لم تمنع الـ22 سنةً التي قضاها كمسؤول سلامة وصحة مهنية في إحدى شركات المقاولات الكبرى، جورج جرجس من التردد على كنيسة صغيرة قريبة من منزله في منطقة مسطرد بحي شبرا الخيمة، رغم علمه بكل مخالفاتها لمعايير الأمان التي يجب توفراها، وإمكانية حدوث كارثة كالتي حلت بكنيسة أبو سيفين في أي وقت.
يقول للمنصة إن كنيسته لا تختلف كثيرًا عن التي تفحّمت الأحد الماضي بمنطقة إمبابة؛ البوابة الضيقة الوحيدة نفسها التي تُفتح على شارع لا يتسع لأكثر من ثلاثة أو أربعة أمتار، المبالغة ذاتها في عدد المكيفات، وحتى مسألة العمالة غير المدربة.
وفقًا لتخصصه، فالتواجد داخل مبنى بتلك المواصفات، مخاطرة كبرى، وبعد حادث أبو سيفين قد يفضل البعض تبديل كنائسهم إلى أخرى تتوفر فيها معايير الأمان، لكنه على عكسهم يتمسك بكنيسته غير الآمنة، ويبرر "كل ده ميساويش متعة إنك تروح على مكان تستريح ليه، بثقة المؤمن إن لكل شخص قدره".
هذا الإيمان لا يتزعزع حين يمس الأمر سلامة حفيديه، إذ ينوي الإبقاء على اصطحابهما إلى قداس الأحد، حتى وصدمة وفاة 18 طفلًا لم تتبدد بعد.
مثله ينوي بطرس شنودة الذي يبعد سكنه ربع الساعة عن كنيسة أبو سيفين، المداومة على اصطحاب أطفاله الأربعة، وأكبرهم 12 سنة، كل قداس. أما الشابة العشرينية مارينا فتطبق الفلسفة التي درستها على مسألة ترددها على كنيستها، فتقول "لا يهم الموت فربما يقابلك في الطريق".
وفيما يعد جرجس والآخرون نماذج لأشخاص مسؤولين عن سلامتهم وأمنهم وأمن عائلتهم فقط، فإن الأمر يتسع بالنسبة للحكومة من جهة والكنيسة المصرية من أخرى، اللذان يفترض أن يحرصا على توفير معايير السلامة حفاظًا على الرعايا، ولتجنب تكرار كارثة أبو سيفين.
وتتنوع أكواد بناء الكنائس بين مسالك الهروب وكيفية التعامل مع القاعات الخشبية، وآلية السيطرة على الحريق وغيرها.
ويشرح المهندس محمد رجب مسالك الهروب للمنصة باعتبارها أحد أهم هذه الأكواد، ويعرفها بأنها "الطريق الآمن الذي يقصده الشخص للهروب من المبنى لمكان يجد فيه الأمان".
ويشترط في هذه المسالك أن تبني من مواد غير قابلة للاشتعال، وتستهلك أقل أحمال من الكهرباء، فضلًا عن بوابات مقاومة للحريق، ووجود طفاية حريق واحدة على الأقل كل 100 متر.
ويلفت إلى أن البوابات يشترط أن تفتح إلى الخارج في اتجاه اندفاع الناس حتى لا تعطل هروبهم، أو تسبب عند محاولة فتحها إلى مزيد من التكدس، وسقوط الضحايا.
وطبقًا لمواصفات إدارة السلامة والصحة المهنية، التابعة لوزارة العمل في الولايات المتحدة، لهذه المخارج فيفترض أن يتوافر بالمباني المتمتعة بسلامة وصحة مهنية عدد ملائم من مخارج الهروب يكافئ عدد شاغلي المبنى، كما لا يجب وجود أقفال أو أي أجهزة تمنع الهروب في حالات الطوارئ. واشترطت أن تكون هذه المخارج واضحة ومعروفة للمترددين على المبنى، ولا يقل عرض المخرج عن 70 سم، ولا يقل ارتفاع أي جزء فيه عن 215 سم.
