في ديسمبر/ كانون الأول الماضي رحل ربّ أسرة مصري مسيحي تاركًا ثلاثة أبناء، رجلين وامرأة. بين الإخوة لم يكن ثمّة خلاف على أن يكون تقسيم الميراث بين ثلاثتهم بالتساوي بين الذكر والأنثى تبعًا لما تنصّ عليه لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذوكس، التي يقر الدستور المصري حق المسيحيين في الاحتكام إليها.
لكن رفض مساواة حصص الأشقاء من ميراث والدهم جاء من المحكمة التي أصدرت إعلام وراثة حسبما تنص عليه الشريعة الإسلامية بأن يكون نصيب الذكر مثل حظ الانثيين، على الرغم من أن طلبات الورثة جميعًا كانت الاحتكام للائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذوكس، التي توافق على تطبيقها الوريثان مع شقيقتهم المحامية هدى نصر الله، والتي تمسّكت بالاحتكام لشريعتها، حتى لو كلّفها اﻷمر خوض معركة قالت للمنصّة إنها ليست من أجلها فقط، بل لإقرار حق.
مسألة مبدأ
طلب هدى بالمساواة لم يكن وليد صُدفة، إذ ساهم فيه مبدأ متأصّل في أسرتها منذ طفولتها، وفقًَا لما اختزنته ذاكرتها من تلك السنوات. "فيه مبدأ مترسخ بيننا (في العائلة) إن البنت زي الولد، وإن هيكون فيه تساوي في أي حاجة. والدي كان بيقول انتم زي بعض، وأنا عايش و أنا ميت، وإخواتي على قناعة بده".
في لائحة الأقباط الأرثوذوكس التي تنظم مسائل الميراث، لا يوجد أي فرق في حصص الإرث بين الذكور والإناث طالما تساووا في درجة قرابتهم للمتوفي، لكن ما جرى العرف على التعامل به في المحاكم هو الشريعة الإسلامية، حتى بين المسيحيين، حسبما رصدت بنفسها من تعاملات المحيطين. "اللي بيحصل مع كتير من المسيحيين، إنه إعلام الوراثة بيطلع وفقًا للشريعة الإسلامية. لكنه إجباري ليهم يعملوه علشان لو فيه أرض أو فلوس في بنوك. بعدها، بيلجأوا للقسمة الرضائية وبتتم المساواة في توزيع الميراث".
هذا ما درج قطاع واسع من المسيحيين على التعامل به، الشريعة الإسلامية في المحكمة والتعاليم المسيحية في البيت. لكن هناك مَن يُفضّل التعامل الرسمي "ﻷهواء شخصية" كما تذكر هدى "فيه عدد كتير بيكون شايف إن تطبيق الشريعة الإسلامية- بالذات الذكور- لصالحه؛ فبيقول إن الإعلام من المحكمة طلع كده".
لكن هذا اﻷمر لم يكن في حالتها وأخويها. "احنا كنّا متراضيين على المبدأ (التساوي بيننا). لكن فكر اخواتي كان إن خلاص المحكمة تطلع الإعلام زي ما هي عايزة، ﻷنهم شايفين إن ده اللي بيمشي وما تم العمل بيه، واحنا بعد كده نقسّم رضائي ما بيننا".
رفضت هدى اقتراح أخويها، وأصرت على تطبيق مبدأ دستوري وقانوني مشروع، حتى ولو لم يكن منتشرًا بين أبناء دينها. "قولت لهم ﻷ، دلوقتي الدستور فيه مادة إن من حقّنا نطبق الشريعة المسيحية في مسائل الأحوال الشخصية، ولائحة الأقباط الأرثوذكس كمان فيها توزيع للإرث؛ فاحنا نقدر ناخد حكم محكمة، وإعلام الوراثة يطلع بحكم الشريعة المسيحية".
إصرار هدى لم يأت إلاّ بناءً على أسانيد دستورية وقانونية، ولهذا كان اﻷمر بالنسبة لها "إقرار مبدأ"، فلم ترتض الحل الذي اختاره أخويها بالقسمة الرضائية بعيدًا عن قرار المحكمة. "هدفي إني أخد حقي وأقر مبدأ. ﻷني بشوف بنات مسيحيات كتير اخواتهم أو بقية الورثة- لو فيه ذكور- بيكونوا مع التطبيق الجاري، وهو الشريعة الإسلامية، ﻷنها بتدي للذكر مثل حظ الأنثيين. ففيه مسيحيات متضررات من ده وذكور مستفيدين. فكرت إنه طالما عندنا دستور ومادة بتسمح لنا بتطبيق شريعتنا اللي ليها لائحة مقننة وموزعة للإرث؛ ليه مانستخدمهاش؟".
تنص المادة الثالثة من دستور 2014 على أن "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية".
وتنص المادة 245 من لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938، في الفصل الثالث منها المتعلّق بأنواع الورثة واستحقاق كل منهم فى الميراث على أن "فروع المورث مقدمون على غيرهم من الأقارب فى الميراث فيأخذون كل التركة أو ما بقى منها بعد استيفاء نصيب الزوج أو الزوجة، فإذا تعددت الفروع وكانوا من درجة واحدة؛ قُسّمت التركة فيما بينهم أنصبة متساوية لا فرق فى ذلك بين الذكر والأنثى…".
في الدوّامة
ارتكنت هدى على هذين النصّين الدستوري والقانوني في صياغة إعلام الوراثة المُطالب بالاحتكام للشريعة المسيحية. بل إنها لم تكتفِ بالطلب المدعوم دستوريًا وقانونيًا، إذ حضر أخويها إلى المحكمة واعلنا موافقتهما على القسمة المتساوية. "في المحكمة، اخواتي قالوا احنا موافقين، وعندنا بنقسم زي بعض البنت زي الولد".
