تصميم: يوسف أيمن - المنصة.

عنف بلا كدمات.. بنات دمنهور بين قمع الأسرة وسلطة المجتمع

منشور الأحد 9 مارس 2025

ترفض نورهان خالد، الطالبة بمعهد التمريض، عريسًا تقدَّم لها عن طريق والدها. يضغط الأب عليها لقبوله، ولا يتوقف عند هذا الحد، "قعدنا يومين ما نتكلمش، وده بيحصل على طول.. ولما برفض بيقولي إنتي أكيد بتعملي حاجة غلط وبتمشي مع شباب وبيقول الكلام قدام كل عيلتي وبيطلّع عليا سمعة".

هذه هي الطريقة التي تتعامل بها الأسرة مع نورهان على الداوم؛ لا تملك الشابة البالغة من العمر 22 عامًا الحقَّ في إبداء رأيها فيما يخص حياتها،  كما تتعرض للعنف النفسي ما دفعها في إحدى المرات لترك البيت "فضلت ماشية في الشارع لحد الساعة 2 بالليل بسأل نفسي أنا مين ومكاني فين ومين أهلي وبيعملوا كده ليه".

ينعكس واقعُ حياة النساء فى دمنهور في مرآة نورهان، بما يحمله من ممارسات عنف نفسي على النساء. فعاصمة محافظة البحيرة التي كانت تاريخيًا مركزًا للزراعة والتجارة أصابها ما أصاب غيرها من مدن الدلتا، حيث زحفت عليها القرى المحيطة بها، بحثًا عن فرص للعمل والاستثمار والتعليم، فتأثر مجتمعها بالطبائع القروية الأكثر محافظة.

الوهج ينطفئ في منارة الدلتا 

لم تكن دمنهور مدينة عادية، كانت لعقود طويلة منارةً ثقافيةً وتعليميةً في الدلتا، تجسَّد فيها الحراك الفكري والفني بشكل لافت. احتضنت المدينة واحدة من أقدم دور الأوبرا في مصر، حيث شهدت عروضًا موسيقية ومسرحية راقية، كما كانت من أوائل المدن المصرية التي شهدت إنشاء مدارس للبنات؛ إذ افتتحت في 1892 أول مدرسة ابتدائية تابعة للكنيسة، ثم بدأ توافد الراهبات الفرنسيسكانيات ومنهن "راهبات الحبل بلا دنس" على مدينة دمنهور منذ عام 1913، وافتتحن مدرسة لتعليم أبناء المسيحيين والمسلمين ثم جاءت راهبات قلب مريم الطاهر في عام 1936 ليفتتحن مدرسة أخرى باسم مدرسة  الراهبات الفرنسيسكانيات التى ما زالت تؤدى دورها التعليمي حتى الآن.

لكن بمرور الوقت، خفت الوهج الثقافي، وتراجعت مظاهر النهضة التعليمية والفنية وسط تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. وفي ظل هذه التغيرات، تجد النساء أنفسهن في مواجهة تحديات ضاغطة، بين صراع للحفاظ على مكتسباتهن في مجتمع يتغير، ونضال مستمر من أجل الحق في التعبير عن الذات والاختيار الحر.

تحت الضغط النفسي

النساء في القرى أكثر تعرضًا للعنف النفسي، والحال لا يختلف كثيرًا في مدن وعواصم الأقاليم مثل دمنهور، التي زحفت عليها العادات الأكثر صرامةً، بل يصبح العنف أكثر تعقيدًا، حيث تُحرم النساء من التعبير الحر عن الرأي ويقعن ضحايا للاستغلال النفسي وإهمال وإنكار مشاعرهن وتحقيرها علاوة على الابتزاز العاطفي.

حرية اختيار الملابس تتحول من اختيار شخصي يعبر عن الشخص واختيارته إلى اختيار مجتمعي وعائلي

يعد العنف النفسي أحد أنواع العنف الأسري غير المرئي، ويصل بالنساء إلى الانفصال عن الذات منذ الطفولة بحبسهن داخل أقفاص الضغط النفسي المستمر، وربما تحقير الذات وإيذائها وبالتبعية إيذاء الأخريات وربما كل ما سبق.

