يقول أحمد شوقي "إن الذي ملأ اللغات محاسنًا، جعل الجمال وسره في الضاد"، ورغم ما في وصفه لجمال اللغة العربية من مجاز يصبغ طابعًا أنثويًا عليها، فإن جوهرها وتاريخ تطورها يكاد يُفارق ذلك كله. أقصد من حيث موقفها الراديكالي من الأنثى.
بنيت اللغة العربية في ظل ثقافة هيمن عليها وقاد غمار معارفها وبطولاتها الذكور أمام قلة قليلة من النساء، ومن هنا تشكلت مفرداتها التي تحوي تراكيب ذكورية تنتقص من المرأة وتحقرها أحيانًا، أو تقصيها وتنفي وجودها في أحايين أخرى، وتؤثر في شكل البناء الاجتماعي والثقافي، وكذلك في أنماط سلوك مستخدميها الذين يعدون الأنثى مجرد تابع والذكر الأصل.
وهي المفردات التي ما نزال نعلمها لأطفالنا ونتحدث بها حتى الآن، وتعرقل مسار تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين في مجتمعنا الذي فرض لغته الذكورية، ورسم حدودها، وكتب وقرأ وفسر اللغة من منظوره واضعًا الأنثى على هامش الثقافة، كما كانت على هامش النسق الاجتماعي.
كيف نشأت ذكورية اللغة العربية؟
طغى على مجتمعات الجزيرة العربية التكوين القبلي، وظهرت اللغة كنتاج للهيمنة السياسية والاجتماعية للرجل على المجتمع والمرأة، التي تم تهميشها وحرمانها على الأخص من الكتابة والقراءة، ويقول الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه المرأة واللغة إن تدوين التاريخ، كان السبب في عدم حيادية استخدام اللغة في التعبير عن العالم والذات، حيث دوّن الذكور التاريخ البشري، بينما تركوا مهمة الحكي الشفاهي للنساء.
كما لم تساهم عالمات في تأسيس وبناء النظرية النحوية وتراكيبها، وتظهر اللغة العربية تاريخيًا على أنها مؤسسة ذكورية، كإحدى قلاع الرجل الحصينة، وجرى ذلك حسب القانون التاريخي الذي يمنع المرأة من تعلم الكتابة، وهو القانون الذي عبر عنه خير الدين نعمان بن أبي الثناء في كتابه الإصابة في منع النساء من الكتابة، وفيه يوصي قائلًا "أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، فإذ لا أرى شيئًا أضر منه بهن". ومن هنا لم تكن المرأة في تكوين اللغة العربية سوى مجاز رمزي، يكتبه الرجل وينسجه حسب دواعيه التعبيرية، وهو ما يعني أنها معنًى والرجل لفظ.
إن المرأة مجرد إضافة لفظية إلى الرجل، ولو حذفنا كلمة (رجل) لضاع الوجود الأنثوي من اللغة
وهكذا صيغت أفعال اللغة معظمها مذكرة، وتأنيثها بإضافة تاء التأنيث أو حذفها لترجع إلى أصلها المذكر.
الذكر أصل والأنثى استثناء
يقول سيبويه، إن الأشياء أصلها التذكير، تختصُّ بعد ذلك، أي يتم تأنيثها كاستثناء. أما أبو حيان فيقول في كتاب الهوامل والشوامل، إن "كل مؤنّث أصلهُ مذكر عندَ العرب"، وهو ما يعلق عليه الدكتور عبد الله الغذامي أن العربية تعد المرأة مجرد إضافة لفظية إلى الرجل، ولو حذفنا كلمة (رجل) لضاع الوجود الأنثوي من اللغة، لأنها استثناء مهما كان عدد هؤلاء النساء.
وبهذا يكون الرجل هو المحور، حيث وقعت كثيرات من كبريات الكاتبات المنتميات إلى حقل الكتابة النسوية بين براثن اللغة المذكرة وهن يكتبن عن المرأة ذاتها، أمثال؛ نوال السعداوي وغادة السمّان، وسميرة المانع، ورجاء العالم، ومي زيادة، وغيرهن.
محاولات للتحقير
استمرارًا لنهج النحاة العرب في تجاهل الأنثى، فإنهم ربطوا بين المؤنث والحيوانات والجمادات وجميع الأشياء غير العاقلة في حالة الجمع المؤنث السالم، وهو ما عدّه كثيرون محاولة للمساواة بينهما، فتقول الكاتبة زليخة أبو ريشة في كتابها اللغة الغائبة، إن غير العاقل في اللغـة يُجمع جمعًا مؤنثًا سالمًا، ولا يجوز جمعه جمعًا مذكرًا سالمًا، فكأن هناك إيحاء بالمساواة بين الأنثى العاقلة وبين الكائنات غير العاقلة، مثال؛ الحجارة قاسيـة أو قاسيات، وهن قاسيات.
