
"فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً".. محرومات من الميراث بأمر العُرف
مُطالَبة سعاد يوسف(*)، البالغة من العمر 67 عامًا والمقيمة بإحدى قرى غرب الأقصر، بحقها في الميراث، تطورت إلى مأساة عائلية امتدت من حرمانها من الأرض إلى إصابة ابنها واتهامه بالشروع في القتل.
هاجم ابن سعاد الأكبر منزل خاله، وأطلق عدة رصاصات في محاولة لتخويفه وإجباره على رد حق أمه المسلوب، لكنَّ الخال انتزع منه البندقية، وسدد له طعنات بسكين كانت بحوزته.
ليست سعاد استثناء، فحرمان النساء في قرى الصعيد من الميراث قاعدةٌ تُفرضُ بقوة العرف والتقاليد حتى على حساب القانون.
وفقًا للقانون المصري، فإن حرمان المرأة من الميراث جريمة يعاقب عليه بالسجن من 6 أشهر إلى 3 سنوات، لكن تنفيذ القانون تعرقله عقبات اجتماعية وثقافية، وتضطر النساء لمواجهة الأسرة بأكملها، كما حدث مع الخمسينية حليمة يونس التي لم تكتفِ عائلتها بحرمانها من الميراث، بل وصل الأمر إلى تهديدها بالقتل.
"أخويا قالي إنتِ ديتك رصاصة في مخك، ونخلص منك، ولا حد يسمع عنك"، لم تستسلم حليمة، ولجأت إلى القضاء وحصلت على حكم لصالحها، لكن التنفيذ ما زال معلقًا بسبب المماطلة والضغوط الاجتماعية التي تتعرض لها للتنازل.
عجز القانون
تشير دراسةٌ للدكتورة سلوى محمد المهدي بعنوان "ميراث المرأة في صعيد مصر بين الواقع والمأمول" إلى أن 95.5% من النساء في محافظتي سوهاج وقنا محرومات من الميراث، والسبب الأساسي وراء هذا الحرمان هو الخوف من انتقال التركة إلى "أغراب" من خارج العائلة عند زواج النساء.
وينظر القضاء سنويًا 144 ألف قضية نزاع على ميراث، حسب دراسة صادرة عن وزارة العدل المصرية، رصدت أيضًا نحو 8 آلاف جريمة قتل تقريبًا بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب الميراث، وهو عدد يزداد سنويًا، فعام 2007 شهد نحو 7500 جريمة قتل بسبب الميراث، و121 ألف قضية نزاع على ميراث، بينما في عام 2006 وقعت نحو 6 آلاف جريمة قتل إلى جانب 119 ألف قضية نزاع على الميراث.
طول أمد القضايا في المحاكم الذي قد يمتد سنواتٍ يجعل كثيرًا من النساء يتراجعن عن متابعة حقوقهن
رغم تعديل القانون الذي فرض عقوبةً على الامتناع عن تسليم حصة الميراث، فإنه لا يساعد النساء في الحصول على حقوقهن، يعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمها ضعف إنفاذ القانون في المجتمعات الريفية والصعيدية، حيث يكون الاحتكام للأعراف القبلية أكثر تأثيرًا من المحاكم الرسمية.
في كثير من الحالات، تلجأ العائلات إلى التحكيم العرفي لحل النزاعات، وتُجبر النساء على التنازل عن حقوقهن مقابل الرضوى، وهو مبلغ مالي يمنحه الورثة الذكور للإناث مقابل التنازل عن الميراث.
كما أن المسار القانوني نفسه يشكل عائقًا كبيرًا، إذ تتطلب قضايا الميراث إجراءات إثبات معقدة، مثل تقديم إعلام وراثة وتوثيقات رسمية قد تكون غير متاحة بسهولةٍ للنساء، خصوصًا في القرى حيث لا تسجَّل جميع الممتلكات رسميًا. إضافة إلى ذلك، فإن طول أمد القضايا في المحاكم، الذي قد يمتد لسنوات، يجعل كثيرًا من النساء يتراجعن عن متابعة حقوقهن بسبب التكلفة المادية والضغوط النفسية والاجتماعية التي يتعرضن لها من أسرهن. حتى في حال صدور أحكام، فإنها لا تُطبق بصرامة، وغالبًا ما يُلتَفُ عليها عبر التصالح العائلي أو تقديم مبالغ مالية زهيدة تعويضًا للنساء، كما يقول المحامي أحمد النوبي لـ المنصة "العقوبة غير رادعة. كثير من الرجال يمتلكون مساحات كبيرة، ولا يزالون يفضلون خسارة مبلغ مالي على منح المرأة نصيبها".
لا أرض لنساء الصعيد
تُظهر نتائج التعداد الزراعي في مصر لعام 2000 أن النساء في مصر لا يملكن سوى 7.5% من نسبة الأراضي عمومًا، التي تعود غالبيتها العظمى للرجال، فيما تبلغ جملة ممتلكات النساء 432 ألف فدان بنسبة 5.1% من إجمالي الأراضي الزراعية.
لا تحصل المرأة على شقق بل تُمنح في كثير من الأحيان مساحة غير مبنية كأنها لا تستحق السكن
فادية محمود(*)، البالغة من العمر 56 عامًا، بعد وفاة زوجها وجدت نفسها أمام واقع مرير فهي ممنوعة من التصرف في أرضها، في الوقت الذي تعاني فيه من ضغوط تجهيز بناتها الثلاث. "حاولت أبيع الأرض بتاعتي، لكن أولاد زوجي منعوني، وقالوا كفاية عليها المعاش. ,ولما لجأت للقضاء، ما أخدتش حكم نهائي طول 12 سنة"، كما تقول لـ المنصة.
