تصميم: يوسف أيمن - المنصة
العنف ضد المرأة

"عاهة تستلزم 21 يوم علاج".. كيف يمر العنف ضد الزوجات دون عقاب

منشور الثلاثاء 17 يونيو 2025

مرت الأيام ثقيلةً على أسماء محمد كأنها تتعمد كسرها، لا طعام في البيت، لا يد تمتد لها إلا من غرباء أكثر رحمة من أهل الدم، تبتلع الانكسار بصمت، تتظاهر بالصمود أمام طفلتها، ولا تلبس أن تنهار في وحدتها شاعرةً أن الجوع ليس أقسى ما تواجهه بل الظلم.

أسماء حاصلة على ليسانس آداب قسم علم اجتماع بجامعة المنيا، تعتمد في دخلها على الدروس الخصوصية للأطفال لتأهيلهم لاجتياز اختبارات القبول في المدرسة. أُجبرت على الزواج من طبيب بشري، رغم ما كشفته الخطوبة عن طباعه العنيفة، أصرت والدتها على الزواج "قالت لي يا دي الفضيحة، هتفسخي الخطوبة والناس تقول علينا إيه؟ وهتلاقي فين تاني عريس دكتور؟" تتحدث أسماء لـ المنصة

عشر سنوات عاشتها أسماء بلا حقوق مادية أو عاطفية، وزوجها يخفي مشكلته في الإنجاب، ويلقي بالعبء على زوجته أمام الآخرين، غير أنها نجحت بالأخير في إقناعه بالسير بطريق البحث عن علاج طبي، حتى تمكنت من تحقيق حلمها، أنجبت ابنتها رقية التي تبلغ من العمر 12 سنة.

خلال سنوات زواجها تعرضت أسماء، 45 سنة، لكل أنواع العنف؛ الأذى الجسدي الذي امتد لأذى نفسي ومادي، فالزوج يعرف جيدًا أن أول ما يسلبه من زوجته هو حقها في المال والطعام "لما كان بيضربني كان بياخد الفلوس اللي معايا ويمنع عني الأكل".

آلاف النساء محاصرات في زيجات عنيفة لأن منظومة العدالة تعجز عن حمايتهن

تتولى أسماء التي تعيش في مدينة ملوي بمحافظة المنيا الإنفاق على بيت الزوجية مما تكسبه، لكنها "ممنوعة من تحويش أي جنيه على جنب، ولما قررت أعترض على سوء المعاملة طردني من البيت وكلم أمي قال لها متفتحيلهاش باب بيتك، علشان متلاقيش حتة تبات فيها وترجعلي ومنخربش البيت"، وبالفعل نفذت الأم نصيحة زوج ابنتها ورفضت استقبالها، "حسيت وقتها بوجع مش طبيعي وإني مرفوضة من أقرب الناس ليا".

أدركت أسماء أن عمرها سُرق منها، قررت أن تطلب الطلاق، وبعد واقعة عنف، لجأت للشرطة، حررت محضرًا ووثّقت إصاباتها بتقرير طبي من مستشفى حكومي، وسلكت القضية مسارها في التقاضي.

استغرقت الإجراءات سنة ونصف، ليحصل بعدها الزوج على حكم بالبراءة، فالتقرير الطبي لم ينص على أن ضربه لها أحدثَ عاهة مستديمة يُستدل عليها بوجود إصابة تستدعي علاجًا أكثر من 21 يومًا وفق نص المادة 240 من قانون العقوبات.

لم تنصف منظومة التقاضي أسماء في سبيلها للنجاة من زواجها العنفي، إضافة إلى أنها واجهت اعتراضات من دائرتها القريبة فهي لا تزال على ذمته، ولم تتمكن من إثبات أن العنف كان متعمدًا، لتحاصرها عبارة "من حق الزوج تأديب زوجته"، وكأن العنف قدر لا فكاك منه.

لم تنجح أسماء في الحصول على الطلاق فرفعت قضية نفقة قبل عامين. يمكن للزوجة رفع القضية وهي لا تزال على ذمة زوجها. وما زالت تنتظر بين أروقة المحاكم، تتحمل نفقات باهظة بلا فائدة؛ فالمحامون والمخبرون يبتلعون ما تبقى من قوتها، حيث لا يكفي ما تكسبه من عملها لتغطية نفقات القضية "استلفت من صحباتي واشتغلت كروشيه ومكرمية وبعت الحاجات عشان أزود دخلي". 

