أخذت التجربة تقريبًا أغلب سنوات عمري الذي انتصفت ثلاثيناته، لأوقن أن هذه العلاقة كانت مؤذية وقوامها العنف، أو كما تعرف حاليًا بـ"العلاقة السامة". وقد يتبادر إلى الذهن أنني أتحدث الآن عن علاقتي بشريك أو حبيب. لكنني هنا ليس للتحدث عن العلاقات المؤذية مع الرجال، وكان لي منها نصيب بطبيعة الحال، بل العلاقة التي نشأت وترعرعت فيها، والتي يفترض أن تكون مساحة الأمان الأولى بالنسبة لأي إنسان.
عشت في منزل العائلة لمدة 28 سنة من عمري تقريبًا، قبل أن أختار الاستقلال (أو الهروب إن جاز التعبير)، عن طريق السفر إلى خارج البلاد لمدة عامين تقريبًا ثم العودة إلى منزلي المستقل لمدة عام بمفردي ثم مشاركة صديقتي في منزل نستقر فيه حاليًا.
في بيت العائلة كان كل شيء على ما يرام، ظاهريًا، حيث المستوى الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي الذي يتمناه أي فرد. وكوني الطفلة الأصغر، حظيت بالمزيد من "الدلال" أكثر من أختيَّ الأخريين.
عشت كفتاة تقليدية في عائلة "محافظة نسبيًا"، كالكثير من الفتيات، مستسلمة تمامًا للأطر التقليدية التي تحكم مجتمعاتنا. التفوق في الدراسة، أيضًا وفر لي المزيد من القبول المجتمعي، خاصة بعد دراستي وعملي في إحدى المجالات الطبية. باختصار، كنت نموذج الفتاة المثالية (good girl) في الأسرة المثالية التي تنتمي للطبقة المتوسطة العليا، وتعمل لتوفير سبل العيش الأكثر رفاهية لأطفالها قدر الإمكان.
رغم ذلك، كنت أشعر دائمًا بأنني لست على ما يرام. لا أشعر بالراحة الكاملة، أو الأمان المطلق. دائمًا كان هناك شيء ناقص وليس كما تبدو هذه الحياة الهادئة نسبيًا. لكنني لم أدرك معنى هذا الشيء إلا مؤخرًا بعد سنوات من القراءة والبحث، والعلاج النفسي كذلك.
مع بدء عرضه العام الماضي، سرعان ما وجد المسلسل الأمريكي Maid من إنتاج نتفليكس، طريقه إلى المراكز العشرة الأكثر مشاهدة في مصر. لم يصل المسلسل إلى هذه المرتبة من فراغ، فهو يناقش واحدة من أهم القضايا الاجتماعية التي ينبغي تسليط الضوء عليها بشكل كبير؛ العنف غير المادي أو غير الملموس ضد النساء، وفي قول آخر "العنف العاطفي".
https://www.youtube.com/embed/tGtaHcqsSE8?controls=0يبدأ المسلسل بمشهد هروب البطلة أليكساندرا بطفلتها الصغيرة مادي في منتصف الليل من المنزل، الذي كانت تسكن فيه مع شريكها ووالد طفلتها، بحثًا عن أي مساحة آمنة تؤويها وطفلتها ذات العامين، لينتهي بها المطاف إلى النوم في سيارتها قبل أن تتوجه في الصباح إلى هيئة التأمينات الاجتماعية، التابعة للحكومة الأمريكية، لتفاجأ بأن الحكومة نفسها لا تستطيع مساعدتها دون إثبات ضرر ماديّ.
كان يبدو أن شريك أليكساندرا يحبها بالفعل، إذ ساءت حالته بعد رحيلها، وحاول مرارًا وتكرارًا إقناعها بالرجوع إلى المنزل. لكن هذه المحاولات كانت مبنية بالأساس على الابتزاز العاطفي أكثر من أي شيء، والذي أعتقد أنه أخبث أنواع العنف الذي قد يتعرض له إنسان، كونه عنفا مغلفا بالحب. عنف خادع لا يرى بالعين المجردة، ولا بحسابات العقل والمنطق.
مع أنه يصعب علي قولها، بل حتى الاعتراف بذلك بيني وبين نفسي، إلا أنني وللمرة الأولى أستطيع وصف علاقتي بعائلتي طيلة السنوات الماضية بأنها كانت علاقة عنيفة، مبنية على ما يسمى بالعنف أو الإيذاء العاطفي (emotional abuse).
