لأن كل ما يتعلق بجسدها لا يخصها وحدها، خسرت أحلام محمد 7 سنوات من حياتها الزوجية في سبيل الحصول على طفل، رحلة علاج طويلة كانت في غنًى عنها، لو أن المجتمع الذي يمارس وصايته بكل السبل الممكنة، رفع يديه عن جسدها.
أحلام التي تعيش في واحدة من قرى القليوبية، كما قريناتها في قرى مصر، محرمٌ عليهن دخول عيادات النساء قبل أن تدخل بيت الزوجية، إذ أن الزيارة لا تعني لدى العرف المجتمعي، سوى أن خطوطًا حمراء قد تم تجاوزها، وأخطاء تسعى الفتاة إلى إصلاحها.
"مكنتش متخيلة إني ممكن في يوم اتحرم من الخلفة عشان مشكلة صغيرة، كان ممكن تتعالج بدري لولا رفض أهلي أروح لعيادة نسا" تقول أحلام لـ المنصة.
العيب القاتل
في القرية الصغيرة، حيث خطوات النساء مرصودة، لم يكن من السهل على أحلام التي عانت في مراهقتها من التهابات مهبلية، أن تأخذ خطوة للعلاج، "بابا وماما خافوا من كلام الناس، وقالولي لو عرفوا هيقولوا علينا إيه".
اتبعت أحلام نصيحة والدتها المنزلية في علاج الالتهابات، لكنها لم تنجح، خاصة في ظل الجهل المتوارث بطرق العناية الشخصية. تقول "استنيت لحد ما اتجوزت، ورحت كشفت، الدكتورة قالتلي إن تأثيرها أضعف المبيضين، ودخلت في دوامة علاج طويلة عشان أعالجها وأعرف أخلف".
كان نصيب أحلام، رغم ذلك، أقل وطأة من أختها، التي تسببت الالتهابات في تكوين خراج جعل حالتها أكثر سوءًا، "لسه بتتعالج لحد دلوقتي، وطبعا مافيش حمل".
يوجد نقص حاد في مقدمي الخدمة الصحية
لا تعلم الفتيات، ولا أمهاتهن أن أمراضًا تناسلية قد تصيب البنات كما تصيب النساء المتزوجات، وتستوجب الذهاب لطبيب نساء للاطمئنان وتقديم المشورة، من بينها أعراض إذا تم إهمالها فقد تسبب مشاكل مزمنة، توضح دكتورة راوية مرزوق استشارية طب النساء والتوليد لـ المنصة أن "أهمها الالتهابات المهبلية، التي قد تكون بسيطة تعالج ببعض الأدوية، أو عدوى خطيرة قد تؤثر على خصوبة الفتاة إذا تم إهمالها".
لا يختلف الأمر كثيرًا في المناطق الشعبية عن القرى التي يحكمها العرف نفسه، حيث تعرضت أسماء بدوي للموقف نفسها، تقول في حديثها مع المنصة "أمي رفضت أروح أكشف، قالتلي عيب، الناس هتقول دي عاملة مصيبة ورايحة تداريها".
طالبتها والدتها بتحمل المشكلة، حتى تتزوج وحينها يمكنها الذهاب، "الست ما تروحش ما ينفعش حد يكشف عليها قبل ما تتجوز"، هكذا وضعت الأم قانونها الذي سرى على أسماء ذات الـ35 عامًا بقوة الأمر الواقع.
خدمات شحيحة
المشكلة أن الزيارة المحرمة لا يقف في وجهها "العيب" وحده، بل تواجه أيضًا نقصًا حادًا في مقدمي الخدمة الصحية، خاصة في القرى والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية، فعلى الرغم من توافر عيادات تخص صحة المرأة في الوحدات الصحية الحكومية المنتشرة في القرى والأحياء، غير أنها لا تقدم خدماتها سوى في مجالات معينة تتعلق أغلبها بتنظيم الأسرة.
الوحدات الصحية غير آمنة للنساء، ولا توفر للنساء مساحة خصوصية
يوجد في مصر 5500 وحدة في 21 محافظة بحسب وزارة الصحة، يقع على عاتقها تقديم الخدمات الصحية لجميع النساء وليس المتزوجات فقط، ورفع وعيهن بالأمراض التي قد تصيبهن، إلا أن النساء في الأقاليم المصرية وبعض المناطق الشعبية، تُحرمن من خدمات صحة المرأة الموجودة هناك، خاصة لو كانت فتاة لم تتزوج بعد.