قانون يشجع على العنف

العنف ضد المرأة

يشير المسح الصحي للأسرة المصرية، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2022، إلى أن نحو ثلث النساء اللاتي سبق لهن الزواج في المرحلة العمرية بين 15 و49 سنة تعرضن لأحد صور العنف الزوجي.

وتتعرض 25% من النساء داخل نطاق الأسرة للعنف الجسدي، و22% للعنف النفسي، ونحو 6% يتعرضن للعنف الجنسي.

حال أسماء من حال آلاف النساء المحاصرات في زيجات عنيفة، يتعرضن للضرب والاعتداء ويتقدمن بشكاوى وبلاغات إلا أن المنظومة القانونية القائمة لا تنصفهن وتعجز عن حمايتهن أو إنصافهن.

تضع القوانين عبء إثبات الاعتداءات العنفية على الناجية، وهو ما يتطلب توثيق إصابات جسيمة، أو شهودًا في وقائع غالبًا ما تقع خلف أبواب مغلقة، لتصطدم من تحاول اللجوء إلى القضاء بإجراءات معقدة، ومحاكمات مطولة، وأحكام لا تعترف بالعنف النفسي أو الإهانة أو الحرمان الاقتصادي أسبابًا كافيةً للانفصال.

يُشوب قانون الأحوال الشخصية الحالي قصورٌ في توفير الحماية الشاملة للنساء من العنف الأسري، حيث يقتصر تركيزه على العنف الجسدي المباشر ويتجاهل أشكالًا أخرى لا تقل خطورة مثل العنف النفسي (الإهانة، التهديد) والعنف الاقتصادي (المنع من العمل، التحكم المالي) والاغتصاب الزوجي والعقوبات القهرية (الحبس المنزلي، المنع من التعليم). هذا النقص في التعريف يُفقد النساء حقهن في الحماية القانونية.

ليس ذلك فحسب، لكنه يَحمِل بين مواده ما يمنح الزوج الحقَّ في إخضاع الزوجة، إذا حاولت الهروب، باستخدام سلاح إنذارات الطاعة، وتهم "النشوز".

النشوز لا يُسقط حق الزوجة في طلب الطلاق للضرر  إلا أنه وسيلة للضغط على النساء للعودة إلى زيجات غير آمنة

وهو ما حدَث مع ياسمين رحمي، التي تلقت في بداية العام الحالي إنذارًا بالطاعة من زوجها بعد أن غادرت منزل الزوجية هربًا من العنف والإهانة.

لم تتردد الشابة الجامعية الحاصلة على بكالوريوس علوم بجامعة حلوان في الاعتراض على الإنذار، مؤكدة أنها لم تهجر المنزل بلا سبب؛ بل لحماية نفسها من الإساءة التي طالتها لسنوات، وقدمت للمحكمة أدلة وشهادات تثبت معاناتها. وبالفعل بعد مراجعة الأدلة والشهادات، رفضت المحكمة إنذار الطاعة، معتبرة أن بيت الزوجية ليس آمنًا لها. 

في قانون الأحوال الشخصية رقم 25 لسنة 1929، يحق للزوج إنذار زوجته بالطاعة إذا غادرت منزل الزوجية دون مبرر شرعي، ويجب أن تعود خلال 30 يومًا وإلا تُعتبر ناشزًا، وللزوجة حق الاعتراض خلال 30 يومًا، مستندةً إلى أسباب مثل سوء المعاملة أو عدم توفير سكن مناسب. إذا رفضت المحكمة اعتراضها، تسقط نفقتها الزوجية لكنها تحتفظ بحقوقها الأخرى مثل الحضانة.

وعلى الرغم من أن النشوز لا يُسقط حق الزوجة في طلب الطلاق للضرر إذا قدمت أدلة كافية، فإنه وسيلة للضغط على النساء للعودة إلى زيجات غير آمنة. وهو ما تستنكره ياسمين "مستغربة إزاي في 2025 لسه بيتطبق عليَّ قانون من 1929؟ ازاي قانون كتبوه في زمن كانت الست فيه بلا حقوق، يتحكم في مصيري النهارده؟ أنا مش ناشز، أنا إنسانة بتهرب من العنف، ولو حد محتاج إنذار بالطاعة، فهو القانون ده نفسه عشان يواكب الزمن" تقول لـ المنصة.

