تصميم: يوسف أيمن - المنصة.

أكشاك الولادة.. عنف وانتهاك خصوصية

منشور الخميس 10 أبريل 2025 - آخر تحديث الجمعة 11 أبريل 2025

اختارت رقية المراسي أن تضع مولودها في مستشفى خاص آملة في الحصول على خدمة أفضل، لكن تجربة الأم الثلاثينية لم تكن إلا كابوسًا.

"فِضلت 48 ساعة في آلام المخاض، كلمتْ الدكتور اللي متابع حالتي شهور الحمل وطلب مني أروح عيادته، ورغم استمرار الألم قالي لسه بدري على الولادة، بس أنا ماكنتش مستحملة واترجيته يولدني، لكنه سابني لحد ما الطلق وقف فجأة"، تتذكر ما حدث.

ما واجهته رقية مع الطبيب يمكنُ أن يُفسَّر في إطار الاستخفاف بآلام النساء وتعامل الأطباء معها باعتبارها غير حقيقية، وهو ما يطيل رحلات النساء إلى التشخيص ثم تلقي العلاج السليم.

تصف رقية تجربتها  في كشك الولادة لـ المنصة بأنها "كانت أسوأ مما توقعت.. فِضلت أصرَّخ عشان حد يساعدني لحد ما أُغمى عليا، لما فُقت لقيت الدكتور بدأ يحقّني بإبرة طلق صناعي".

لم يحصل الطبيب المختص على موافقتها قبل البدء في استخدام الطلق الصناعي، وهو ما ينتهك حقها في الموافقة المستنيرة التي تضمن حق المريض (الأم في هذه الحالة) في قبول الإجراء الطبي المقترح بحرية تامة، بعد أن يقدم الطبيب المعالج كافةَ المعلومات المتعلقة به من فوائد ومخاطر محتملة وبدائل متاحة.

لم يتوقف ما اعتبرتها رقية ممارسات طبية عنيفة عند هذا الحد، لكن "الألم كان غير طبيعي، و(الطبيب) كمل عليا بإنه فتح شقَّ العجَّان باستخدام بنج موضعي ما فرقش في تخفيف الألم وقفله بـ10 غرز".

شق العجان/Episiotomy هو إجراء جراحي يحدث خلال الولادة الطبيعية لتوسيع فتحة المهبل وتسهيل خروج رأس الجنين. يُستخدم هذا الإجراء إما لتجنب تمزقات العجَّان العشوائية التي قد تكون أكثر تعقيدًا، أو لتسريع الولادة، ويجريه الأطباء في كثير من الأحيان دون تخدير كافٍ، مما يضاعف الألم والمعاناة على الأم.

عنف خفي

تعتبر شيماء يوسف هي الأخرى تجربتها في الولادة الطبيعية "الأكثر رعبًا"، إذ استغرقت يومين،"في اليوم التاني كشف عليا الدكتور لقى الرحم بقى 7 سم واداني طلق صناعي. طلبت مسكن للألم، لكنه رفض، مع إني كنت بصرخ من كتر الألم"، تقول لـ المنصة.

شعرت شيماء بالإهمال من الممرضات اللاتي تصرفن بغير مبالاة، "لما الدكتور نقلني أوضة العمليات، فضلت هناك ساعتين في البرد بعاني لوحدي من الطلق ومافيش دكتور تخدير. رجعت الأوضة بدون ولادة وبعدها خدت أول جرعة من الأبيديورال، بس جهاز مراقبة نبض الجنين ما اشتغلش فخفت، وده خلاهم ياخدوا قرار يولدوني، يضغطوا على بطني عشان الجنين ينزل، وماكنش التخدير شغال بشكل كامل، كنت حاسة بالألم حتى شق العجان حسيت بيه".

برَّر الطبيب والممرضات الألم الذي واجهته شيماء لكونها الولادة "البكرية" لأول مرة، لكنها متيقنة من أن طريقة تعاملهم معها هي السبب "كنت حاسة أني بين إيدين جزارين، مش دكاترة".

ما تعرضتْ له رقية وشيماء لدى عملية الولادة الطبيعية يُوصَّف بأنه "عنف توليدي"، وهو ما تلاقيه المرأة في مرحلة الوضع من إهمال وعنف لفظي وأحيانًا جسدي، كما حدث مع رقية التي لم تنس أبدًا "طلب الدكتور من الممرضة إنها تعصر في بطني عشان تزق البيبي لتحت، كنت بصرخ كأن حد بياخد روحي مني، وكان رد فعله إنه بدأ تعنيفي".  

وتُظهر دراسة للأمم المتحدة أن 838 من بين 2016 امرأة من 4 دول إفريقية هي؛ غانا وغينيا وميانمار ونيجيريا شملهن البحث، أي 42%، تعرضن للإيذاء الجسدي أو اللفظي أو وصمة العار أو التمييز، كما تعرَّض 14% منهن للإيذاء البدني، وسجلت الأرقام "نسبًا عاليةً من عمليات قيصرية وجراحاتٍ على فتحة المهبل" تمت للنساء خلال الولادة دون موافقهن، بالإضافة إلى فحوصات مهبلية.

