بدأتُ مؤخرًا قراءة دراسة اجتماعية للباحثة أورنا دوناث بعنوان ندم على الأمومة، نُشرت عام 2015 في كتاب أحدث جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية والاجتماعية. أجرت دوناث مجموعة من المقابلات مع عدد كبير من الأمهات، تحدثن فيها عن تجاربهن المختلفة في التربية، بكل أبعادها العاطفية والنفسية والاجتماعية والمادية.
عنوان الدراسة لا شك صادم، ودعوة للاختلاف والجدل، لكنَّ اختياره كان موفقًا لتحريك المياه الراكدة وتحفيز النقاش حول هذا التابو المجتمعي، وتشجيع المزيد من الأمهات على الحديث صراحة عن مشاعرهن، دون الإحساس بالعزل الاجتماعي لتعبيرهن عن هذه المشاعر المتناقضة حيال تجاربهن.
لا تتشابه تجربة الأمومة بين أم وأخرى، فكل تجربة هي قصة فريدة حتى لو ظننا أننا نصبح شبه أمهاتنا في نهاية المطاف. لكنَّ قاسمًا مشتركًا يجمع تجاربنا وهو التنميط، حيث تنطلق دوناث للحكي عن المسكوت عنه في مسألة الأمومة.
"أحب طفلي لكني أكره الأمومة". عبارة وردت في الكتاب تلخص الكثير عن ازدواجية المشاعر تجاه الأمومة ودور الأم. وهو بالفعل مجرد دور، أو هكذا يجب أن يكون، إلى جانب أداور أخرى تستطيع المرأة القيام بها، وقدرتها هذه لا تختفي بالضرورة بمجرد الإنجاب وحمل اللقب.
الدور الآخر إلى جانب الأمومة ومسؤولياتها هو مفتاح السر. حتى خمسينيات القرن الماضي، ظل الترويج لصورة الأم، في السينما والدراما والإعلانات والأدبيات المتنوعة، باعتبارها ربة المنزل المتفرغة لتلبية مطالب أسرتها والاطمئنان على راحة زوجها العائل الوحيد. كما يُناط بها كامل المسؤولية في رعاية الأطفال وتربيتهم، فتتحمل بالتالي مسؤولية أي أخطاء قد يرتكبونها وتُتهم بالتقصير.
امرأة ترتدي مئزرًا وتقف أمام البوتجاز باسمةً في إعلانات أدوات التنظيف الموجهة لها شخصيًا، هي الأم التي ارتاح لشكلها ودورها المجتمع، إلى حين ظهور الحاجة إلى نمط آخر، لتحقيق أهداف استهلاكية واقتصادية ضمن التوجهات الرأسمالية التي كانت بدأت مع الثورة الصناعية.
النمط الجديد طالب المرأة بالخروج الى العمل، لتكون جزءًا من آله الانتاج والاستهلاك المتضخمة، لتزداد المسؤوليات والأعباء. لكنَّ ذلك لم يقابله أي تغيير حقيقي على مستوى الأسرة النووية وتوزيع المسؤوليات داخلها. فظلت مهام المرأة في البيت كما هي؛ الأم الراعية والزوجة المُحِبَّة وست البيت الشاطرة، بعد إضافة أعباء الوظيفة والحياة المهنية.
لا يختلف الحال كثيرًا إذا كان دافع المرأة للعمل هو التحقق الذاتي، والاستقلالية المادية، أو المساعدة في متطلبات الأسرة إلى جانب الشريك؛ فالنتيجة واحدة، الاثنتان تتحملان الأعباء نفسها.
لا أريد أن يبدو كلامي عن عمل المرأة وكأنه "مؤامرة" رأسمالية ضدها، على العكس تمامًا، فأيًا كانت الدوافع لعمل المرأة، الأم، فقد ساهمت بتمكينها وأكسبتها حقوقًا مشروعةً، كان التمييز حائلًا دون حصولها عليها كالحق في الانتخاب، والمشاركة في الحياة السياسية.
