
جورجيا ميلوني.. فاشية جميلة في عالم للرجال
"إذا استخدمتَ كلمة 'جميلة' في الولايات المتحدة لوصف امرأة، فهذه نهاية مسيرتك السياسية، لكنني سأجازف"، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ثم أشار إلى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وأضاف "إنها شابة جميلة".
في مراسم توقيع اتفاقية إنهاء الحرب في غزة، تحدّث الرئيس الأمريكي بعفويته المعتادة. هذه المرّة عبّر عن قناعاته بشأن النساء اللاتي يتشارك معهنَّ المجال العام في العمل السياسي. لم يحتفظ بها لنفسه، بل أطلقها وعادت مصحوبةً بضحكاتِ القاعة التي بدا أنها تشاركه هذه الأفكار بعد أن سبقه إليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي استغل حديثًا وديًا مع ميلوني التقطته الكاميرات، ليخبرها أنه سيجعلها تقلع عن التدخين فهو لا يناسبها.
تحولت "السياسية" التي قطعت مسارًا سياسيًا طويلًا منذ التسعينيات إلى مصدر تسليةٍ للقادة الجادين المجتمعين احتفاءً بإنجازاتهم في إنهاء حرب استمرت عامين، وهم يتداولون الحديث عن جمالها في فترات راحتهم على هامش الاجتماعات.
هذه ليست المرة الأولى التي تلفت فيها ميلوني الأنظار كونها امرأة؛ في قمة مجموعة السبع عام 2024، أثار فيديو تتبادل فيه التحية البروتوكولية مع رئيس الوزراء البريطاني حينها ريشي سوناك موجةً من التعليقات الساخرة، بعدما وُصف الموقف بأنه "عناق محرج" لسوناك الذي بدا أنه يتقدم لتقبيل ميلوني وهي تحاول الابتعاد عنه أكثر من مرة. وأيضًا شكَّل ركوع رئيس وزراء ألبانيا إيدي راما على ركبته مستقبلًا إياها لدى وصولها إلى القمة السادسة للمجموعة السياسية الأوروبية في تيرانا مادةً للحديث عن أنوثتها.
تلفت ميلوني النظر خلال حضورها بين الرجال، بشعرها الأشقر المنسدل على كتفيها، وابتساماتها التي ترد بها على ما يردده القادة من كلماتٍ تُفضِّل الصحافة التي امتهنتها وهي صغيرة وصفَها بالغزل. وهي صورة تناقض تلك التي اعتادت السياسيَّات على التواري خلفها إذا أردن التحقق في وسطٍ طالما احتكره الرجال.
على سبيل المثال، وعكس حضور ميلوني الأنثوي، سلكت المستشارة التي حكمت ألمانيا أكثر من عقد ونصف العقد أنجيلا ميركل مسارًا حرصت خلاله على ألَّا يُنظر إليها باعتبارها امرأةً بل سياسية. هذا المسار تُسمِيه الباحثة الألمانية لونينبورج بـ"التحييد"؛ تجنّب أي حضور لافت لأنوثتها في المجال العام.
ترصد الباحثة علاقةً ملتبسةً بين التجسيد الإعلامي للأنوثة والنجاح السياسي، إذ ما زال "النموذج الهرمي" حاكمًا لتقييم الكفاءة والقدرة على الإقناع، ويؤطر حضور المرأة السياسي ضمن القوالب النمطية التقليدية للنساء في السلطة.
لكن دراساتٍ صادرة عن مركز مارجريتا فون برينتانو لبحوث الجندر في جامعة برلين الحرة، ترصد تزايدًا في وجود النساء في المناصب العليا وتعيده إلى ظهور صور أكثر تنوعًا لأنوثة المرأة في المجال العام. لذلك، مثلما نجحت ميركل في كسر إطار حضور المرأة السياسي بهدوء، عبر تفكيك رمزية الجسد والأنوثة من المشهد السياسي لتفرض نفسها "قائدة" قبل أن تكون "امرأة"، قبلت ميلوني إطارها واستخدمته بذكاء، وأبرزت ملامحها الأنثوية لتأكيد قوتها.
