
مرجلة بلا جدعنة وعنف لا يغادر التراكات
ذكورة جريحة وإحراج بلا ضفاف
"كُتْر السلام يِقِلِّ المعرفة"، مثل شعبي مصري دارج، قديم ومعاصر ومستمر، كنا نستخدمه مجازًا في سعينا لكبح جموح ثرثرة المجالس الخانقة وما أكثرها.
أكثر ما يلفت نظري في مظاهر التعبير اللفظي عند المصريين في السنوات الماضية، هو تعاظم المبالغة الشديدة في التعبير عن أيِّ معنىً أيًّا كان، حتى صار الكثيرون يستخدمون مفردة "حرفيًا" في مواضع استخدام مفردة "جدًا" لوصف المشاعر والأحاسيس والأحداث والقصص، وكأنها محاولة لنفي تهمة الكذب عن الرواية، أو عدوًا خلف إثبات الصدقية، في زمن تكثر وتتكاثر فيه الروايات والحكايات والصور.
نحن ثرثارون ولا شك، لأننا في الأصل فلاحين، نعمل ونشقى كثيرًا ـ نفلح الأرض طوال العام بلا توقف، لم تعرف ثقافتنا القديمة مفهوم الإجازة الأسبوعية. لكن في المقابل، كانت لدينا شهور ما قبل الحصاد؛ طقس حار يعتدل في المساء، أيام وليالٍ طويلة للسمر على المصاطب، تلك الأيام التي اخترع فيها المصريون النكتة واللطف والتنمر واللغو اللفظي، الحكايات والنميمة، تصنع الخيال لوأده وتفسح للإبداع مجالًا لتقمعه. نفعل كلَّ ذلك بينما نراقب الأرض وهي تطرح ما سنكمل عيشنا به.
ولأن الثرثرة هي الأصل، كان أبطالنا وبطلاتنا المتخيلون شخصيات مُقلة في كلامها، فلقد أنتجت الثقافة المصرية من داخل شفراتها هؤلاء الأبطال الذين يفعلون أكثر مما يفصحون ويكتنف شخصياتَهم الغموضُ لأنهم يقدِّسون الخصوصية وأسرارها، فإذا ما عجزوا عن الفعل اتكأوا على الصبر عالي الجبين مرفوع الرأس.
نتمنى ونُجِلُّ انتصار الفعل على الكلام في كل موضع وجانب، العمل والعطاء والحماية والحب والجنس، اللي بيقول مبيعملش واللي بيعمل مبيقولش، لذا وعلى المستوى الوجداني تورطنا في ربط الجدعنة بتعبيرات الوجه والسلوك المباشر أكثر من وقع الصياح على الأذن. كان محمد أبو سويلم/محمود المليجي صامتًا تنطق عنه تعابير وجهه، أما الردح فهو لصيق بالنَّسونة العاجزة رغم أننا خير أمة تنتج الشعر والكلام!!
في الوقت الذي تحاصرنا فيه حروب الأخصام الكلامية في كل منتج فني، متفرنج أو محلي، راب أو مهرجانات، وهي تستعرض إنتاج العجز الصافي، يعيد البعض في نفس الوقت إحياء ما قاله عبد الرحمن الشرقاوي عن "شرف الكلمة" في مسرحية الحسين ثائرًا، حيث مفتاح الجنة في كلمة ودخول النار على كلمة وقضاء الله هو كلمة.
وليس هذا من قبيل الصدفة، فنجيب سرور في أجمل قصائده يرى أنَّ هتك عرض الكلمات يكافئ ضياع حقوق الأحياء والأموات، ويقول لنا أحمد فؤاد نجم إنَّ الكلمة وفاء الأحرار لدَين من غير يدَين.
كل هؤلاء المثقفين في تقديسهم لشرف الكلمة، كانوا ينتقدون الموروث العربي المغالي في الفخر والحماسة والغزل والهجاء، بلا فعل أو ممارسة جادة.
