للسنة الخامسة على التوالي تضطر سارة سالمان الذهاب مع محاميها إلى محكمة الأسرة لمتابعة الدعاوى القضائية التي رفعتها ضد زوجها السابق، سواء تلك المتعلقة بزيادة النفقة أو المتعلقة بمصروفات العلاج والتعليم وغيرها.
لكن سارة، التي جاوزت الثلاثين من عمرها، بدأت تشعر مؤخرًا بالغضب والملل، فلا الدعاوى تنتهي ولا نزيف الأموال التي تدفعها للحصول على أحكام نهائية يبدو في طريقه للتوقف، وأمام هذا وذاك تأتي الأحكام أحيانًا مخيبة لآمالها. "تعبت لدرجة أني فكرت أسيب كل حاجة واستعوض ربنا في أي حاجة ممكن آخدها بالمحكمة"، تقول للمنصة.
سارة التي تعمل إخصائية اجتماعية تقول "معايا طفلة ذات احتياجات خاصة، المحكمة حكمت لي من 3 سنين بـ200 جنيه نفقة ولما رفعت دعوى زيادة نفقة، حكمت لي بـ400 جنيه إجمالي، بالرغم من كده زوجي السابق امتنع عن الدفع من أكثر من 5 شهور".
مع مرور الوقت وامتناع الزوج السابق عن دفع النفقة، تملك من سارة شعور اليأس والإحباط، ووصل بها الأمر إلى التفكير في التوقف عن اللجوء للمسار القضائي للمطالبة بحق طفلتها، فهي لا تملك رفاهية الوقت ولا المال حتى تستمر في صراع المحاكم، فأجرها الذي لا يتعدى الألفي جنيه يكاد يكفيها وطفلتها مصروفات شهرية مع غلاء الأسعار، وأصبحت لا تستطيع أن تتحمل المزيد من المصروفات القضائية، وبخاصة مع ارتفاعها، التي بالتبعية أدت لارتفاع أتعاب محاميها.
ورفعت مصر رسوم التقاضي مؤخرًا، واستحدثت رسومًا جديدة منها رسوم الخدمة المميكنة، والنماذج المؤمنة، والنماذج المؤمنة بالشهر العقاري، والاستعلام، واستخراج شهادات بالقضايا لاستخدامها أمام الجهات الرسمية، ومراجعة الحوافظ، ما زاد من أعباء التقاضي.
معفاة من الرسوم ولكن
سارة ليست وحدها، فكثيرات اشتكين من ارتفاع تلك الرسوم في قضايا الأحوال الشخصية المنظورة في محاكم الأسرة بموجب القانون 1 لسنة 2000، ورغم أن "القانون 1 لسنة 2000 أعفى النفقة من الرسوم القضائية، لكن فيه رسوم تانية بتدفع زي الماسح الضوئي وضريبة المحاماة والضريبة المباشرة، وده مكلف ومرهق لستات كتير"، بحسم المحامية المختصة في قضايا الأسرة سلوى بشير، التي علقت للمنصة على الأزمات المضاعفة التي تواجه النساء داخل جدران محكمة الأسرة.
بالإضافة إلى ذلك ارتفعت تكلفة الإجراءات التالية للدعوى، بحسب حديث سلوى "كل شهادة بتطلب في أي قضية لها رسم، وحتى الاستعلام في المحكمة أصبح برسوم 57 جنيه بعدما كانت مجانًا، ورسوم إعلام الوراثة وصلت لـ27 جنيه للورقة الواحدة".
كل خطوة في المحكمة بمصروفات، كما تشرح المحامية "كمان في حالة الخلع والطلاق للضرر والاعتراض على إنذار الطاعة، ومصروفات الحكم تحمَّل مناصفة على الزوجة والزوج".
كثرة المصروفات تدفع كثيرات إلى قضايا الخلع، على أمل أن تستغرق وقتًا أقل، وفي المقابل تتنازل الزوجة عن مستحقاتها المالية أو جزءًا منها، ولكن ورقة بحثية للباحثة وفاء عشري تحدثت عن طول فترة التقاضي في أغلب قضايا الخلع العالقة، التي تتراوح بين شهر إلى سنتين، وذلك اعتمادًا على الثغرات الموجودة في المادة 20 من القانون رقم 1 لسنة 2000، التي تحدد الإجراءات الواجب اتباعها في حالة الخلاف على مبلغ الصداق.
الورقة التي أصدرها مركز التنمية والدعم والإعلام (دام)، بعنوان "تكاليف التقاضي وتأثيرها على وصول المرأة للعدالة في مصر" أشارت إلى الصعوبات المادية في إجراءات الطلاق المكلفة. تقول الباحثة "حاول قانون 2000 تخفيض الرسوم بمنح مطالبات النفقة مجانًا، لكن هذا الإعفاء لا يشمل دعاوى الطلاق".
ترى نيفين أن القصة ليست فقط في كيفية إقناع النساء للوصول إلى مرفق العدالة، لكن الأمر يمتد إلى ما يحصلن عليه
دفع هذا الأمر بعض منظمات المجتمع المدني، التي تدرك هذه العقبات، إلى إنشاء خدمة قانونية تقدم مساعدة مجانية للنساء ذوات الوضع الاقتصادي المنخفض، ولكن عددًا قليلًا من النساء استطعن الوصول إلى تلك المنظمات، بحسب الورقة.