على الرغم من النصوص وشهادة الوراثة المؤكدة للاحتكام للمسيحية، كان للقاضي ردّ فعل رافض كما تذكر هدى. "طبعًا أنا مش قادرة أقول رد فعل القاضي كان إيه؟ قال إن الكلام ده بينكم انتم مع بعض، احنا ماعندناش الكلام ده. وبعد كده فوجئت فعلاً إن إعلام الوراثة صادر بإن للذكر مثل حظ الأنثيين".
هكذا كان قرار القاضي رغم عدم تنازع الورثة حول الشريعة المراد تطبيقها، على العكس من غالبية الحالات التي تشهدها المحاكم. "أنا واخواتي مسيحيين متحدي الملّة والطائفة، متراضين ومتوافقين على تطبيق شريعتنا، وعندنا الدستور والقانون بيقرّوا ده، وإعلام الوراثة ده بيقرر حالة؛ وبناءً عليه بيصدر القرار. والقاضي دوره تطبيق القانون مش قناعاته الخاصة".
لم تتخيل هُدى أن يأتيها الإعلام على هذه الصورة طالما غاب النزاع عنها واخويها. "لقيت نفسي داخلة في دوامة تانية"، تقول المحامية "يعني فيه توافق ونصوص، لكن الوحيد اللي كان ليه معتقد آخر اللي هو القاضي اللي رفض تطبيق كل ده وطبق الشريعة الإسلامية غصب عننا".
ربما جاء القرار باعتباره المعتاد بين المسيحيين، سواء ارتضوه أو انصياعًا منهم لمعتقد الأغلبية، أو حتى بإعلان موافقتهم عليه مع اللجوء للقسمة الرضائية، والموقف اﻷخير الذي يتبناه شقيقاها رفضته هدى لأسباب خاصة. "أنا محامية، ده شغلي، وباب النجار مش مخلّع. إزاي ماعرفش اجيب حقي؟ أنا عايزة حقي وإني احس بإني مواطنة ليّا حقوق. وكمان بشوف بنات ماعندهومش وعي قانوني أو سبل للتقاضي؛ فقولت اقطع شوط أوفّر بيه تعب لناس كتير قوي".
"التعب" الذي قد يتكبّده "كثيرون" على الرغم من وجود النصوص الداعمة لتطبيق الشريعة المسيحية وتوافق الورثة على تطبيقها؛ يثير تساؤلات حول ما إذا كان لتطبيق الشريعة الإسلامية سبب يتعلق بالمجتمع وأغلبيته وهي أمور غير محسومة بالنسبة لهدى.
"مش هقدر أقول (أجزم) إن ده هوى عام، لكن لمّا يبقى قاضي واتنين وتلاتة ويرفضوا؛ يبقى ده مش حالة فردية، وفيه نفس الحالة حصلت مع كذا حد تاني، مع العلم إن الفصل بين الخصوم بالقانون والمستندات وليس بالعلم الشخصي للقاضي أو رؤيته الخاصة؛ وإلاّ تحوّل اﻷمر إلى أهواء تنتج أحكامًا متباينة".
شهد عام 2016 تحركًا بشان المساواة بين في الميراث بين اخوة مسيحيين، وانتهى إلى صدور حكم يقضي بالمساواة استنادًا إلى شريعتهم، وهو ما علّقت عليه هدى بقولها. "يعني فيه واقعة شهيرة حصلت، وفيه سابقة لتطبيق الشريعة المسيحية".
قانونيًا، إعلام الوراثة هو حُجّة على الخصوم، ولا يتم تغييره بتظلم أو استئناف، فقط برفع دعوى بُطلان، وحتى هذا المسلك لا يعني انتهاء الأمر. "حتى في دعوى البطلان، لو كسبتها؛ هروح أقدم إعلام وراثة جديد، ﻷن ده خلاص بقى باطل كأن لم يكن".
وهذا الإجراء تراه ينطوي على تكلفة لم تكن مُطالبة بها كما يبدو من تساؤلاتها. "ليه حاجة ممكن تخلص في خطوة أمشيها على 3 خطوات في شهور وسنين؟ طيب أنا محامية وأقدر أسعى في ده، طيب غيري ليه يتكلف أتعاب محاماة لكل ده؟".
.. وأمل قادم
في حالة قبول البطلان وتقديم إعلام وراثة جديد، فهل يمكن أن يتكرر اﻷمر ويصدر احتكامًا للشريعة الإسلامية؟ هذا ما لا تعلمه هدى حتى هذه اللحظة. "ده بقى اللي مستنية اشوفه. يعني لو الدنيا كانت تمام وفعلا أخدت بطلان وروحت أعمل إعلام وراثة جديد، هشوف هيعملوا إيه بعد ما أروح بنفس الطلبات. يعني عندي أمل يطلع وفقًا للشريعة المسيحية، ﻷن سبب إبطال اﻷول إنه كان وفقًا للشريعة الإسلامية".
مع افتراض تحقق هذا السيناريو؛ فإن هدى تستعد لإجراءات جديدة. "ممكن اعمل دعوى بطلان تاني، أو أطعن أمام المحكمة الدستورية. لكن مش هستسلم طبعًا".
اختارت هدى وقررت ألاّ تستسلم في المعركة، إذ أنه وربما لو انتصرت؛ سيتحسّن وضعها وسيدات مصريات أخريات، ترى أنهن في ظل هذا المجتمع يتعرضن للمشكلات نفسها، بغض النظر عن الديانة. "وضع المرأة المسيحية مش أفضل حالاً من وضع المسلمة في المجتمع المصري. فيه مساواة في الانتهاكات".