من المسؤول؟
تفتح حادثة أبو سيفين بما خلفته من عدد كبير للضحايا (41 شخصًا)، الباب أمام البحث عن وضع الأمان في الكنائس، ففي الوقت الذي أكدت فيه وزيرة التضامن نيفين القباج مراجعة كافة سبل الآمان فيها، خرج البابا ليدافع عن المسؤولين ويشيد برد فعلهم تجاه الحادث، محاولًا في الوقت نفسه التنصل من أي اتهام بالتقصير، وقذف الأمر على الحكومات السابقة.
البابا الذي نال الكثير من الانتقادات على مواقع التواصل لغيابه عن تشييع الضحايا، قال في تصريحات تليفزيونية إنه "في فترة ما منذ أكثر من 10 سنوات كانت عملية إنشاء كنيسة عملية مرهقة جدًّا، كان هناك جهات عديدة تقف ضد هذا الأمر، وهو ما أدى إلى بناء كنائس صغيرة لا تفي باحتياجات المسيحيين، ولكن في عام 2016 صدر قانون بناء الكنائس؛ مما جعل أمور بناء الكنائس يسير في مساره الصحيح".
كما طلب البابا نقل كنيسة أبو سيفين إلى موقع آخر نظرًا لكثافة المسيحين في تلك المنطقة، لكنه لم يكشف مصير الآلاف من الكنائس الأخرى التي قد تواجه مصير أبو سيفين في أي وقت نظرًا لغياب معايير السلامة.
سلامة مفقودة
يشرح محمد السيد، وهو مدير السلامة والصحة المهنية في إحدى شركات العقارات الكبرى للمنصة، المعايير الخاصة بالسلامة والواجب توفرها في الكنائس للسيطرة على أي حريق أو خطر طارئ، وتقليل عدد الضحايا المتوقع، قائلًا "الكنائس دي اتبنت على إنها بيوت، فلم يُراع فيها ما يعرف بأكواد بناء الكنائس المعمول بها عالميًا".
ويعرف السيد هذه الأكواد بـأنها "المعايير التي تُراعى عند تصميم وتنفيذ الكنائس، بحيث لا تكون مجرد مبنى أشرف علي بناءه مقاول، فالأمر يحتاج إلى علم وشركات مطلعة على تلك المعايير وعلى جديدها باستمرار".
يتابع "في حالة غياب تلك الأكواد قد تضطر كنيسة غير مطابقة لإلغاء الشكل الكلاسيكي المتعارف عليه في استخدام الأخشاب في المقاعد وبعض الجدران، كون الخشب في هذه الحالة ملاصق للشموع التي تستخدم في الطقوس الدينية المسيحية باستمرار، ما يهدد بحريق يصعب السيطرة عليه".
وعلى العكس يسمح لكنيسة أخرى مطابقة للأكواد، باستخدام الأخشاب على نطاق واسع رغم مجاورتها للنار، بحسب السيد، موضحًا "لكن في هذه الحالة تسمح الأكواد بتوقع أغلب حالات الطوارئ والتدريب على التعامل معها، بل ومنع حدوثها من الأساس".
ويشرح "عملية مقاومة الحوادث ومنها الحريق تمر بمراحل أولها استباق الحادث، فيجتمع في هذه المرحلة كل من له علاقة بالمنشأة سواء عمال أو إداريين وحتى ممثلين عن الأحياء؛ للنقاش حول سبل تجنبه، سواء من خلال الصيانة الدورية للكهرباء أو توافر وسائل السيطرة على الحريق".
ويضيف ضمن الخطوات الاستباقية "التدريب على كيفية التعامل مع الحوادث"، موضحًا "في حالة الكنيسة يكون المطالب بالتدريب كلًا من القساوسة والشمامسة فضلًا عن المترددين على المكان".