رصدت دور هذه الوحدات شيماء أبو زيد عضوة مبادرة ياء الملكية، وهي مبادرة نسوية مهتمة بقضايا الصحة الجنسية والإنجابية بمحافظة أسوان، تقول لـ المنصة "يوجد في كل وحدة صحية بالصعيد قسم خاص بصحة المرأة يهتم بالنساء في جميع الأعمار وليست المتزوجات فقط، يسمى قسم المشورة، يوفر طبيبة أو ممرضة مدربة في مواضيع صحة المرأة تمر على النساء في البيوت وتقدم مشورة وتوعية، وتسمى بالرائدة الريفية، لكن في الحقيقة مهمتها تقتصر على تقديم المعلومات الخاصة بتنظيم الأسرة فقط، وهي معلومات غير مهمة للفتيات غير المتزوجات".
الأمر ذاته تؤكده أسماء، التي تعيش في إحدى المناطق الشعبية بالجيزة "العيادات دي ليها علاقة بوسايل منع الحمل، لكن ما بتقدمش معلومات صحية ليها علاقة بالصحة الجنسية، الستات المتجوزة مش عارفين يلاقوا حد ينصحهم، هيلاقوا اللي مش متجوزين".
عيادات غير آمنة
تصف شيماء الوحدات الصحية نفسها بأنها "غير آمنة للنساء، ولا توفر لهن مساحة خصوصية"، ومع قلة عدد مقدمي الخدمة من طبيبات وطاقم طبي، يغدو الذهاب إليها بالنسبة لغير المتزوجات "صعبًا وغير فعال" حسب توصيفها.
على الرغم من كونه أحد الحقوق التي يؤكدها تعريف صندوق الأمم المتحدة للسكان للصحة الجنسية والإنجابية، وهو حق اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية في جميع الأمور المتعلقة بالجهاز التناسلي، وقدرة الشخص على التمتع بحياة جنسية مرضية وآمنة، والقدرة على الإنجاب. ومن أجل الحفاظ على الصحة الجنسية والإنجابية، يحتاج الناس إلى الوصول لمعلومات دقيقة وكافية، وإمكانية وصول النساء لجميع الخدمات على أيدي مقدمي الرعاية الصحية المهرة.
تحكي شيماء قصة، سمعتها من إحدى الفتيات بأسوان خلال عملها هناك، عن بنت كانت تعاني من التهابات في المبيض ولم تجرؤ والدتها على أخذها لطبيب النساء، ذهبت بدلاً منها، وحكت للطبيب عن الأعراض، الذي بدوره وصف دواءً خاطئًا، أدى إلى مزيد من المضاعفات، عانت الفتاة من انفجار بالزائدة الدودية، وأثناء عملية الزائدة اكتشف الطبيب خراجًا في المبيض تكون من الالتهابات، ولولا الصدفة لكانت النتائج كارثية.
على الفتيات زيارة الطبيب النسائي عندما تتراوح أعمارهن بين 13 و15 عامًا لإجراء فحص طبي منتظم
وتلك حادثة شبيهة بالحالات التي صادفتها دكتورة راوية مرزوق، استشارية طب النساء والتوليد، أثناء عملها بإحدى مستشفيات الأقاليم، لمراهقات يعانين مشكلات صحية خطرة بسبب تأخرهن في الذهاب للطبيب، تحكي لـ المنصة "طبعا اللي كنت بشوفهم أمهاتهم، وكانوا بيرفضوا حتى يقولوا أسماء بناتهم، عايزين ياخدوا الدوا وخلاص".
من بين الحالات "فتاة استمريت في علاجها لثلاث سنوات متواصلة، كانت تعاني من اضطرابات في الدورة الشهرية لمدة طويلة صاحبتها آلام مزمنة وتقلصات نتيجة لضعف المبيضين، وكانت بعالجها بالمسكنات والأعشاب، وبسبب تأخر الأهل في اللجوء للطبيب بات أمر الإنجاب بعد زواجها صعبًا، ويحتاج لسنوات من العلاج".
توصي الكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد بأن تبدأ الفتيات بزيارة الطبيب النسائي عندما تتراوح أعمارهن بين 13 و15 عامًا لإجراء فحص طبي منتظم، والتحدث إلى الفتاة حول تطورها. لكن ذلك بعيد بأميال عن الثقافة المصرية في التعامل مع الفتيات وصحتهن الجنسية.
وهو ما تؤكده استشارية طب النساء والتوليد، التي تقول "خاصة إذا كان البلوغ في سن ما قبل الـ13، فالبلوغ المبكر يصاحبه مشكلات كاضطرابات الغدد، وسرطان الثدي الذي يجب بدء التوعية والكشف عنه من سن الـ18".
يزيد من ضرورة الفحص أن الفتيات يتربين على الخوف من أجسادهن، تقول شيماء "غياب الثقافة، وطريقة التربية، والخوف من التعامل مع أجسادنا، وخاصة منطقة الأعضاء التناسلية، فلا نتحدث عنها ولا تقترب منه".