لكن عندما يتعلق الأمر بالأمومة، ظلت الصورة النمطية للأم "المثالية" هي السائدة وما يتم الترويج له حتى اللحظة، تلك الأم التي تظهر علينا في الإعلانات إياها؛ تصحو فجرًا لتغيّر حفاضات طفلها بمنتهى الشياكة والرضى والابتسام، وتوفّق، بمهارة، بين حياتها المهنية وأسرتها. العبقرية مُدرِّسة الرياضات والطباخة التي لا يُعلى عليها، والحنونة والصبورة، التي تتحمل مزاج زوجها وحتى خيانته حفاظًا على الأسرة، إلى آخره من الصورة الموحدة للأم، التي على جميع الأمهات أن يحتذين بها.
غاضبة في الصباح نادمة في المساء
أجيبيني بصدق؛ متى كانت آخر مرة بدلت حفاضات طفلك في الثالثة فجرًا وكنتِ تطيرين من الفرح؟ وأنتِ تفكرين بأنك لن تنالي القسط الكافي من النوم لتتحملي في الصباح زحمة المواصلات إلى المدرسة أو الحضانة، ثم تحمل سخافات ساعات العمل الطوال، والمرور على السوق إلى آخر لائحة متطلبات اليوم الواحد المتعددة منك أنتِ وحدك؟
لكن عليك أن تحافظي على صورة الأم المعدة لك، وإلا سقطت عنك القداسة. أخبرتني صديقة لي وهي أم حديثة، بأنها في الصباح وهي تسابق الدقائق قبل أن يفوتها موعد القطار إلى عملها، تكون عصبية جدًا مع طفلتها، حدَّ الغضب من تلكؤها في تنفيذ التعليمات كي لا يتأخر الوقت، وأنها في المساء تعود منهكة من الشعور بالذنب حيال غضبها وتشعر بالندم الشديد وتحاول أن تعوض في الوقت القليل الذي تقضيه مع ابنتها، شعور الذنب الذي كاد يقتلها طوال النهار.
تَخْلُص دوناث إلى أن "الأمومة" تحتاج إلى إعادة تعريف، بطريقة تُعيد الاعتبار الى المرأة
تخشى صديقتي كما خشيت أنا سابقًا، أن تُقصر في حق طفلتها، وتحاول أن تكون الأم الحاضرة طوال الوقت، وأن تُلم بكل جوانب دورها كأم، لكنها في المقابل، تتنازل عن الكثير من أحلامها المهنية، لأن التوفيق بين الأمرين ليس بالسهولة التي يتحدثون عنها، ناهيك عن إيجاد الوقت للاهتمام بصحتها النفسية والجسدية.
رغم الشعارات الكثيرة والقوانين التي تزعم بأنها تحمي المرأة الأم من التمييز بحقها بسبب ارتباطاتها الأسرية، تقول الأرقام إن النساء يتأخرن في الترقيات الوظيفية، ولا يتقاضين نفس الأجور التي يتقاضاها الرجال الذين يؤدون نفس المهمة، كما أنهن لا يملكن نفس الحظوظ بالقبول لدى التقديم على وظائف جديدة مقارنة بالرجال، خوفًا من إجازات الحمل والوضع.
إنجاب المرأة للأطفال ليس فعلًا فرديًا، بقدر ما يبدو الأمر شخصيًا، لكن الإنجاب في رأيي خدمة تقدمها المرأة إلى المجتمع، تساهم في استمراريته، ويمكن النظر إلى المجتمعات الهرمة، التي تزيد فيها نسبة المسنين عن نسبة الشباب تحت الثلاثين، كبعض البلدان الغربية وبعض المجتمعات الآسيوية كاليابان، حيث تحث الحكومات النساء على الإنجاب، وتحاول أن تقدم لهن حوافز مادية وتأمينات صحية ووظيفية، للحفاظ على التوازن العمري في المجتمع، وما له من عواقب على المدى الطويل.
تَخْلُص الباحثة أورنا دوناث إلى أن "الأمومة" تحتاج إلى إعادة تعريف، بطريقة تُعيد الاعتبار الى المرأة، وتُخلِّص فعل الأمومة من التنميط الاجتماعي والصورة الواحدة. تعريف يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات التجربة وفرديتها بين أم وأخرى، وأن بإمكاننا أن نكون أمهات جيدات، دون أن نشبه غيرنا.