وفقًا لتقرير مؤسسة "براح آمن" السنوي لعام 2021، سُجلت في ذلك العام 543 حالة عنف نفسي من إجمالي 1002 جريمة عنف أسري ضد النساء، فيما يرصد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2022 تعرّض حوالي 22% من المصريات للعنف النفسي.

ووفقًا لتقرير مرصد جرائم العنف الموجه ضد النساء والفتيات في مصر لعام 2023، الصادر عن مؤسسة إدراك للتنمية والمساواة، سُجلت 34 محاولة انتحار لفتيات، ومن بين الأسباب التي دفعتهن لفعل ذلك العنف الأسري بأشكاله المختلفة، من الضرب المبرح والاحتجاز والخلافات الزوجية إلى الإجبار على الزواج، هذا إلى جانب العنف المجتمعي من ابتزاز وتنمر وضغط نفسي قد ينتج من ضغوط مختلفة بينها الامتحانات خلال الدراسة.

يبدأ العنف من ممارسات قد تبدو عادية مع الفتيات الصغيرات، مثل قمع رغباتهن في اختيار الملابس بدعوى حمايتهن من أي انتهاك محتمل في الشارع بسبب ما يرتدينه، وذلك ما يمهد لخضوعهن للاستغلال النفسي والجنسي على مدار حياتهن دون أدوات حماية نفسية ومادية تمنحها لهن الأسر وتدعمها الدولة بآليات وضمانات تناسب واقعهن ليتمكن من عيش حياة طبيعية.

دولاب الملابس المُحرَّم 

يمثل مظهر النساء وملابسهن تحديًا يعوق قدرتهن على المشاركة في الحياة اليومية والتنقل بأمان وحرية، حسب تقرير صادر عن منظمة أوكسفام بعنوان "أخلاقهن بملابسهن"، يربط بين العنف القائم على النوع الاجتماعي وما تختار النساء والفتيات ارتداءه، حتى أصبح بديهيًا بالنسبة للنساء والفتيات أن يشكل لباسهن عاملًا رئيسيًا للعنف وسوء المعاملة والتمييز.

وفق التقرير، فإن جميع النساء اللواتي تمت مقابلتهن وافقن بالإجماع على تعرضهن لواحد أو أكثر من أشكال العنف لعدم امتثالهن للأعراف الاجتماعية المتعلقة باختيار ملابسهن.

اللي بيتربوا في بيئة بتحملوا مسؤولية التحرش عشان مظهرهن بيفضلوا حاسين دايمًا إنهم الجانيات

 

في دمنهور، الفتيات محرومات من الحق في اختيار ملابسهن بحرية، "البنت لازم تلبس كويس علشان الناس تشوفها كويسة ولازم ترجع لابوها وامها في اختيار اللبس مش تلبس أي حاجة كدا وتنزل تختار هي وصحابها وفي الآخر يرجعوا يقولوا دي اغتصبوها ليه"، كما تقول سعدية الجزار أم فتاتين ومقيمة في المدينة، وهو ما تحذر منه مروة سليم الاستشارية النفسية ومؤسسة جروب قصاقيص نفسية لدعم النساء لمواجهة العنف الأسري.

تؤكد مروة سليم على الضرر الذي يسببه كبح حرية الفتيات في اختيار ملابسهن، حيث يؤثر في تشكيل هويتهن وبناء شخصياتهن، وتقول لـ المنصة "لو ما احترمتش جسم طفلك واديتله مساحة عشان يختار هدومه، مش هيفهم حدود جسمه وحقوقه ويخليه أقل قدرة على تمييز التعدي الجسدي أو النفسي، فيحس بالخضوع لإرادة الآخرين". 

تخصِّص الاستشارية النفسية حديثها عن الفتيات "اللي بيتربوا في بيئة بتحملهم مسؤولية التحرش عشان مظهرهن أو تصرفاتهن"، وتؤكد أنهن بسبب ذلك "بيفضلوا حاسين دايما أنهن الجانيات ولسن الضحايا مما يضعف قدرتهن على مواجهة المواقف والتمسك بحقوقهن". 