يعرّف دليل المبادرات النسائية الشابة الصادر عن مؤسسة نظرة للدراسات النسوية العنف النفسي بأنه ذلك الذي "يشمل الاعتداء على الناجية وإذلالها إما سرًا أو علنًا، التحكم بالممارسات التي يمكن أولًا يمكن للناجية القيام بها، إخفاء بعض الحقائق عن الناجية، تعمد الإحراج والانتقاص من قيمتها، كل ما قد يتسبب بإهانة".
تأثرت كثيرًا بتجربة أليكساندرا، فأنا أدرك هذه المشاعر جيدًا، وعشت فيها، وما زلت أعيش، لسنوات من عمري. في بعض الأحيان، تملكتني الرغبة في احتضان أليكساندرا وأقول لها: نعم أفهمك جيدًا وأشعر بك. أنا أيضًا كنت هناك. من وحي تجربتي الشخصية، أدرك أن الإيذاء العاطفي يصعب إثباته أو الحديث عنه أو حتى الوعي بوقوعه منذ البداية، فقد يستغرق الأمر عمر الإنسان بأكمله والكثير من الجهد لإدراكه، ما بال التخلص منه أو التعافي من آثاره.
- هل يضربك؟
= لا.
- هل يضرب مادي؟
= لا. فقط ليلة أمس كانت مختلفة وتملكني الخوف.
- هل تريدين الاتصال بالشرطة الآن؟ لم يفت الأوان بعد.
= وماذا أقول؟ إنه لم يضربني؟
- هناك ملاجئ مخصصة لضحايا العنف المنزل، لكن عليك أن تسجلي إساءة معاملتك.
= لم أتعرض إلى الإساءة.
- هل يوجد أي شيء تستطيعين مساعدتنا به؟
= بصراحة بلا وظيفة، لا أستطيع أن أفعل شيئًا.
رغم توافر سبل العيش الأساسية، لم أتمتع بالكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية. منذ الصغر، لم يكن لي أصدقاء في المدرسة أو الجامعة، الأمر الذي عزته العائلة لكوني "شخصًا انطوائيًا"، وهو ما ثبت عكس صحته تمامًا بعد سنوات من العمل والاختلاط بالتجارب الحياتية المختلفة بكل أعبائها، وأوقاتها الجيدة كذلك.
أدركت لاحقًا أن عدم تكوين صداقات في سن مبكرة، كان بسبب العزل الاجتماعي الذي فرضته الأسرة علي، بحجة أنني "فتاة" ويجب تربيتي في إطار محدد لا يمكن الخروج عنه، وإلا قد أتسبب في "فضيحة" للعائلة أو أجلب عليها المشاكل من حيث لا تحتسب. كان لدى أبي شيء أشبه بالـ"هوس" من كوننا فتيات، ما يعني أنه لا ينبغي لنا التواجد في أي مساحة يحتمل أن يتواجد فيها ذكور، لا فرق إن كانوا من أقاربنا أم غرباء.
لم يكن مسموحًا لي أن أزور أقاربي أو ألعب مع أطفال العائلة، أو أنخرط في أي أنشطة اجتماعية مع زميلات الدراسة، حيث أصر الوالد على الذهاب إلى مدارس فتيات فقط، منعًا لأي مجال قد نتعرف فيه على أحد الذكور الذين سينالون منا ومن أجسادنا. كان يمكنني تفهم هذا التحليل، إذا كان هدفه هو حمايتنا أو نابعًا من الخوف علينا، ففي النهاية واقع العنف ضد النساء مخيف لي أنا شخصيًا. لكن ما أدركته لاحقًا أن الهدف الرئيسي وراء كل هذه الممارسات وغيرها، كانت خوفا من أن تجلب إحدانا "العار" للعائلة، وهو ما لم يقبله عقلي على الإطلاق.
شيء لا يصدقه عقل
بعد إدراك العنف أو الإيذاء النفسي، تأتي مرحلة أصعب، وهي مسألة البوح به، أو محاولة شرحه للآخرين/ يات. ظاهريًا، كنت في موقع غبطة من الجميع، لأنني أتمتع بأسرة تبدو على مستوى اقتصادي واجتماعي وتعليمي مرتفع نسبيًا. لذلك كان الحديث عن أي إيذاء أو الشكوى هو بمثابة "إنكار للنعمة" و"البطر" على الحياة التي يتمناها الجميع، ناهيك عن إمكانية البوح بذلك للنفس من الأساس، في ظل أنه "بالورقة والقلم"؛ لم أكن أعاني من إحدى المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية المتعارف عليها.
