثى هي التي تخضع للمراقبة، وعلى هذا فإنها تحوِّل نفسها إلى شيء؛ شيء قابل للرؤية".

ولادة ثانية

يولد الجسد الجديد "سو" من جسد "إليزابيث"، والميلاد ليس من الرحم بل من العمود الفقري. وولادة "سو" هي انعكاس للمرأة التي يريدها الجمهور والمنتجون لتصبح نجمتهم الجديدة التي يزين جسدها سماء المدينة على بنراتها الإعلانية. 

خلال هذه الولادة، تخوض إليزابيث رحلةً لا تريدها، رحلة داخل نفسها، لتخسر جسدها القديم غير المرغوب فيه بسبب أنانية الجسد الشاب، لكن جسدها الجديد يصبح عدوها، ويقودنا الصراع الدرامي في الفيلم إلى صراع بقاء؛ أي نسخة تنتصر لتعيش؟ الشابة أم العجوز؟ لينتهي فيلم المخرجة الفرنسية كورالي فارجيت بدمار الجسدين؛ نهاية تطوي رمزيةً واضحةً لدمار الجسد الأنثوي تحت مظلة معايير الجمال.

تكشف التناقضات بين أفعال سو الشابة وإليزابيث العجوز عن الصورة/الطريقة التي يتعامَل بها الرجال مع النساء فوق سن الخمسين؛ سو مغوية، تمارس الجنس، محبوبة من الجميع، يتغاضى جارها عن إزعاجها له فقط لأنها جميلة، فرصة لشهوة محتملة؛ بينما إليزابيث جارة خارج السن، مزعجة، عادية، وحيدة تمامًا، حياتها تنقصها زيارات الحب. لا تحظى بامتيازات عاطفية، وبالتبعية ليست مقبولةً اجتماعيًا.

ومع نهاية عملها يهدي صاحب القناة التليفزونية إليزابيث كتاب طبخ هدية. المطبخ وفق النظرة الذكورية هو المكان المناسب لأي امرأة بعد سن التقاعد. المكان المثالي الذي يريده الرجال للنساء. 

الصراع نفسه تصفه الناقدة والمخرجة الأمريكية سوزان سونتاج في كتابها The Double Standard Of Aging/المعايير المزدوجة للشيخوخة بأن "التقدم في السن بالنسبة لمعظم النساء يعني عملية مهينة من الاستبعاد الجنسي التدريجي".

في كل مرة يظهر هارفي صاحب القناة أتذكر تلقائيًا المنتج المتهم بالتحرش هارفي واينستين الذي استغل أجساد الفنانات لسنوات ليعتدي عليهن مستغلًا نفوذه كمنتج سينمائي متحكم في الصناعة، وبسببه تحدثت النساء وانتشرت حركة Me too المناهضة للعنف ضد المرأة.

كذلكَ فإن الـAgeism أو التمييز على أساس السن بات واحدةً من القضايا التي تشغل النسويات مؤخرًا، ربما لم يكن ذا أولوية في موجة حركة النسويات الأولى، وكانت الأولوية للمساواة في الحقوق، لكن الحديث عن المنظور النسوي للشيخوخة أصبح مهمًا في صياغة علاقة النساء بأجسادهن.

في هذا السياق تحضرني قراءة سوزان سونتاج للمعايير المزدوجة للشيخوخة عند النساء ووصفها للشيخوخة بأنها "حكم اجتماعي أكثر منها احتمالية بيولوجية".

التمييز ضد النساء بسبب تقدمهن في السن هو جزء من سلسلة الأحكام المجتمعية التي تُفرض على الجسد الأنثوي: حجبه، وختانه، ووصمه بالعار، واحتقاره.

ثقافة البوب كورن

قبل أسبوعين حصلت ديمي مور على جائزة أفضل ممثلة عن دور إليزابيث في جوائز الجولدن جلوب، وفي خطابها القصير المؤثر عند تسلم الجائزة قالت "قبل 30 عامًا أخبرني أحد المنتجين أنني ممثلة بوب كورن، وفي ذلك الوقت كان هذا يعني أن مثل هذا الشيء (الفوز بالجوائز الكبرى) لم يكن مسموحًا لي أن أحصل عليه".