وشدد على ضرورة أن يعرف المترددون على الكنيسة جغرافيتها وممراتها ليتمكنوا من الحركة بها، لافتًا إلى أن تدريب الزوار يأتي بعد تدريب القائمين على الكنيسة الذين يقومون بدورهم بتدريب المصلّين.
ويتابع "يمكن أن يضربوا جرسًا مفاجئًا ثم يراقبون حركة الموجودين مع توجيههم إلى التعامل السليم".
أما فيما يخص الأطفال فيقول السيد "بالإمكان تدريب الأطفال بالمدارس على خطة إخلاء، وبخصوص أطفال الحضانات فالمسؤولية هنا تلقى على عاتق المشرفين الذين يفكرون في تلك اللحظة في الطفل، لا في سلامتهم الذاتية".
وعلى ذِكر التدريب يقف السيد أمام الفيديو المنتشر للقس المتوفى عبد المسيح بخيت، راعي كنيسة أبو سيفين على مواقع التواصل الاجتماعي ويظهر فيه الرجل وهو يواصل الصلاة بالناس رغم امتلاء القاعة بالدخان، ويعلق "هذا الموقف يدل على غياب أدني معرفة بملف السلامة والصحة المهنية، وليس غياب التدريبات فقط".
سيطرة على الحريق
وفي سياق متصل، يعدد مهندس السلامة والصحة المهنية سبل السيطرة على الحرائق "في البداية يأتي دور رشاشات المياه وهي عبارة عن أنابيب مثبته في الأسقف، ويمكن استخدامها في كافة المؤسسات العامة سواء كانت حديثة الإنشاء أو على النمط القديم، ثم أجهزة الإطفاء وتتنوع بين طفايات الحريق التي يفترض تدريب مرتادي الكنيسة أو المؤسسات المختلفة على استخدامها، وأنظمة الإطفاء بغاز ثاني أكسيد الكربون، وفيها يستخدم الغاز المذكور في عزل الحريق عن الأكسجين".
وفي حالة أبو سيفين التي يعتقد أن المتسبب بها ماس كهربائي يقول "لو حريق ماس كهربائي فتستبعد المياه، لو حريق في الأخشاب فقط فستكون خيار مثالي". ويتطرق إلى نظام انذار الحريق وهو نظام يستشعر الدخان والحريق ويطلق الصافرات التي تنبه الحاضرين.
ويعتبر السيد أن تأهيل كنيسة مثل أبو سيفين لتوفير حد من السلامة "ليس صعبًا ولكنه مكلف ويحتاج متابعة دورية". ويشير إلى أن الواقعة كشفت افتقاد الكنيسة لأدنى معايير السلامة.
ويرى مهندس السلامة والأمن الصناعي أن الكنائس القديمة تقع بين ثلاثة خيارات "إما أن تُهد وتُبنى من جديد بتصميمات تراعي الأكواد المذكورة، وهذا الأفضل، أو أن يأخذوا بما يتلائم معهم من ملف السلامة والصحة المهنية، أو أخيرًا الإبقاء على الوضع الحالي". وهنا يتوقع سقوط أعداد مبالغ فيها من الضحايا "قد تصل إلى نصف الموجودين في كل حادث" بحسب تقديره.
كنائس جديدة
من بين الخيارات الثلاثة يدعم المحامي ورئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان نجيب جبرائيل، الخيار الأول، ويضيف عليه مقترحًا آخر بأن يتم إزالة المباني القريبة من الكنائس وتعويض الحكومة ورجال الأعمال لأصحابها.
ويبرر جبرائيل طلبه بتخوفه من أن تصبح حادثة أبو سيفين مبرر للتضييق على الكنائس الصغيرة أو أن تحبط الحادثة مكتسبات تأخرت لعقود على مستوى الكنائس "كأن يصدر قرارًا بغلق الكنائس العشوائية بدعوى حماية الأرواح"، بحسب قوله للمنصة.
