في بهو فندق مطل على بحيرة التمساح بالإسماعيلية التقيتُ سارة سليمان للمرة الأولى، كانت حينها تشارك في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية بفيلمها الأول أجساد بطولية، وترتدي ملابس عصرية بألوان متأثرة بالزي التقليدي السوداني، بينما تطن في رأسي أصداء الأغنية الرسمية للفيلم سلام، "مليون سلام لبنات بلادي الصامدات". أحبُ الأغنيات السودانية ذات اللحن الهادئ والكلمات القوية.
سافرت سارة عائدة إلى لندن حيث تقيم وتعمل. أعدنا التواصل مجددًا عبر الإيميل، بعد فوز فيلمها بجائزة الجمهور في مهرجان مالمو بالسويد. في الوقت ذاته كانت أخبار الحرب في السودان ملء السمع والبصر، طالت قائمة الضحايا وضمت رائدة المسرح آسيا عبد الماجد، والمغنية شادن محمد حسين، ففرضت الرصاصات الطائشة نفسها على بداية الحوار.
أجساد بطولية
تعبر سارة بأسى عن مقتل الفنانتين في حوارها مع المنصة، قائلة "الحرب في حد ذاتها هي الخسارة الكبيرة التي تقضي على الأخضر واليابس وتساهم في تدهور أوضاع النساء المعيشية وسلامتهن. السودان كله يخسر من الحرب، ولكن النساء دائمًا ما يخسرن أكثر، ومنهن الشهيدات المناضلات المساهمات في الفن وفي الحراك النسوي".
وهذا محور اهتمام الفيلم والمخرجة، إذ يقدم "أجساد بطولية" قصة نضال المرأة عبر مقابلات مباشرة مع رائدات في العمل النسوي مثل فاطمة بابكر مؤسسة منظمة تحرير المرأة الإفريقية، والدكتورة إحسان الفقيري رئيسة مبادرة لا لقهر النساء، وسعدية الصلحي الفنانة التشكيلية ومصممة الأزياء، لتغطي المقابلات تاريخ الحركة النسوية للرائدات السودانيات في الفترة ما بين 1900 وحتى أوائل السبعينيات.
يحكي العمل، الذي أُنجز في البداية كبحث لنيل درجة الماجستير حول سياسات الجسد في حركات التحرر النسوية في السودان، قبل أن تحوله صاحبته إلى وثائقي، قصصًا مرتبطة بممارسات لها علاقة بأجساد السودانيات. تهتم سياسات الجسد بدراسة الممارسات التي تُحكم بها قوى المجتمع سيطرتها على الأجساد/النساء.
استغرق الفيلم نحو أربعة سنين من العمل، ما بين البحث وإجراء المقابلات وجمع الأرشيف. تقول سارة "أثناء جمع المادة العلمية لدراستي فوجئت بتاريخ نضال رائدات العمل النسوي في السودان"، الذي تصفه بأنه حافل بالنضال في مجتمع يمارس جميع أشكال السيطرة على أجساد نسائه باسم العادات والتقاليد والدين.
كانت سارة حصلت على درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة الأحفاد بالسودان، ولكن اهتمامها بالقضايا الاجتماعية دفعها لتغيير مسارها، فحازت على الماجستير في الدراسات الجندرية من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، عن بحث كان ما جمعته فيه من مادة ملهمًا كفاية لتغيير مسارها مرة ثالثة ولكن إلى السينما، وهي تسعى حاليًا للحصول على الماجستير في إعداد وإنتاج الأفلام الوثائقية من جامعة جون مورز في ليفربول بإنجلترا. كما أسست شركة فينتي للإنتاج، وفينتي تعني التواريخ باللغة النوبية.
انتهاك الجسد
يقدم الفيلم في 95 دقيقة سردًا مفصلًا عن معاناة السودانيات، كاشفًا عن كيف تحول الجسد لأداة تقمع النساء ووسيلة للسيطرة عليهن، وكيف أنه في الوقت ذاته وسيلة للصمود في مواجهة سلطة الأب والمجتمع والنظام السياسي منذ عهد الاستعمار.
يغوص "أجساد بطولية" في قلب المجتمع السوداني ويبرز العادات والتقاليد التي تنتهك أجساد النساء، كعادة تشويه الأعضاء التناسلية المعروفة بالختان، وعادة العدل، وهي عملية إعادة الختان التي تجرى للمرأة حين تبلغ السبعين لبتر ما تبقى من الختان الأول "لتقابل الله بوجه كريم"، كما تفسر بلقيس بدري، مديرة المعهد الإقليمي لدراسات الجندر والتنوع والسلام بجامعة الأحفاد، في الفيلم.
يكشف الفيلم أيضًا عن عادة "الشلوخ"، وهي عادة سودانية قديمة كانت تُجرى مع بداية مرحلة النضج الجسدي عن طريق رسم جروح في الخدود على جانبي الوجه أو على الصدغ كرمز للجمال والإنتماء لقبيلة معينة، مرورًا بعادة قطع الرحط بإلباس العروس سيورًا من الجلد تتدلى من خصرها بما لا يستر جسدها، ثم دق الشلوفة، وهو وخز الشفتين بالإبر، وما يسمى "ولادة الحبل" التي تستخدم الحبل في الولادة، وكثيرًا ما تؤدي إلى وفاة الأم أو طفلها.