وهو ما أكدته رئيسة مؤسسة القاهرة للقانون والتنمية، المحامية انتصار السعيد، التي أوضحت للمنصة أن عددًا كبيرًا من النساء لا يستطعن الوصول إلى مؤسسات المجتمع المدني الداعمة للمرأة، التي تقدم دعمًا مجانيًا في قضايا الأحوال الشخصية.
حتى الدعم المجاني تأثر
تعلم سارة جيدًا أنها في حالة الاستغناء عن محاميها وقيامها برفع الدعاوى بنفسها ستوفر جزءًا من التكاليف المادية، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فأمام هذا التوفير ستكون هناك خسائر ونفقات أخرى، إذ ستضطر إلى التغيب من عملها كثيرًا لمتابعة سير القضية ومن ثم التنفيذ، بالإضافة إلى ترك طفلتها المريضة لساعات طويلة.
الإشكالية نفسها أشارت إليها المحامية الحقوقية هالة دومة، التي ترى أن التكلفة الاقتصادية التي تتكبدها النساء في قضايا الأحوال الشخصية، اللاتي يلجأن إليها جبرًا، تكون كبيرة ومتشعبة، فعلى سبيل المثال قضية النفقة لا تتوقف عند الحكم، فكل فترة تلجأ المتضررات إلى رفع دعوى زيادة نفقة، مشيرة إلى أن كثرة المصروفات تدفع بعض النساء إلى ترك كل ذلك والتراجع عن إجراءات التقاضي، والاكتفاء بحكم الطلاق.
فيما كشفت دومة أن ثمة وجهًا آخر لارتفاع رسوم التقاضي، وهو اتجاه عدد كبير من المحامين إلى تقليل حجم الدعم القانوني المجاني الذي كانوا يقدمونه، فالمحامي يستطيع التبرع بتكاليف مجهوده فقط، لكن لا يمكنه تحمل المصروفات والرسوم.
وهو ما تتفق معه المحامية آية حمدي، التي تشير إلى أن المجلس القومي للمرأة يقدم دعمًا قانونيًا مجانيًا للنساء، لكنه يستقبل عددًا محدودًا من القضايا، ودوره يقف عند مرحلة الحصول على حكم ولا يتابع حتى التنفيذ، وهناك بعض القضايا لا يقبلها، مثل تبديد المنقولات.
في دراسة أعدها الخبير الاقتصادي الدكتور حمدي الحناوي بعنوان "التكلفة الاقتصادية لقضايا الأحوال الشخصية في القاهرة الكبرى"، صدرت عن مؤسسة قضايا المرأة. عرَّف التكلفة في مجال الأحوال الشخصية بما تتحمله المرأة تحديدًا، وهي تتكون من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: تكاليف تدفع نقدًا وترتبط مباشرة برفع الدعوى، ويتمثل هذا الجزء في أتعاب المحامين ورسوم المحكمة.
الجزء الثاني: يرتبط أيضًا برفع الدعوى، لكنه لا يكون بالضرورة في صورة مدفوعات نقدية، بل في صورة خسائر تنتج عن التعطل عن العمل نتيجة تخصيص المرأة جزءًا من وقتها لأنشطة متعلقة بالدعوى، سواء للقاء المحامين أو الذهاب إلى المحكمة أو تجهيز أوراق أو غيرها.
الجزء الثالث: هو ما يتطلبه احتياج صاحبة الدعوى لرعاية أطفالها الصغار حين تضطر للغياب عنهم، من أجل الذهاب إلى المحكمة أو التردد على المحامين، أو لإنهاء إجراءات أخرى تتعلق بالدعوى.
"في تقديري مفترض يكون فيه نوع من مجانية التكلفة في قضايا الأحوال الشخصية للنساء، كنوع من الدعم الحكومي، خاصة إن جزء كبير منهم مبيشتغلش أو بيشتغل بمقابل مادي بسيط"، هكذا بدأت مدير مؤسسة المرأة الجديدة نيفين عبيد حديثها عن حلول لدعم النساء المتضررات اللاتي يلجأن لمحاكم الأسرة.
الأزمة الأكبر بحسب حديث نيفين للمنصة أن هناك نساء يتراجعن عن الحصول على حقهن أمام هذه العراقيل، سواء طول مدة التقاضي أو ارتفاع التكلفة، خاصة أن معظم قضايا الأحوال الشخصية أحكامها غير مجدية، "خصوصًا في قضايا النفقة".
وترى نيفين أن القصة ليست فقط في كيفية إقناع النساء للوصول إلى مرفق العدالة، لكن الأمر يمتد إلى ما ستحصل عليه النساء بشكل حقيقي من القضاء، وبالتالي هذا يجعل نساء تعتمد على عملها وتترك حقوقها المادية، فهناك قطاع بالفعل منهن يخاصم المسار القانوني، لشعورهن بعدم جدواه.
تتمنى سارة وغيرها من المتضررات أن تصل إلى بر الأمان، وأن يكون هناك دعمًا حقيقيًا يقدم للنساء اللاتي تضيع أعمارهن ويتكلفن الكثير من الأموال، في سبيل الحصول على حقوقهن.