كذلك، من وقت لآخر، تزورني لحظات من "تأنيب الضمير" على الاعتراض على هذه الحياة الخالية من التقلبات، التي تنغص على المرء التمتع بحياة هادئة و"مستقرة". لكن الأمر لم يكن بذلك داخلي. هذا الهدوء الظاهري، كان في مقابله ثورة مشتعلة من الغضب بداخلي، تقوض تمتعي بالحياة أو حتى الامتنان لإيجابياتها التي لا أنكرها بكل تأكيد.
في أحيان كثيرة، كنت أشكو إلى بعض الصديقات والأصدقاء إحساسي بالقمع وعدم الحرية في اختيار مسار حياتي، مثل الاستقلال أو اختيار نوع الوظيفة التي أرغب في العمل بها أو حتى اختيار نوع وشكل الملابس أو مظهري الخارجي كما أريد، وهي أشياء بسيطة للغاية في رأيي، بل هي أبسط حقوقي كإنسانة. لكن دائما ما كانت تأتيني إجابات مثل "احمدي ربنا ع النعمة اللي انتي فيها"، "كويس إن محدش بيمد إيده عليكي"، "في ايه ناقصك عشان تشتكي؟" وغيرها من الإجابات التي كانت، وما زالت، تدفعني للجنون من شدة الغضب.
ليته ضربني..
في نفس الوقت الذي أشعر بالانتهاك والأذى، كان الجميع يشككني في نفسي وفي مشاعري، كما لو كنت "مختلة" أو أتوهم أشياء غير حقيقية، بالإضافة إلى الدخول في الألعاب النفسية، للتأكد من صحة ما أشعر به. نعم، لم يكن الأذى ملموسًا، لكنني كنت أشعر به في كل لحظة من حياتي. كنت أنا فقط من أراه وألمسه.
عندما قررت الاستقلال عن منزل العائلة، وسعيت خلف تنفيذ هذه الخطوة، كانت اتهامات الجنون قد بلغت أقصاها، ليس فقط لأن خروج الفتاة من بيت أسرتها دون زواج هو ضرب من الجنون في مجتمعاتنا، لكن كذلك لأن الاستقلال يعني عبئًا ماديًا إضافيًا لا أتحمله، في حين أنه "لا داعي لذلك"، لأنني لم أكن أتعرض للضرب أو العنف الجسدي، الذي قد يكون مبررًا للعديد من الناجيات للاستقلال عن أسرهن المعنفة. كذلك كان الأمر بالنسبة لأليكساندرا، فهي لم تكن تتعرض للضرب أو الإيذاء الجسدي من شريكها، لذلك كان من الصعب عليها إثبات وقوع الضرر رغم وجوده.
مرت عليَّ أوقات كثيرة تمنيت فيها أن أتعرض للإيذاء الجسدي، إذا كان ذلك هو الحل لخروجي من هذا المنزل. إذا كان الضرب هو الشكل الوحيد للأذى الذي يفهمه المجتمع، فيا ليت أبي ضربني، حتى أحصل على كارت الخروج الآمن و أنجو بحياتي وصحتي النفسية. "لو كان ضربني كنت خرجت من زمان بسهولة"، كررت هذه الجملة كثيرًا وما زلت أكررها.
كسر الدائرة
إذا تجاوزنا مراحل إدراك العنف والحديث عنه، تأتي المرحلة التي أعتبرها الأصعب على الإطلاق في هذه السلسلة، وهي خطوة كسر دائرة العنف، والخروج منها.
في إحدى حلقات المسلسل، تعود أليكساندرا إلى منزل شريكها المعنِّف، بعد رحلة من المعاناة تنقلت فيها بين منزل أمها، التي تعاني أيضًا بسبب عنف زوجها الأسبق، وتصارع مرض الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar disorder)، ومنزل أبيها نفسه الذي عنف أمها حتى خرجت من المنزل هاربة إلى مدينة أخرى فيما سبق، وبيوت أخرى مرت عليها أثناء رحلة النجاة من العنف، مثل بيت صديق وإحدى بيوت الإيواء، مع بعض الليالي التي قضتها مع ابنتها في سيارتها أو في الخلاء.