تعكس الأفلام التسجيلية الواقع وتعده أداة تسهم في زيادة الوعي، ليس فقط للمتلقي ولكن لصانع الفيلم أيضًا، تقول سارة إنه "أثناء العمل فهمت أننا نشكو من ضيق طريق الحرية الآن، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نشكر من حفرن لنا هذا الطريق من قبل، كأول حكومة تعتقل النساء في الخمسينبات وتزج بهن في السجون، وكيف تحركت النساء في استخدام الجسد كوسيلة للتحرر والخروج من المنزل ودخول الساحات العامة، والمطالبة بحق التعليم الذي كان بداية التحرر للمرأة السودانية".
ضد الفن
واجهت سارة سليمان في إخراج فيلمها الأول صعوبات عكست حالة الصراع التي يعيشها فنانو السودان مع السلطة. واصطدمت بمصاعب الوصول إلى المعلومات من الأرشيف الرسمي، "استعنت بأرشيف المؤسسات النسوية والناشطات، والجامعة في لندن حيث أدرس".
كما يمثل الدعم جانبًا آخر من الصراع الذي يخوضه صناع الأفلام، توضح سارة "لجأ المخرجون للعمل من دون دعم الدولة، وبالاستعانة بالدعم الخارجي أو المستقل". وتكمل بعبارات يملؤها الأمل "ولكن الجميل في الأمر أنه مهما حاولت الدول الدكتاتورية قمع الفن والفنانين سيكون هناك طرق أخرى يتبعها صناع الفن لتعكس أعمالهم أوجاع أوطانهم بعزيمة ومثابرة، حتى وإن تأخر انتشار إنتاجهم، سترى أعمالهم النور وستعكس الحقيقة".
وهو ما حدث مع الفيلم، إذ إنه منذ بداية الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، عُرض في ثلاث مهرجانات متتالية. فاز في مهرجان مالمو بجائزة الجمهور، وعرض في مهرجان زانزيبار الدولي، وسيعرض في مهرجان سفر للفيلم العربي بمانشستر الشهر القادم.
حضور دولي
يتزامن ذلك مع الحضور اللافت للأفلام السودانية على الساحة الدولية، حيث عرض الشهر الماضي فيلم وداعًا جوليا للمخرج محمد كردفاني، بمهرجان كان السينمائي كأول فيلم سوداني يشارك في المهرجان، مكملًا مسيرة متصاعدة للسينما السودانية منذ 2019، بالاحتفاء بثلاثة أفلام هي الحديث عن الأشجار لصهيب قسم الباري، وستموت في العشرين لأمجد أبو العلا، والوثائقي أوفسايد الخرطوم لمروى الزين.
ترى سارة أن "كلها أفلام نقلت صورة جديدة عن السودان، ولاحظت من خلالها أن الجمهور الأوروبي والعربي وحتى الإفريقي، في اشتياق للتعرف على السودان الذي لا يعرفون عنه الكثير، والفيلم التسجيلي خير وسيلة لذلك".
تفسر سارة احتفاء النقاد والمهرجانات بالسينما السودانية بتسليط الضوء على مكان كان منسيًا بسبب ما تواجهه صناعة السينما من قيود مجتمعية وسياسية، "الفن هو مرآة المجتمع التي تعكس أوضاع الشعوب وتروي حكاية الإنسان بفرحها وترحها بصورة صادقة، في حالة لم يتم تسييس الفن أو توظيفه لدفة أجندة معينة سواء كانت سياسية أو دينية".
تلفت سارة إلى رمزية فوز فيلمها بجائزة في مهرجان دولي أنه بصيص نور في وقت مظلم، "نحن في حالة حزن على البلد التي نحبها، بمرها قبل حلوها، وفي حالة من الخوف على من نحب داخل العاصمة وولايات السودان والعالقين على الحدود. في هذه العتمة يحصل فيلم سوداني يوثق وضع المرأة السودانية ومعاناتها، جائزة الجمهور، في مهرجان مثل مالمو".
تسعى الباحثة السودانية للبدء في وثائقي جديد، لكن أخبار الحرب المستمرة منذ شهرين تقريبًا في وطنها تجعل التركيز في العمل الفني أمرًا صعبًا. يمثل ذلك تحديًا ودافعًا في الوقت ذاته على تقديم أفلام تعبر عن الواقع، فكما قالت في خطاب استلامها للجائزة "على الرغم من الحرب التي تقضي على الأخضر واليابس، لن نفقد إيماننا بأهمية السينما، وبدورها الخطير والمهم. لن نتوقف عن الحلم والثورة، لن نتوقف عن جعل اسم السودان يتردد في أرجاء العالم، وسيبقي السودان في قلوبنا رغم الدمار".