نقطة نور

محاولات مواكبة الزمن بدأت في عام 2022، عندما قدّمت النائبة نشوى الديب مشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة، يتضمن 53 مادة تهدف إلى مكافحة مختلف أشكاله، بما في ذلك التحرش، والاغتصاب، والعنف الأسري والزوجي، مع فرض عقوبات رادعة، و"شمل أيضًا حماية الأطفال والرجال، ويهدف إلى جمع المواد القانونية المتعلقة بالعنف في قانون واحد، مع إضافة مواد جديدة لمعالجة القضايا المستحدثة، كما تؤكد النائبة لـ المنصة

إنشاء وحدات شرطية متخصصة مدربة على قضايا العنف ضد المرأة لضمان استجابة فورية وحساسة لبلاغات الضحايا

يعيد مشروع القانون تعريف العنف، ويعتمد كما يوضح مايكل رؤوف محامٍ مصري مختص بقضايا الأسرة وحقوق المرأة لـ المنصة على رؤية تشريعية وفلسفة قانونية مختلفة، تضع تعريفًا واضحًا وصريحًا لجرائم العنف الأسري. فعلى سبيل المثال، لن يُنظر إلى حالات تعدي الزوج على زوجته باعتبارها مجرد خلاف زوجي بسيط، كما هو معمول به حاليًا، بل سيُصنف الاعتداء ضمن جرائم العنف التي تستوجب عقوبات صارمة تتلاءم مع جسامة الجرم.

عنف مسكوت عنه

لا تجرم القوانين العنف المعنوي، رغم كونه أساس العنف المنزلي

يؤكد رؤوف أن مشروع القانون سيكون نقلة نوعية في التعامل القانوني مع هذه الجرائم على وجه التحديد، حيث يستحدث جرائم جديدة لم يكن معترفًا بها من قبل، مثل الاغتصاب الزوجي، ويضع عقوبات واضحة لجرائم مثل حرمان الفتيات من التعليم أو الإجبار على ارتداء الحجاب أو الاحتجاز المنزلي كعقاب، وهي جرائم تغيب عن نظر القانون الحالي.

وتشير عزة سليمان، رئيسة أمناء مؤسسة قضايا المرأة المصرية، لـ المنصة إلى أن "جريمة الاغتصاب الزوجي لسنين طويلة كانت غايبة تمامًا عن قوانيننا، والسبب إن القانون بيشوف العلاقة الجنسية داخل الزواج كواجب مشترك، ومبيتكلمش عن فكرة الرضا أو الرفض، كأن مجرد وجود عقد زواج هو موافقة أبدية، وده طبعًا خطأ كبير، إحنا بنشتغل في مشروع القانون الجديد على كسر الفكرة دي، والاعتراف إن الزوجة ليها الحق تقول لأ، وإن الإجبار على العلاقة الجنسية من الزوج جريمة يعاقب عليها القانون".

تجاهل حكومي

حسب عزة سليمان، فإن مشروع القانون بدأ كمبادرة من مؤسسة قضايا المرأة المصرية بعد مقتل طالبة جامعة المنصورة نيرة أشرف في واقعة هزت الرأي العام، تلاها تصاعد لجرائم مماثلة راح ضحيتها العديد من الفتيات، مما جعل الحاجة ملحة له.

تفسِّر: لأن مشروع القانون يزيد من الاعتماد على آلية الاعتماد على شهادة الشهود في القضايا، وتأسيس وحدة مباحث متخصصة داخل النيابة العامة للتحقيق في الجرائم الحساسة مثل الاغتصاب الزوجي.

ولا يزال المشروع في مرحلة الدفع والمناصرة ليظهر في جدول أعمال مجلس النواب، كما تؤكد النائبة فريدة الشوباشي لـ المنصة، متوقعة صدوره قريبًا "بهدف الحد من انتشار هذه الجرائم في المجتمع". 

وتؤكد على ضرورة تكاتف جميع مؤسسات المجتمع وتوحيد الجهود لنشر الوعي حول خطورة العنف ضد النساء، مشيرة لأن العقوبات القانونية قد تردع بعض الجرائم؛ لكنها لن تحقق التأثير الكامل دون دعم مجتمعي شامل يعزز ثقافة احترام المرأة وحمايتها، بالأخص مع حقيقة أن معدلات العنف ضد النساء تزداد سنويًا بنحو 1%.

وتنتقد عزة سليمان اللجنة التشريعية للبرلمان، وتتهمها بتعطيل النظر في مشروع القانون، إذ تضع اللجنة "الحكومة على رأس أولوياتها قبل المواطنين، لذلك لم يتم النظر في المشروع حتى الآن".

وفيما تراهن عزة على أن العمل بهذا القانون سيحقق مكاسب عديدة للنساء، لا تزل أسماء متزوجة ولم تحصل حتى اليوم على حكم نهائي يمكِّنها من الحصول على النفقة القانونية، مؤملة أن يكون القانون الجديد طوق نجاة لها.