كما يعترض جبرائيل على التقنين في حد ذاته معتبره "علاجًا للعرض وليس المرض"، مشيرًا إلى أن التقنين الذي تسعى فيه الدولة لم يمنع حادث أبو سيفين، ويذهب أبعد من ذلك قائلًا "آلاف الكنائس تنتشر في صعيد مصر بأوضاع أسوأ من تلك التي كانت عليها كنيسة إمبابة".
تدقيق إضافي
حمل حريق "أبو سيفين" إحراجًا للجنة تقنين الأوضاع الكنائس، التي تشكلت في يناير/ كانون الثاني 2017 بمقتضى قرار رئيس الوزراء شريف إسماعيل آنذاك، إذ أن الكنيسة التي احترقت حاصلة على الترخيص دون مراعاة المعايير.
وتكونت اللجنة وقتها من عشر أعضاء؛ ست منهم وزراء معنيين بملف الكنائس، وثلاثة ممثلين عن المخابرات العامة، الرقابة الإدارية، الأمن الوطني، بالإضافة إلى ممثل واحد عن كل من الطائفتين الأرثوذكسية والإنجيلية. ويتمثل دورها في النظر في طلبات الكنائس غير المرخصة لتعديل أوضاعها، بعدما قضت عقود من الفتور مع الدولة.
وطبقًا لتصريحات القس ميخائيل أنطوان، نائب اللجنة وممثل الطائفة الأرثوذكسية للمنصة" فالكنيسة المنكوبة قننت أوضاعها في 2019، وهو ما يعني إنها وفّت كافة شروط السلامة المدنية التي تشترطها اللجنة لتقنين الكنائس، لكن ما حدث يوم الأحد أفاد بعكس ذلك".
ويرفض أنطوان الحديث عن أي تقصير في عمل اللجنة قائلًا "لكل قاعدة شواذ وما حدث في أبو سيفين استثناءً". ويتابع "لابد من مراعاة إن هذه الكنائس بنيت منذ زمن بدون أي التزام بمعايير السلامة، نحن في اللجنة نبحث عن حلول تضمن أمان الكنائس رغم حالتها التي تعيق أحيانًا ذلك". وشدد على أن ذلك لا يعني ضمان الأمان التام للكنائس حتى تلك التي قننت أوضاعها.
وفيما إذ كان حريق كنيسة مقننة أوضاعها سيؤثر على عمل اللجنة، يجيب الممثل القانوني للكنيسة الإنجيلية يوسف طلعت فيي اللجنة بـ"نعم"، متوقعًا مزيدًا من التشدد والتدقيق في توفير معايير السلامة كشرط للحصول على التقنين لتفادى حوادث مماثلة، بينما يعتقد أنطوان أن التدقيق قائم بالفعل ولا يتوقع المزيد.
ووصل عدد الكنائس المقننة حتى مايو/ أيار الماضي إلى 2401 كنيسة ودور خدمات تابع لها خلال خمسة سنوات ونصف تقريبًا، من إجمالي 3730 طلب تلقته اللجنة حتى 28 سبتمبر / أيلول 2017. وبذلك يتبقى للجنة 1329 كنيسة فقط في انتظار التقنين.
أما عن شروط التقنين طبقًا لقانون بناء وترميم الكنائس الصادر في 2016 "أن تكون الكنيسة مقامة قبل إصدار هذا القانون، وأن يثبت سلامة مبانيها بعد عرضها على مهندس استشاري مختص يحدد مدى مطابقتها لمواصفات بناء الكنائس".
وعلى خلاف جبرائيل والحكومة والمسؤول الكنسي، لا يعبأ المتخصص في معايير السلامة جورج جرجس بمسألة التقنين من عدمه، قائلًا "طالما الكنيسة تفتح أبوابها أمامنا، وطالما لم تهدم فلا يهمنا تقنين أو توفيق أوضاع "، في عبارة تكشف حال مسيحين اعتادوا مواجهة صعاب كثيرة.