بالمناسبة، هذا الأب أيضًا كان يبدو أنه تغير وبات أكثر رحمة وإنسانية، لكن مع متابعة المشاهدة نجد أن كل ذلك كان مجرد وهم، خاصة في المشاهد التي يتواطأ فيها الأب مع الشريك، لأنه كذلك "لا يرى العنف" في هذه العلاقة.
لماذا تعود؟ هذا هو السؤال الأشهر الذي تواجهه أغلب الناجيات إذا قررن العودة في مرحلة ما إلى دائرة العنف من جديد. والإجابة هنا هي أن رحلة النجاة طويلة وليست سهلة. قد تأخذ سنوات، حتى تتمكن الناجية من كسر الدائرة بشكل نهائي وبلا عودة. هذا إذا تمكنت من ذلك من الأساس. بالإضافة إلى المحطات التي تمر بها من لوم الناجية، وغياب المساحات الآمنة، والتشكيك في قواها العقلية، وعدم وجود سبل الدعم المناسبة. كل هذه الأسباب تتكاتف معا لتدفع الناجية في أوقات كثيرة للتشكك حول قرارها في النجاة، والاستسلام للمزيد من العنف، خاصة إذا كان غير ملموس، في الوقت الذي تتعرض فيها للوم أيضًا على العودة كما تلام إذا غادرت.
الخروج من دائرة العنف المنزلي يشبه الانسلاخ من الجلد، حيث تجبر الناجية على الخروج من مساحات لا تعرف غيرها كمصدر للأمان الذي لم تجده، إلى المجهول الذي قد يكون في أحيان كثيرة أسوأ من هذه المساحات. فقد واجهت أيضًا هذه الصعوبة عند الخروج من دائرة العنف التي نشأت بداخلها، واعتبرتها منطقة الراحة (Comfort zone)، إلى مستقبل لا أعرف ملامحه، ولا إلى أين يقودني فيما بعد، لكن كل ما عرفته حينها أن كل هذا الألم لابد أن ينتهي بأي شكل وبأي ثمن.
لذلك أتفهم جيدًا كل ناجية حاولت كسر هذه الدائرة ولم تستطع، أو خشيت المحاولة من الأساس، أو خرجت وعادت إليها مجددًا، فأحيانًا ما تمر علي لحظات أتساءل فيها: هل أخذت القرار الصحيح؟ هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟ ألم تكن الحياة في بيت العائلة أكثر دفئًا؟ ذلك رغم أنني إلى حد كبير مُمَكَّنة اقتصاديًا واجتماعيًا، وبالإضافة إلى ذلك فإن علاقتي بالأسرة أصبحت أكثر هدوءًا واستقرارًا و"صحيةً" بعد الانفصال، فما بال الناجيات اللاتي لم يحالفهن الحظ أو لم يكن لهن نصيب من التعليم أو التمكين المادي أو غيره؟ ناهيك عن سبل التعافي الذي قد لا يسعني هذا المقال للحديث عنها، لكنها تحتاج إلى حديث آخر مفصل حول فرص التعافي من ذلك الأذى، الذي استقر بداخلنا لسنوات طويلة دون إدراكه حتى، ناهيك عن التعافي منه.
بمرور الوقت، تعلمت أنه من الأفضل ألا نحكم على الناجية، وألا نزايد على ألمها وإحساسها بالأذى، فأشكال العنف ضد النساء مختلفة ومتنوعة، وأن منها ما هو خفي عن الأنظار وغير ملموس، بالتالي لا يمكن الشعور به إلا إذا مررنا بنفس الأذى ودخلنا نفس الدائرة، وحينها أيضا سندرك مدى صعوبة كسرها والخروج منها بأمان.
وإذا كنت أنا وأليكساندرا تمكننا من كسر هذه الدائرة في مرحلة ما من حياة كلٍّ منّا، فذلك لا يعني أن جميع الناجيات بالضرورة يمكنهن ذلك، أو حتى ينبغي علين ذلك من الأساس، كذلك الخروج من شرك العنف لا يعني التخلص منه نهائيا، أو أننا قد لا نضطر إلى العودة مرة أخرى. وحتى إن لم نعد، فآثاره قد تبقى جزءا منا ما حيينا.