الأحفاد المهزومون ليسوا في موضع بعيد على كل حال، فالاستعراض والمشهدية باتا يُغنيان عن أي أصل، ولكنَّ شيئًا كامنًا فينا يجعلنا نعرف أن الغلو في الاستعراض هو نفي للأصل والجوهر.
حين أرى صديقين يبالغان في محبة بعضهما على السوشيال ميديا، أعرف فورًا أن الأمور ليست على ما يرام بينهما. وحين تُمسك عروسٌ بالكريستالة لتمدح أباها وأخاها، لأنهما السند والمدد والعدد، في افتئاتٍ على وظيفة النبطشي، تلك المهنة اللصيقة في مخيلتنا بالرياء والضجيج، وقتها نشعر أن هذه الزيجة مهددة في القريب.
تربَّى في حِجر الطغيان جيلٌ كان طفلًا غير واعٍ عند اندلاع ثورة يناير، هذا الجيل يختبر شبابه مستويات غير مسبوقة من القمع والقهر والإهانة اليومية، فأنتج وفي نفوس الرجال بالذات، نوعًا خبيثًا من الذكورة الجريحة، تحاول بغضبٍ تعويض هذا القمع في صورة خطابات كراهية صافية للنساء أو ادعاءات لفظية لذكورة مستحيلة. عنف لا يغادر التراكات، ومجازات تستعرض توحشًا لا يمكن له أن يتحقق إلا في لحظات شبه انتحارية.
الكلمة "خنجر جوه الحلق" لزين العابدين فؤاد، والصرخة تقذف دمًا من حناجر أصحابها، فإذا ما غادرت الحلوق خرجت نائحة متمتمة بأحلام مكبوتة تعي استحالة تحققها، تستزيد من ذاتها وتستثمر في خيبتها، فتتحول إلى هذيان محرج، هنعلي ونعلي ونجيب عيال تعلي، المساحة بين القول وفعله، وبين الرغبة وممارستها، تتسع حتى جهلت المعاني نقائضها.
هكذا يَحصل البسطاء على حق الكلام والتعبير ولكن في أسواق الضجيج على السوشيال ميديا، حيث المولد صاحبه غائب كما غنى الراحل العزيز أحمد عدوية.
النتيجة النهائية لمنافسات الاستعراض وتسوُّل الانتباه بالمبالغة هي الهزيمة المحتومة، ففي السباق المحموم ليس لدى أغلب الناس ما يقدمونه سوى أجسادهم وغرائب الوجود الإنساني المصطنع، وفي كل الأحوال العرض يفوق الطلب بمراحل، أو كما قال توفيق الدقن في الشيطان يعظ (1981) "الناس كلها بقت فتوات؟ أمال مين اللي هينضرب؟".
أغلب هؤلاء يتعرضون للضرب في كل يوم وكل ساعة، الغالبية تعرف وتواصل الغناء، لعلهم الآن يفهمون ما فعلوه ويفعلونه بنسائهم!
سيقول البعض إن الظاهرة عالمية، حسنًا هي عالمية بالفعل، فالطور الحالي من القهر الرأسمالي واغتراب الإنسان عن عمله وعالمه يتجاوز حدود كل البلدان بالفعل، الفارق هنا هو أن "كرينج" المبالغة في حالتنا المصرية والعربية شديد الدلالة، خاصة لو كان مستوردًا.
نحن في الأصل مبالغون، لذا حين نستورد مبالغة قهر الأقلية السوداء في الولايات المتحدة ونعرِّب الراب لنصبح أقلية سوداء في بلادنا، أو حين نُمصِّر الألتراس فنُحوِّل جمهورنا المتعصب أصلًا إلى جمهور مجنون بالكُليَّة، وقتها ندخل في مساحة إحراج الإحراج، وهي مرحلة شديدة الإحراج.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.