في مقابل الاعتقاد الجمعي السائد، تعبر رحاب حربي البالغة من العمر 42 عامًا وأم لبنت وولدين عن قناعتها التي تتبعها في التوجيه مع ابنتها، تقول لـ المنصة "الواحدة تلبس اللى تلبسه اللي بيجرى وراء واحدة يتحرش بيها ده مريض نفسي ومجرم"، تتفق معها آلاء علاء الطالبة التي أتمت عامها الثاني والعشرين "دايمًا المتحرش بيعلق غلطته على شماعة الست".  

وتساهم ممارسةُ البنات للحق في اختيار ملابسهن في التخلص من الأحكام المسبقة التى تربط مستوى الاحترام بمظهر معين. ويساعد  ذلك على قبول الذات وقبول التنوع والاختلاف في المجتمعات بدلًا من فرض قالب واحد، وهو ما تؤكد عليه الطبيبة النفسية واستشارية العلاقات سمية عاطف لـ المنصة "لما الواحدة بتلبس الحاجة اللي مرتاحة فيها وبتحبها بتخلص من الدوامة النفسية اللي بتخليها تحكم على الأخريات يعني ببساطة اللي مرتاح مع نفسه مش حيبقى مهتم يحكم على غيره".

متى تتحول المشاعر إلى سلاح؟

ملايين الفتيات لا يخبرن أحد بتعرضهن للتحرش

لا تقف ممارسة الحق في امتلاك الفتاة لجسدها عند حد اختيار الملابس، لكن أيضًا في اختيار من يمكنه ملامستها أو الاقتراب منها من الأقارب البالغين، وهي مسألة أكثر تعقيدًا من اختيار الملابس. 

اثنان من الأمهات اللواتي يعشن في دمنهور، قالتا لـ المنصة إنهما تجبران بناتهما على مبادلة الخالات والأخوال القبلات والأحضان، وإن لم يشعرن براحة في ذلك. وقالت إحداهما إنها تعاقب ابنتها "فِ وقت ساعتها". وبررت كلتاهما ذلك بتعليم بناتهما "الحنية". 

ممارسة الابتزاز العاطفي ولوم الطفلات عند رفضهن مبادلة الآخر التعبير عن الحب، سواء بالعناق، أو بالتقبيل، أو أي شكل من أشكال الملامسة، دون مراعاة لرغباتهن ومشاعرهن ودون السماح لهن باختيار اللغة الخاصة بهن في تعبيرهن عن الحب، يعد واحدًا من أخطر أنواع العنف الذى يمارسه الأهل مغلفًا بالنيات الحسنة.

يشوه ذلك مشاعرهن عن طريق إنكارها وتحقيرها، ويدفعهن إلى التنازل عن حقهن في الرفض، والدفاع عن حدودهن الشخصية وحماية أجسادهن. 

إجبار الفتيات على السلام في حال رفضهن، يلغي الحدود الشخصية سواء مع النفس أو مع الآخر، في المقابل فإن التقبل غير المشروط من الوالدين لطبيعة أطفالهم يساعدهم على الوصول إلى "التحقق الذاتي/Self-Actualization"، فيصبحون قادرين على تطوير إمكاناتهم الكامنة والسعي لتحقيق ذاتهم الحقيقية بعيدًا عن الضغط لتلبية توقعات الآخرين، وفق ما أكده عالم النفس كارل روجرز

يظهر أثر ذلك بوضوح عند حدوث عنف جنسي، سواء كان داخل العائلة أو خارجها، فلا يستطعن التعبير عن الرفض لاختلاط مفهوم الحب بالأذى في عقول البنات، بما لا يمكنهن كثيرًا من الحديث عن الانتهاكات لأن البيئة غير داعمة ولا آمنة.

عنف بلا كدمات

لا تملك الفتيات الحق في التعبير عن آرائهن، والرفض بأكثر من قول لا، ويضطررن للتنازل وكبح رغباتهن والقبول بما يمليه عليهن أرباب الأسر، وهو ما تتحدث عنه الفتاة إيمان محمد، مستعرضة الضغوط الأسرية التي تتعرض لها.