تسهم الممارسات الطبية غير الإنسانية مثل الإفراط في التدخلات الطبية وانعدام الخصوصية في تفاقم صدمة الولادة

وتنتهي نتائج استبيان أجرته مؤسسة "شريكة ولكن" إلى تعرّض النساء لأشكالٍ متعددةٍ من انتهاك الخصوصية، والعنف التوليدي، إذ خضعت 7 من كل 10 منهن لفحوصاتٍ مهبليةٍ من دون إذن، كما لم يتم إخبار 63% منهن بالهدف من إجراء الفحص، وقد يصل عدد الأشخاص الذين يقومون بالفحص المهبلي إلى 5 أشخاص.

وتتنوع أشكال العنف التوليدي ما بين الإهانة اللفظية، التي تشمل التحدث بلغة قاسية أو أسلوب غير لائق وإلقاء اللوم على الوالدة، والعنف الجسدي والممارسات الانتهاكية مثل الضرب والتقييد في السرير والضغط على البطن، والإهمال وتجاهل احتياجات المرأة ورفض وجود مرافق لها ومعاملتها كأنها مشارك سلبي.

ووفق ورقة صادرة عن حلولٍ للسياسات البديلة، فإن هذه الممارسات الطبية غير الإنسانية، مثل الإفراط في التدخلات الطبية وانعدام الخصوصية، تفاقم من صدمة الولادة.

جامعي ولا حكومي.. بتفرق

تختلف التحديات المرتبطة بعمليات الولادة الطبيعية في مصر، حسب المستشفى؛ فبينما قد تقتصر في الخاصة على إساءات في التعامل البشري، تتنوع الانتهكات في الحكومية، وتفرق الدكتورة سارة سعد، استشارية أمراض النساء والتوليد، في حديثها إلى المنصة، بين المستشفيات الجامعية والحكومية التابعة لوزارة الصحة والسكان، التي غالبًا ما تتأثر الإجراءات فيها بعدم توفر الإمكانات، ووجود عوائق إدارية تمنع الاستفادة منها بشكل كامل.

غالبًا ما تكون المستشفيات الجامعية أكثر تطورًا من حيث الإمكانات الطبية، لكنها تعاني من تعقيداتٍ إداريةٍ بسبب كثرة الأقسام والطلاب المتدربين. أما المستشفيات الحكومية فتواجه تحدياتٍ تتعلق بنقص الموارد والازدحام، مما يؤثر على جودة الخدمة المقدمة.

قلة خبرة بعض الأطباء حديثي التخرج أو طلاب الامتياز السبب في حالات كثيرة من العنف التوليدي

وتكشف الطبيبة سارة سعد أن تعقيدات الإجراءات وصعوبة التعامل معها قد تدفع الأطباء إلى توليد الحالات في قسم الاستقبال بدلًا من نقلها إلى غرف الولادة المجهزة، وهذه الممارسة تزيد أكثر في المستشفيات الجامعية بسبب كثرة الأطباء المتدربين وطلاب الامتياز.

ونتيجة للضغوط الناتجة عن البيروقراطية، يتخذ الطاقم الطبي قراراتٍ متسرعةً أو غير مدروسة، مما قد يؤدي إلى إهمال المريضات أو إساءة معاملتهن أثناء عملية الولادة، حسب سارة، التي تؤكد أن ما مرَّت به رقية وشيماء يحدث عادةً، "ممكن الدكتور يضطر يستعين بممرضة تضغط على بطن الحالة، أو حتى تنطَ فوقها بهدف تسريع الولادة. تخيلوا، ست بتولد بدون تخدير، ومع آلام المخاض الشديدة تلاقي ممرضة تنط على بطنها".

ولادة تحت التدريب

تُرجع استشارية أمراض النساء كثيرًا من الانتهاكات التي تحدث خلال الولادة إلى قلة خبرة بعض الأطباء حديثي التخرج أو طلاب الامتياز، الذين قد يفتقرون للإعداد الكافي للتعامل مع الحالات الطارئة.

توضح أن "الدكتور في كثير من الأحيان، بيوجه اللوم للأم أو ينفعل عليها لو الألم خلاها تعمل حاجة ممكن تأثر على سلامة المولود"، قبل أن تستدرك بأن "هذا لا يبرر التصرف، لكنه أحيانًا يعكس نقص الخبرة"، مؤكدةً أن الطبيب هو المسؤول الأول عن منع أي تجاوزات تحدث تجاه الحالة من طاقم التمريض أو الأطباء الآخرين.