توضح فاطمة العبادي، عضوة المجلس القومي للمرأة بالأقصر، أن حرمان النساء من الميراث في الصعيد لا صلة له بعدم وجود قوانين، وإنما لسيادة العرف على حساب الدين والقانون، وتضيف لـ المنصة "معروف إن الست في الصعيد بالذات بتتظلم في الميراث. لو بتاخد أرض، بيدوها الأقل جودة. ولو كان هناك عقارات، فلا تحصل على شقق، بل تُمنح في كثير من الأحيان مساحة غير مبنية، كأنها لا تستحق السكن".
لم تنسَ منيرة الطاهر(*)، 78 عامًا، كيف كتب والدها جميع ممتلكاته بما فيها بيت وعمارة وخمسة أفدنة لأبنائه الذكور، بينما لم تحصل هي وشقيقاتها إلا على مبلغ 14 ألف جنيه من الأموال المودعة في البنك، تقول بمرارة "إحنا لا مسامحين حي ولا ميت في حقنا".
أما بالنسبة لزينب(*)، التي بلغت السبعين من عمرها، فإن مأساتها امتدت لعقودٍ، فأعمامها لم يمنحوها شيئًا من تركة والدها الذي تُوفي قبيل ولادتها، "ماخدتش حقي من أعمامي غير من قريب، إدوني 4 قراريط، مع إن أبويا كان عنده بيت وفدان ونص".
الخوف من الأغراب
حرمان المرأة من الميراث في الصعيد ظاهرةٌ تعكسُ واقعًا اجتماعيًا معقدًا، يتداخل فيه البعد الاقتصادي مع العادات القبلية. ففي مجتمعات تقوم على الزراعة وملكية الأراضي يُنظر إلى الميراث باعتباره وسيلةً للحفاظ على الثروة داخل العائلة الذكورية.
التخوف الأساسي من منح المرأة نصيبها في الأرض لا ينبع فقط من التمييز، بل من خوف الرجال من انتقال هذه الأرض إلى "أغراب"، أي إلى أزواج الأخوات وعائلاتهم مما يُنظر إليه على أنه تهديدٌ لوحدة العائلة الاقتصادية.
"أخويا قال لي ليكي فلوس لكن مش أرض، علشان أرضنا متروحش للغريب"، تحت هذا الزعم واجهتْ سعاد رفضًا قاطعًا من أخيها لمنحها نصيبها الشرعي من الميراث.
العرف بيقول إن البنت لها نصيب لكن مش شرط يكون زي الولد
"الأرض عندنا مش مجرد ممتلكات، دي شرف العيلة وكيانها. لو قسّمت على البنات، بكره هتروح لأزواجهم، ويبقى إحنا كرجالة سلمنا أرضنا لعائلات تانية! إحنا مش ضد الشرع، لكن لازم نحافظ على اللي ورثناه من أجدادنا"، يبرر الحاج عبد الله حسن(*)، أحد كبار إحدى عائلات قرية أرمنت الحيط بمحافظة الأقصر لـ المنصة سبب رفض توريث النساء للأرضي، زاعمًا أن هذا ليس ظلمًا للنساء خاصة أنه يتم تعويضهن بأموال أو ذهب "أما الأرض فدي مسؤولية الراجل لأنه هو اللي بيتعب فيها ويزرعها وبعدين الفلوس بتروح وتيجي لكن الأرض لو راحت مش هتتعوض".
ويدَّعي الشيخ أحمد صالح(*)، أحد المحكمين العرفيين في الأقصر، أن هذه الممارسة ضروريةٌ للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي "إحنا بنحكم في النزاعات على أساس العرف، مش بس القانون. العرف بيقول إن البنت لها نصيب، لكن مش شرط يكون زي الولد. أحيانًا بنحل المشكلة بإعطاء النساء مبلغ مالي يرضيهم، وده بيجنبنا صراعات بين العائلات اللي ممكن توصل لدم!"، يقول لـ المنصة.
إضافة إلى ذلك، فإن الحرمان من الميراث يرتبط بعدم استقلالية المرأة اقتصاديًا، فالكثير من النساء في الصعيد يعتمدن ماليًا على أسرهن أو أزواجهن، ليكنَّ أكثر عرضة للضغوط عند المطالبة بحقوقهن. كما أن العوامل الاقتصادية، مثل ارتفاع أسعار الأراضي، وزيادة الضغط على الموارد، تجعل الرجال أكثر تمسكًا بالممتلكات، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق صاحبات الحقوق.
العادات في مواجهة الفتوى
تؤكد المؤسسات الدينية، مثل الأزهر ودار الإفتاء، على أن حرمان المرأة من الميراث مخالفٌ للشريعة. وسبق واعتبرت الدكتورة زينب السعيد أمينة الفتوى بدار الإفتاء المصرية خلال لقاء تليفزيوني حرمان المرأة من حقها في الميراث ظلمًا واضحًا، مؤكدة على أن الميراث حق ثابت للمرأة في الإسلام، سواء كان من أخيها أو من والدها، وأن الامتناع عن إعطائها هذا الحق يُعد من أكل المال الحرام.
مع ذلك فتأثير هذه الفتاوى على الواقع محدودٌ، حيث يتجاوز العرف الاجتماعي النصوص الدينية والقانونية ليضع قواعده الخاصة.
واليوم، وبعد أن أُحيل أغلب أطراف الصراع في أسرة سعاد إلى المحاكمة، تجد نفسها مضطرةً لإرضاء أخيها الذي حرمها من الميراث، ليس حيلةً لاستعادة حقها، بل لتقديمه فديةً تنقذ ابنها.
(*) الأسماء المستخدمة في القصة مستعارة بناءً على طلب المصادر