تقيم إيمان، 22 سنة، في أحد أحياء دمنهور واضطرت لتحويل رغبتها الدراسية والانتقال إلى كلية في مدينتها، بعدما رفضت الأسرة سكنها في المدينة الجامعية. تقول لـ المنصة "بتنازل عن رأيي علشان بحبهم، وعايزة أرضيهم هما أهلي، اتنازلت عن حاجات ياما في حياتي زى إني أقعد فى مدينة جامعية فمرضوش، بقيت أسافر كل يوم بس تعبت من السفر  رايح جاي وماكنتش بعرف أذاكر ولا أرتاح فدخلت كلية تانية فى دمنهور. لما بفتكر الموضوع ساعات بزعل بس لما بفكر مع نفسي بقول هما رفضوا حبا فيا ومن خوفهم عليا".

تؤكد الاستشارية النفسية مروة سليم على خطورة قمع رغبات الفتيات ووصمها باعتباره سلوكًا نفسيًا واجتماعيًا خاطئًا، وهو ما يؤثر بشكل عميق على النمو النفسي والاجتماعي، ويسهم في القبول بالاستغلال النفسي. 

يتضاعف الضغط على الفتيات بالذات حينما يتعلق الأمر بالزواج، فيسلكن أكثر من طريق للمقاومة، أو يكن مضطرات للقبول بالعريس المفروض عليهن.

وبينما تصر نورهان على دفع ضريبة رفضها في كل مرة يعرض عليها زواج لا ترى أنه مقبول، مهما استمعت من تأنيب أو تشكيك في أخلاقها،  تتعامل نانسي، ذات الـ20 عامًا، الطالبة بكلية التجارة، جامعة دمنهور، مع ضغط والدتها عليها من أجل الزواج بنفس طريقتها، تقول لـ المنصة "لما أمى بتفضل تضغط عليها عشان الجواز بكلام زي لو بتحبين وقطر الجواز حيفوتك وبتعيط بعمل نفس الحاجات دي معاهم بحاربهم بنفس السلاح بعيط وأقطع الكلام معاهم بمسكهم من نقطة ضعفهم وبمثل عليهم أني تعبانة".

 التنشئة على الابتزاز العاطفي لا تساعد الأفراد في رؤية العلاقات مصدرًا للأمان، بل معركة دائمة لإثبات الجدارة حسب عالم النفس جون بولبي صاحب نظرية التعلق العاطفي. كما ترى سوزان فورورد مؤلفة كتاب الابتزاز العاطفي أن الاستغلال النفسي غالبًا ما يكون غير مرئي، لكنه يستهلك روح الضحية ببطء حتى تفقد إحساسها بذاتها. 

الحاجة للعلاج

محاولات التأقلم مع العنف الأسرى والتطبيع مع ذلك العنف يمهد لقبول النساء لما يتعرضن له من عنف خارجي أو عنف زوجي باعتباره أحد أركان الحياة فتقل حساسيتهن تجاه العنف، وهو ما يحتاج للدعم والعلاج. 

تؤكد هبة النمر واحدة من مُؤسسات براح آمن لمناهضة العنف الأسري لـ المنصة على أن "الدعم النفسي هو الخطوة الأولى لتمكين النساء الناجيات من فهم نفسيتهن، وكيف يؤثر العنف عليهن، ويجعلهن يدركن حقوقهن ويتعلمن البحث عن استراتيجيات للتعامل داخل بيئة العنف أو الخروج منها وكيفية تخطي التجارب المؤلمة لعيش حياة أفضل بدل الاستمرار داخل الالم النفسي وجلد الذات لفترات طويلة وليدركن أين هن من حياتهن".

تقاوم نورهان ما تتعرض له من ضغط باللجوء إلى بيت خالها لتبتعد قليلًا، لكن سلطة الأب النافذة تحرضه على طردها، لتأخذها قدماها إلى الكورنيش، لتتنفس الهواء ما يساعدها على تحسين مزاجها قبل أن تعود إلى منزلها قلقة من رد فعل والدها.

لم تمسك نورهان بالمفاهيم الدقيقة لما تتعرض له من عنف، ولم تخطُ نحو العلاج، لكنها نجحت في التخفيف من وطأته، تقول "عندي اتنين من صاحباتي بعرف أتكلم معاهم بحرية وبدون ما يحكموا عليا، وده بيساعدني في أوقات كتير".