قوة الفاشية الشقراء
ولدت جورجيا ميلوني في روما عام 1977، لأب يساري وأم يمينية الهوى. تركها أبوها وهي طفلة صغيرة وانتقل إلى جزر الكناري، لتقرر وهي في الحادية عشرة ألَّا تراه مرة أخرى.
لاحقًا، انتقلت العائلة إلى جارباتيللا في جنوب روما، لتصبح جورجيا قريبة من جديها وتعيش في الحي الذي تقطنه الطبقة العاملة، ويعدُّ تقليديًا معقلًا لليسار. رغم ذلك، بمجرد أن بلغ عمرها 15 سنة، انضمت إلى جبهة الشباب؛ جناح اليافعين في الحركة الاجتماعية الإيطالية MSI الفاشية الجديدة، وأصبحت فيما بعد رئيسة الفرع الطلابي لخليفة الحركة، التحالف الوطني.
ولأنها تربت في حيٍّ لا يبدو بيئة مناسبة لإنبات الجذور السياسية لمثل تلك الفتاة التي أصبحت أول رئيسة وزراء يمينية متشددة في إيطاليا منذ بينيتو موسوليني، يميل البعض لتفسير مسار جورجيا السياسي نحو اليمين باعتباره انتقامًا من والدها على تركها.
لم تكمل ميلوني تعليمها الجامعي، وحسبما تذكر فقد حصلت على شهادة الثانوية في اللغات من معهد أميريجو فيسبوتشي في روما عام 1996. لكنَّ شكوكًا أثيرت حول صحة هذه الشهادة، بعدما أشار منتقدون إلى أن هذا المعهد مؤسسة مهنية للفندقة لا يمنح شهادات في اللغات، كما تداولت بعض التقارير اتهامات بأنها زورت أو بالغت في توصيف شهادتها لجعلها أقرب إلى مؤهل أكاديمي تقليدي.
غير أن هذه التهم لم تؤثر على مسيرتها السياسية التي بدأتها من اليمين وهي في مقتبل العشرينات.
بينما تفرض الأعمال المهنية رجالية الطابع على النساء التسلح بصفات ذكورية احتفظت ميلوني بأنثوتها
عملت ميلوني نادلةً في عدد من مطاعم وحانات روما، ومربيةً للأطفال في منازل العائلات الميسورة، كما ساعدت والدتها في عملها بائعة خضروات في سوق بورتا بورتيزي الشعبي، كل ذلك أثر في خلق وعي طبقي لديها، وعلمها الاعتماد على ذاتها.
لاحقًا، انضمت إلى نقابة الصحفيين الإيطاليين بين عامي 2004 و2006 لتصبح صحفيةً محترفةً وتعمل محررةً في صحيفة "إل سيكولو ديتاليا" التابعة لحزب التحالف الوطني.
احترفت ميلوني الظهور الإعلامي؛ وتعملت منذ بداية ظهورها السياسي ضيفةً في البرامج التليفزيونية ناشطةً طلابيةً يمينيةً في منتصف التسعينيات، كيف تجذب الانتباه بحضورها الأنثوي وشبابها وحماسها وحيويتها، إلى جانب كونها "تلك الفتاة النحيلة الجادة للغاية وتتمتع بروح تصميم عالية"، و"تمنع أي شخص آخر من الاستحواذ على الميكروفون"، كما يصفها حليفها السياسي ماركو مارسيليو، الذي كان مديرها لعشر سنوات.
وبينما تفرض الأعمال المهنية، رجالية الطابع، على النساء الممتهنات بها التسلح بصفات ذكورية تقيهم شر الاستهانة بهم، وتضع حواجز وحدود تغنيهم عن التعامل معهن كفئة أدنى أو أقل كفاءة وخبرة، احتفظت ميلوني بمظهرها الأنثوي، متحدية ما يفعله الإعلام بأمثالها من السياسيات.
تُظهر دراسة إيطالية أن السياسيات يُقيّمن غالبًا من خلال مظهرهن وجاذبيتهن، لا من خلال أفكارهن أو برامجهن. كما يتحوّل الإعجاب بجمال السياسيّات إلى ظاهرةٍ لها تصنيفاتها وقوائمها الخاصة.
امرأة.. أم.. مسيحية
لم تحاول الشابة اليمينية كسر هذه القاعدة، بل استخدمتها. فقد جعلت من الصورة التي يتوقعها المجتمع من "المرأة المثالية" الشقراء، الأنيقة، المتزنة، جزءًا من هويتها السياسية، ورافعةً لخطابها المحافظ الذي يميل إلى قيم العائلة والأمومة والدين.
لتكمل الصورةَ بميولها السياسية، إذ التزمت باليمين الذي يروق للأوروبيين في هذه المرحلة.
صرختها التي مهدت لها الطريق نحو رئاسة الوزراء كان إعلانها أنها امرأة وأم ومسيحية، لا بوصفها شعارات شمولية، بل حدود لتعريف ذاتها في مواجهة أي سرديات تقدمية؛ تبنى رأيًا واضحًا فيما يخص الهوية الجندرية "إنهم يريدوننا أن نصبح المواطن إكس والمواطن واي، بحيث لا نقدر على تعريف هوية لأنفسنا".
ورغم الآمال التي عُلّقت على ميلوني بعد أن أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في إيطاليا، فإن واقع النساء في البلاد لم يتبدّل كثيرًا، فإيطاليا لا تزال واحدة من أسوأ الدول الأوروبية في مؤشرات تمكين المرأة؛ بلدٌ تُعامل فيه العاملات زينةً في المكاتب أكثر منهن كقوى منتجة.
تشير دراسات حديثة إلى أن 85% من الصحافيات الإيطاليات تعرّضن لشكل من أشكال التحرش المهني، فيما وثّقت مجلة لا إسبريسو حالات واسعة من المضايقات في صناعة الإعلان.
وبينما كان بإمكانها استثمار موقعها لكسر هذه الحلقة، اختارت ميلوني أن ترث النظام الذي رسّخه سيلفيو بيرلسكوني، بثقافته التي حوّلت النساء إلى مكمّل جمالي للمشهد العام، لا فاعلًا فيه. لم تعمل حكومتها على إصلاح البنية التي تُقصي النساء من مراكز القرار، ولا على تغيير الصورة النمطية التي علّقت أجسادهن وحدها على جدران السياسة والإعلام لعقود، ولم تأخذ خطابهن بالجدية نفسها.
حتى حين أعلنت في مطلع عام 2023 انفصالها عن شريكها بعد ما قاله من تعليقات وُصفت بأنها "تمييز ضد المرأة"، بدت كمن يفصل بين الخاص والعام عمدًا، وهي تتجنب أن يتحوّل الموقف إلى نقاش أوسع حول مكانة النساء أو حقوقهن في المجتمع الإيطالي.
أصبحت ميلوني حسب وصف الكاتبة ورائدة الأعمال المتخصصة في قضايا المرأة ريكاردا زيزا "أول مناصرة لحقوق المرأة في إيطاليا دون أن ترغب في ذلك حقًا"، لكنّ المفارقة أن صعودها لم يُترجم إلى أجندة أو حتى خطاب رمزي يناهض التمييز. اكتفت بأن تكون المرأة التي كسرت السقف الزجاجي دون أن تزيله، محافظةً على المشهد كما هو؛ امرأة في القمة، ونظام قديم تحتها لم يتزحزح.
السقف ذلك هو الذي ظل يُمطرها بشظاياه كلما وقفت بين الرجال. ففي القاعات الدولية التي يُفترض أن تُعامل فيها ندًّا، تعود النظرة القديمة لتضعها في الإطار المألوف؛ "امرأة جميلة وسط سياسيين رجال" نجحوا في تحويل محفل سياسي إلى موقف ميكروباص؛ يوجهّون فيه لرئيسة وزراء عبارات غزل ذكورية ومحاولات تقرّب برداء النصح والتقويم، وعليها هي ابتلاع كل ذلك، لتحافظ على مسيرة ترامب السياسية من اتهامات التحرش.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.