مغامرة عيادة النسا
تحولت تجربة هدير مجدي، العزباء الثلاثينية إلى مغامرة، تحكي تفاصيلها لـ المنصة "لن أنسى المرة الأولى اللي رحت فيها لعيادة نسا مع صاحبتي، متحاوطين بنظرات الشك والفضول واحنا مستنين الدكتورة، ده غير معاملة الممرضة اللي سألتنا احنا منين وساكنين فين، وقالت لصاحبتي بوضوح أمك عارفة أنك جاية تكشفي نسا؟!".
تستكمل هدير، التي تعيش في إحدى قرى محافظة الغربية، "أول حاجة فكرنا نروح عيادة بعيد عن قريتنا، روحنا عيادة خاصة في المدينة وكنا خايفين نقابل حد يعرفنا، وعشان كدة كتبنا اسم مستعار في الكشف ورفضنا نطلع البطاقة الشخصية لأي واحدة فينا".
لا تحب المؤسسات المعنية بقضايا النساء في الصعيد الاصطدام بالقضايا الشائكة بشكل مباشر
أمنية إبراهيم لديها تجربة مماثلة، قررت الذهاب لطبيب بسبب اضطرابات الدورة الشهرية، وإجراء فحوصات قبل الزواج، غير أن نظرات الشك والاستهجان من الممرضة أربكتها، تقول لـ المنصة "مجرد ما دخلت سألتني مدام إيه، ولما قولتلها آنسة، نظرتها اتغيرت، وسمعت صوت من الستات اللي قاعدة بتقول زمن غريب فيه العجب، ربنا يستر على بناتنا، استغربت واكسفت جدًا وكنت عايزة الأرض تنشق وتبلعني".
ذهبت أمنية، ذات الـ28 عامًا لعيادة خاصة في قريتها بمحافظة بني سويف دون علم والديها، فقد طلبت من والدتها الذهاب لطبيب نساء لعمل فحوصات قبل الزواج للاطمئنان على اضطرابات الدورة الشهرية إلا أن والدتها رفضت. "قالتلي عيب وتضييع وقت، انتي لسه بنت، والدورة مش مظبوطة عشان توتر الفرح".
والدة أمنية تعمل مدرسة، لكن ذلك لم يكن حافزًا لتغيير نظرتها المتوارثة عن زيارة الفتيات لطبيب النساء.
جهود للتوعية
تعمل مؤسسات المجتمع المدني على سد فجوة وجود عيادات "غير آمنة، وطاقم طبي غير مدرب للتعامل مع الفتيات"، عن طريق مبادرات مثل مشروع "رعاية طبية آمنة" الذي تنفذه مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، في عدة محافظات مصرية على رأسهم محافظات الصعيد. تقوم المبادرة بتدريب وتنمية قدرات مقدمي الخدمة الطبية للتعامل مع النساء في المواضيع الشائكة.
وتستهدف التوقيع على مدونة سلوك مهنية يتم الالتزام بها من جانب مقدمي الخدمات الصحية، وصل عدد الموقعين على المدونة في هذا المشروع إلى 11 مستشفى، و165 مركزًا طبيًا للأشعة والتحاليل، و65 عيادة طبية.
وقامت المؤسسة مؤخرًا بتدشين تطبيق إلكتروني طبي تحت اسم "رعاية آمنة" يتيح للنساء البحث عن مراكز طبية آمنة، وتوعيتهن بحقوقهن التي تكفل لهن الأمان الجسدي، والصحة، والخصوصية.
بحسب شيماء أبو زيد لا تحب المؤسسات المعنية بقضايا النساء في الصعيد الاصطدام بالقضايا الشائكة بشكل مباشر، على سبيل المثال تناقش مبادرة ياء الملكية موضوعات صحة الفتيات المراهقات، وضرورة الذهاب لطبيب النساء بشكل غير مباشر ضمن موضوعات الاهتمام بصحة الأبناء، والأمراض التي تصيب الفتيات، والنظافة الشخصية، وغيرها.
إذ يتطلب تغيير معتقدات راسخة تتعلق بالنساء وأجسادهن "جهودًا ضخمة"، تقول شيماء "نواجه مقاومة ليس فقط من المجتمع، ولكن من داخل المؤسسات الطبية ذاتها، فهو مجتمع يمارس وصايته على النساء، ويرى أن حماية شرفهن أهم من صحتهن".
أما أحلام، فقد نجحت بعد رحلة علاج طويلة، وكثير من الزيارات لأطباء النساء والتوليد، في إنجاب طفلة تحرص على الاهتمام بها وحمايتها من معتقدات قريتها التي كادت تقضي عليها.