العلاج المجاني يُقدَّم على حساب كرامة النساء 

فيما تتذكر الطبيبة أسماء محمود ما عايشته خلال دراستها في كلية الطب جامعة سوهاج، فرغم أن المريض في المستشفيات الجامعية يوقع على إقرار مكتوب على تذكرته بأنه سيكون جزءًا من العملية التعليمية، وسيكشف عليه الطلبة، فإنها كانت "متخيلة إن هناك على الأقل بعض الضوابط في الأقسام الحساسة مثل قسم النساء والتوليد، مثل تغطية الحالة أو توفير خصوصية" لـ المنصة.

في إحدى الحالات، فوجئت أسماء بموقف صادم، حيث شرح الأستاذ عمليًا للطلاب على امرأة في غرفة الولادة كانت في وضع صعب للغاية، وتظهر عليها علامات التعب الشديد، وكانت تتألم بشدة، "كشف عليها باستخدم آلة حديدية، وكنا حوالي 60 طالب وطالبة حواليها، الست كانت رافضة تمامًا. لما حاولت تعترض، هددها يطردها من المستشفى، فاستسلمت".

لا تلوم أسماء الأطباء، فقط لأنهم يعملون في ظروف غير إنسانية تمامًا، لكن "الواضح أن العلاج المجاني يُقدَّم على حساب كرامة النساء، في صورة مليئة بالانتهاكات التي لا يمكن تبريرها".

وجع لا يفارق الذاكرة

في الولادة الطبيعية، يلعبُ إطلاع النساء على المعلومات والخبرات الطبية المتعلقة والإجابة على أسئلتهن دورًا محوريًا في تبديد الخوف والقلق المرتبطين بالولادة، وعلى العكس فإهمال أسئلة النساء أو التعالي في الإجابة عليها، يضاعف من مخاوفهن، كما حدث مع إيمان سيد(*) التي وضعت مولودتها الثانية في أحد مستشفيات العبور بمحافظة القليوبية، "الدكتور كان بيقيس الرحم كل شوية وما كنش بيرضى يقولي ولما سألت تاني صرخ في وشي وقالي مش شغلك"، تقول لـ المنصة.

الحل في تفعيل لوائح آداب المهنة الخاصة بالطواقم الطبية

اختارت إيمان مستشفى خاصًا للحصول على معاملة إنسانية لكنها لم تجد ذلك، "دفعت فلوس كتير والمعاملة سيئة. النايب هو اللي كان بيتابع حالتي".

"حسيت إني متقيدة في السرير بسبب القسطرة وجهاز متابعة نبض الجنين، وماكنتش قادرة أتحرك. فجأة، نزلت المياه، والدكتور جه دخل إيده في الرحم من غير ما ياخد موافقتي"، تَصِف إيمان "التجربة المؤلمة والمهينة" التي لم تتمكن من تجاوزها ولم تعد من بعدها إلى الطبيب مرة أخرى لمتابعة حالة الجرح.

النساء يفضلن الصمت 

تفضلُ النساءُ الصمتَ تجاه الانتهاكات التي يتعرضن لها في أكشاك الولادة "باعتبارها طبيعية"، كما تؤكد انتصار السعيد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون لـ المنصة، مشيرة إلى الدور السلبي الذي تلعبه العادات والتقاليد الاجتماعية في ترسيخ قبول العنف ضد المرأة.

توضح انتصار السعيد أن هذه الصورة النمطية تجعل العنف الجسدي أو اللفظي من القابلات أو الممرضات أمرًا مقبولًا وغير مثار للنقاش. إلى جانب ذلك، فإن جهل النساء بحقوقهن كمرضى يضاعف من حجم المشكلة، حيث يمنح الصمت وعدم المعرفة الطواقم الطبية مساحةً أكبرَ لممارسة الإساءة.

وتكون النساء من الطبقات الأكثر فقرًا والأقل تعليمًا، خصوصًا اللواتي يراجعن الأقسام المجانية في المستشفيات الحكومية والتعليمية، الأكثر عرضةَ لمواجهة هذا النوع من العنف بجميع أشكاله، وكما تؤكد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون فإنهن يتعاملن مع ما يتعرضن له من عنف باعتباره جزءًا من عملية الولادة والتعامل مع الأطباء.

وتدعو انتصار السعيد لتشريعٍ يجرِّم عنف الولادة بأشكاله المختلفة، مع تفعيل لوائح آداب المهنة الخاصة بالطواقم الطبية، كما تشدد على أهمية تدريب العاملين في المجال الصحي على احترام حقوق النساء أثناء الولادة، وتشجيع من تعرضن للعنف التوليدي على تقديم شكاوى رسمية لضمان محاسبة المسؤولين.

أما رقية التي لم تتقدم بشكوى وخرجت من تجربتها مع الولادة بـ"اكتئاب شديد"، حسب توصيفها، فإنها تأمل أن ينتشر وعي النساء بحقوقهن في لمقاومة العنف داخل غرف الولادة، "لازم المجتمع يفهم إن الألم النفسي والبدني بعد الولادة مش حاجة سهلة".


(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر.