
ضد عمل المرأة.. سوشيال ميديا تداعب الذكورة الهشة
في مجتمعاتنا الشرقية، نفضِّلُ الدوران في دوائر فارغة، ويبقى ما هو محسوم من القضايا الاجتماعية في الدول الأكثر تقدمًا مفتوحًا على طاولة النقاش دون نتيجة ولا تقدم.. بل يتقهقر أحيانًا.
حقُّ المرأة في العمل يأتي على رأس هذه القضايا، إذ لا يزال موضوعًا مثارًا على السوشيال ميديا، وانتشرت في الأشهر الماضية ما يمكن وصفه بموجات متتالية ضد عمل النساء وللتحذير من الزواج بالمرأة العاملة، وصلت في بعض البوستات لتصوير المرأة العاملة بأنها ستخون زوجها يومًا ما، وأن بقاءها مع رجال خلال ساعات العمل سينتهي بما لا يُحمد عقباه.
كغيرها من حملات العنصرية والكراهية لا تعتمد على إحصاءات أو أفكار منظمة، تلعب البوستات والميمز التي تستهدف عمل المرأة على مداعبة واستفزاز روح الذكر الشرقي والغيرة، فعلى سبيل المثال تعرِضُ العشرات منها سيناريو واحدًا عن الخلوة بين الموظفة وزميلها في المكتب، مستدعية خيال المتلقي لإكمال الصورة المَرَضيَّة.
سذاجة الخيال
بعيدًا عن ابتذال عرض بيئة العمل باعتبارها مكتبًا مغلقًا على ذكر وأنثى فقط، فإن تلك الأفكار تؤثر في كثير من ذوي العقلية الذكورية التي بُنيت على العادات والتقاليد أولًا، وعلى القصص المتداولة في مجتمعات الرجال، مما يجعل أي محاولة لانتقادها محفوفةً بالخطر، حيث ستجلب السخرية والاتهام بالدياثة.
تتضمن الكثير من البوستات أفعالًا معتادةً تتكرر بين زملاء العمل بشكل يومي، مثل المزاح وتبادل النقاش، لكن أغلب المؤمنين بعادية هذه الأفعال لن يمتلكوا الشجاعة ليقولوا إنهم لا يمانعون أن تمزح زوجة أحدهم مع غيره. هذا الصمت يشجِّع على طرح تساؤلات عمن يملك الموظفة؛ زوجها أم المدير؟ لتتغلب روح التملُّك لدى الزوج دون أن يسأل نفسه ما معنى أن تملكها؟
تتجاهل الحملات التي تصوّر بيئة العمل على أنها "مكان للخلوة المحرمة" الواقع الفعلي للوظائف والمهن المختلفة، حيث تعتمد بيئات العمل على الاحترافية والضوابط والانضباط النفسي والفهم للحدود المشتركة، في وجود زملاء آخرين وكاميرات مراقبة، وقوانين وقواعد تحكم وتجرّم أي تجاوزات.
لا يرى من يشارك مثل هذه البوستات الواقعَ إلا كما تشكله أوهامه حول المرأة الموظفة الكارهة لزوجها بدون سبب، التي تميل لحب زميلها أو مديرها في العمل بدون سبب أيضًا! هذا يخلق صراعًا وهميًا بين الزوج والمدير أو الزميل لا سبب لوجوده، ما يجعل الكثيرين يميلون إلى الزواج من غير العاملات أو إجبار النساء على تركه تجنبًا لهذا الصراع المتخيل.
الدين بيقول إيه؟!
يرى البعض أن عمل المرأة يتعارض مع الأدوار التقليدية المنوطة بها في المجتمع، ويستندون في رفضهم إلى تفسيرات دينية واجتماعية. فيشترط الرجل على زوجته ترك العمل ملتزمًا بشعار ما تتجوزش موظفة حتى تكون متفرغة لواجباتها الأساسية من إنجاب وخدمة الزوج. يعتبر هؤلاء أن السماح للزوجة بالعمل "دون ضرورة ملحّة" علامة على ضعف التزامه بدوره كراعٍ ومُنفِق.
وتتغذى الكثير من الأفكار السلبية حول عمل المرأة بشكل أساسي على فتاوى لشيوخ تحرم عمل النساء إلا للضرورة، هذا مع ما يحمّله المحرضون للنساء من مسؤولية ما يتعرضن له، إذ يستسهل المهاجمون لوم المرأة حال تعرضها للتحرش، مقدمين لها الحل المثالي للمشكلة، بالعودة إلى المنزل كونها تخلق بيئة ملائمة للفحشاء بحضورها وسط الرجال!
لا يأتِ ذكر الأجور إلا من خلال شكوى المشاركين في الحملة من الظلم الواقع عليهم جراء دخول النساء سوق العمل
وفق إحصاءات، فإن النساء لا يمثلن سوى 15% من سوق العمل. على الجانب الآخر تكشف الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مايو/أيار 2023 عن أن المرأة هي المعيل الأساسي لـ4.4 مليون أسرة من بين 25.8 مليون أسرة مصرية.
كما أن الظروف الاقتصادية تجعل عمل الزوجة حلًّا ضروريًا لكثير من الأسر للحفاظ على أوضاعها المادية، لكن هذه الحقائق تغيب بجوار ما تروجه هذه الحملات من تصوير الرجل العامل بطلًا معيلًا للأسرة يضحي بحياته من أجلها، في مقابل المرأة العاملة الباحثة عن فرصة للهروب من المسؤولية دائمًا، متخذةً من عملها مصدر قوة لإعانتها على قرار التخلي عن الزوج في أي وقت تشاء!
السبب في مشكلة الأجور!
على الرغم من أن معدل أجور النساء يقل عن الرجال بما يزيد على 13%، فإن ذِكر الأجور لا يأتي إلا من خلال شكوى المشاركين في الحملات من الظلم الواقع عليهم جراء دخول النساء سوق العمل، بدعوى أن أصحاب العمل يفضلون تعيين النساء لأنهن يقبلن بأجور أقل.
يرى هؤلاء أنهم أحق بالعمل، فالنساء ينفقن أموالهن لشراء "أشياء تافهة وغير مهمة"، أو لمجرد إثبات الذات، بينما يعاني الرجل العائل.
تتحمل المرأة العاملة وحدها عبء سوء المرتبات في مصر، وليس الحكومة ولا أصحاب الأعمال ولا حتى الوضع الاقتصادي العام.
والواقع أن ضَعف الأجور يعود لأسباب عدة، منها سياسات التشغيل، ومستوى الإنتاجية، والوضع الاقتصادي العام.
قد يكون الشعور بالعجز وما يخلفه من غضب سببًا شديد الصلة بارتفاع موجة الهجوم على النساء العاملات، ويمكن أن تفسر أيضًا باعتبارها محاولات بائسة من الذكور الذين يتعرضون للهزيمة كل يوم من أجل الفوز على أي أحد، ولا خصيم أضعف من المرأة، خاصة مع الذكورية الشرقية، التي عرفت طريقها للتطور من "سي السيد" إلى السيجما الذي يرغب في لفت الانتباه، ويستمتع بفرض سيطرته على النساء.
حملات الهجوم على عمل المرأة ليست سوى امتداد لموجة ذكورية تحاول تحميل النساء مسؤولية الفشل الاقتصادي والاجتماعي بدلًا من مواجهة الأسباب الحقيقية لهذه المشكلات.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.