تقصد أنه لم يكن مسموحًا لها أن تحصد جوائز، أو أن تقدم فنًا حقيقيًا. لسنوات، أقنعها المنتجون أنها فنانة للتسلية فحسب، فأصبحت ترى نفسها ونجوميتها من زاوية واحدة فقط مفرغة من أي قيمة. ترى نفسها بعين الرجل. ربما كل ما كانت تحتاجه ديمي مور هو العمل مع امرأة تعيد معها النظر إلى جسدها بمنظور أنثوي لا يقلل من قيمتها، امرأة مثل مخرجة الفيلم كورالي فارجيت.

يحكي الفيلم عن العنف الذي يُمارس تجاه أجساد النساء ليكن نسخًا أفضل تعجب الرجال

اختيار ديمي مور لبطولة الفيلم، وأحاديثها عن طبيعة نجوميتها السابقة في التسعينيات، هو امتداد لجوهر الفيلم وسياقه الفني، وصور "سور" الدعائية في الفيلم لا تختلف كثيرًا عن البوسترات التي اختارها المنتجون لترويج أفلام ديمي مور بالتركيز على جسدها مكشوفًا وعاريًا في أفلام مثل Striptease وThe Scarlet Letter.

تعيد النساء الآن تشكيل العلاقة مع السينما، أصبحنا أمام أفلام تقدم حكايات عن النساء من منظور أنثوي لا ذكوري، وتصوِّر أجساد النساء لا كسلعة تجارية مثيرة للشهوات، بل جسد له حضوره ومشاعره الإنسانية الطبيعية.

في المشهد الذي تقف فيه إليزابيث لتتأمل جسدها العاري في مرآة الحمام، تقف الكاميرا وتراقب عريها، علامات الزمن على بشرتها، عين الكاميرا ليست شهوانية أو جنسية، بل عين تعكس داخل إليزابيث، عري الذات لا الجسد.

عالم The Substance مسطح تمامًا، الحياة فيه مكشوفة ومزيفة، الديكورات، الألوان، المساحات التي تتحرك فيها الشخصيات، كل العناصر ميتة ومخيفة. عالم لا شيء حقيقيًا فيه، حتى الصور المعلقة على الجدران انعكاس لجمال البطلة الزائف.

المعايير المزدوجة للشيخوخة

أضحك الآن لأنني قبل قليل شاهدت المقطع التشويقي للفيلم على يوتيوب، فقطعه إعلان لمستحضر تجميل للنساء يخفي علامات تقدمهن في السن. سخرية الواقع تتناسب تمامًا مع المعايير المزدوجة للشيخوخة التي ألفناها دون وعي. دعاية للمحافظة على الجمال في فيلم يسخر من وحشية الجمال وزيفه.

ولكن هل تساءلنا يومًا لماذا تخصَّص منتجات إخفاء علامات تقدم العمر للنساء فقط؟ ولماذا لا يتوجب على الرجال أيضًا إخفاء تقدم أجسادهم في العمر؟ في بداية الفيلم حين يخبر صاحب القناة/المنتج إليزابيث أنه سيتبدل بها أخرى لأنها تجاوزت الخمسين، يرتبك لأنه لم يجد المفردات المناسبة ليخبرها أن دورتها الشهرية قد انقطعت ولم يعد لها جدوى كامرأة، ثم يتركها ليرحب بمذيع يحقق مشاهدات عالية في قناته، هذا المذيع النجم رجل بشعر أبيض وعمره يتجاوز عمر إليزابيث، لا نعرف طبيعة برنامجه لكن ما نراه أنه لا تُساء معاملته بسبب عمره.

الرجل مسموح له بالتقدم في العمر، والمرأة يأكلها الخجل والعار من جسدها عندما يتخطى شبابه. الرجل يكافأ على تقدمه في العمر واتسامه بالحكمة، والنساء يوصفن بأنهن عجائز شمطاوات. أو كما تقول سونتاج "عجوز ذابلة مثيرة للاشمئزاز. لا يوجد كابوس يعادل هذا بالنسبة للرجال".

هذا الكابوس، الرعب النابع من الجلد البشري، يجعل The Substance ينتمي إلى أفلام رعب الجسد/ Body horror التي تكسر توقعاتنا تجاه أجسادنا، إذا استحالت مسخًا لا يمكن التنبؤ بحدود وحشيتها، وتذوب كل محاولات الحفاظ عليها، والسيطرة على جوهرها الإنساني.