من حق النساء أن يوصفن بألقاب تتضمن تاء التأنيث في المكاتبات الرسمية
أما الباحثة في قضايا المرأة إلهام البوزيدي، تقول في أطروحتها الأنثى والمتخيل الديني، إن العربية لم تتمكن من التمييز بين ما هو بيولوجي واجتماعي، فمقابل الأنوثة (كمعطى بيولوجي)، نجد الذكورة (معطى بيولوجي أيضًا)، لكن لا وجود لمقابل في اللغة للرجولة (كنوع اجتماعي)، حيث إن نفس المقابل لها هي كلمة (أنوثة)، وهي لفظة لا تحيل إلى دور المرأة ومكانتها في المجتمع. فهل غياب المقابل يحيل إلى فقر لغوي؟ أم هو انعكاس لبنية العقل العربي الذي لا يقبل فكرة بناء هوية جنسية واجتماعية إلا للرجل؟ وأن الأنثى تولد أنثى وتظل أنثى، في حين أن الرجولة تحيل إلى فكرة الارتقاء، التي تتحول إلى سلطة وامتيازات اجتماعية كما ترسخ فكرة التفوق. فهل هذا الفرق بين الأنوثة بيولوجيا والأنوثة اجتماعيًا إقرار بأنه لا فرق بين الأنثى والمرأة؟ أي أن وظائفها الأساسية هي وظائفها البيولوجية بالأساس؟
ولعل النتيجة هي وجود إرادة لغوية تغيّت حفظ مكانة القيم الذكورية، وإزاحة كل ما يمكن أن يلطخها ويلوث نقاءها وشوفينيتها، فيما يكرس للمضمون الاستعلائي القمعي الذي يحمل نظرته الدونية لجنس النساء ورسم صورة نمطية دونية في المتخيل الشعبي والديني والأدبي.
نساء مجبرات
تنتقد "جمعية معهد تضامن النساء الأردني" في تقريرها "للنساء والفتيات دور هام في حماية اللغة العربية"، ظاهرة "الرتبة"، فعلى الرغم من التقدم الحضاري واندماج النساء في مختلف المجالات كالطب والتعليم ومواقع صنع القرار، فإن الصفات والألقاب المذكرة لا تزال تتنكر لإنجازاتهن، حيث لا يتم استخدام كلمة "وزيرة" و"قاضية" و"رئيسة" و"نائبة" و"أمينة عامة" و"مديرة"، فقد أجاز أعضاء مجمع اللغة العربية "أن يوصف المؤنث بالتذكير"، فهي عضو أو مدير أو محاضر أو أستاذ مساعد أو زير، وهو الأمر الذي تعتمده كل حكومات المنطقة العربية وأجهزتها الإدارية، وبالرغم من المطالبات العديدة والمستمرة لمنظمات نسائية وحقوقية من الحكومات باعتماد التأنيث فإنها قوبلت بالرفض.
وتضيف "تضامن" أن من حق النساء أن يوصفن بألقاب تتضمن تاء التأنيث في المكاتبات الرسمية، ويرى الباحث بالجمعية رشيد الإدريسي في تقرير "الدعوة لاصلاح اللغة العربية "، أن "المذكر قد لا يكون دائمًا قرينًا للأصالة أو الفصاحة، بل قد يأخذ مكانة التأنيث أحيانًا، فعندما يبلغ أعلى درجات العلم يسمى تسمية الأنثى، فيقال (علاَمة) بدلًا من عالم، ولا يجوز التذرع بأن بعض الصفات لها دلالات سلبية عند تأنيثها، وحرمان النساء من تاء التأنيث دون سند".
لغة رافضة
في مسألة المساواة الجندرية، وحق الإنسان الأزلي في تمثيل نفسه داخل المجتمع دون النظر إلى ميله أو جنسه، لا يمكن استبعاد اللغة من المعادلة، على العكس تبدو ركيزتها الأساس، ويبدو تطويرها معركة رئيسة في سبيل المساواة بين الرجل والمرأة المحرومة من حقها أو الاعتراف بأنوثتها رسميًا في الأوراق الثبوتية.
إن البدء باللغة من شأنه تشكيل وعي جديد لتحسين واقع المرأة، لأن أفكار وأفعال الفرد تقررها اللغة وفقًا لفرضية سابير-وورف، فهي جزء محوري منتج للهيمنة الذكورية، لذا دعى كثير من المفكرين لتطوير اللغة العربية مثلما نجحت اللغة الألمانية والإنجليزية في إدراك ذلك، فعلى الرغم من أن المرأة المعاصرة حظيت بالكثير من الحقوق، فإن اللغة التي تنطق بها ترفضها وتساهم في تهميشها من الواقع العملي، ولا تزال تعدها تابعًا وفقًا لتراث لغوي ثقافي واجتماعي عتيق.