
في انتظار قانون غائب.. متى تعترف الدولة بمواطنيها الأقباط؟
أعادت قصة منال نجيب التي قُتلت ضربًا على يد زوجها الجدل من جديد حول قضية طلاق الأقباط، أو المسيحيين الأرثوذكس المصريين تحديدًا، وهي القضية التي يتقاطع فيها دور الكنيسة المهيمنة على ملفات الأحوال الشخصية للمسيحيين مع مسؤولية الدولة التي يفترض أن تكفل حقوق الأقباط كمواطنين مصريين، دون النظر للهوية الدينية.
يتجدد الجدل كلما ظهرت على السطح قضية جديدة من بين آلاف الملفات العالقة لزيجات غير سعيدة لا سبيل للفكاك منها، بعد أن قصرتْ الكنيسة الطلاق على علة الزنا، بقرار من البابا شنودة الثالث عام 1971.
ألغى البابا الراحل لائحة عام 1938 التي كانت تمنح الأقباط تسعة أسباب للتطليق وفسخ الزيجة، من بينها الهجر، والسجن، والجنون، والمرض المعدي الذي يخشى منه على سلامة الآخر، والاتجاه للرهبنة، والإدمان، والعنف الزوجي، وغيرها من الأسباب، لكن لماذا أقدم على هذا التعديل؟ وما طبيعة النظام القانوني الذي سمح للكنيسة بلعب هذا الدور في ملفات الأحوال الشخصية؟
النظام الملي العثماني
تتحكم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بشكل شبه مطلق في ملفات الأحوال الشخصية لرعاياها، وهي مسألة يمكن فهمها بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الدولة والكنيسة التي تسببت في منح الأخيرة هذه الصلاحيات القانونية المدنية التي تمتلكها الدولة في الأساس، في ترسيخ لنظام وُضع قبل 170 عامًا.
وهو النظام المِلِّي الذي وضعته الدولة العثمانية في عام 1856 ميلاديًا لتنظيم العلاقة مع رعاياها من غير المسلمين ضمن التنظيمات التي صدرت في القرن التاسع عشر، وبموجبه يصبح رئيس الطائفة الدينية الممثل القانوني والروحي، بل والسياسي لرعاياه أمام الدولة العثمانية.
"التسوق القضائي" لجوء غير المسلمين للمحاكم الشرعية للاستفادة من القواعد القانونية الإسلامية
مثَّل النظام محاولةً لضمان حقوق الأقليات في الدولة العثمانية مترامية الأطراف. ومن المحتمل أن قانون الأحوال الشخصية وطريقة تطبيقه كانا جزءًا من ترتيبات العلاقة بين الدولة والأقليات، سواء في ظل الدولة العثمانية أو خلال فترة الدولة القومية المصرية في مرحلة ما بعد الاستقلال من الحكم العثماني وحتى تأسيس الجمهورية.
وفقًا للباحث رون شاحام، فمنذ القرن السادس عشر، أتاح نظام المحاكم المِلِّيَّة الفصل في قضايا الأحوال الشخصية للرعاة غير المسلمين، غير أن ظاهرة جديدة بدأت في التشكل سُميت بـ"التسوق القضائي" إذ كان غير المسلمين يلجأون للمحاكم الشرعية للاستفادة من القواعد القانونية الإسلامية التي كانت أكثر ملاءمة لهم. فلجأ الرجال المسيحيون إليها من أجل تطليق زوجاتهم، وفي بعض الحالات القليلة، كان اللجوء إلى محاكم الشريعة يترافق مع اعتناق الإسلام.
كما كان في كثير من الأحيان، يؤدي تغيير أحد الزوجين طائفته الكنسيَّة من الأرثوذكسية القبطية إلى الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية على سبيل المثال إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تلقائيًا، باعتبارها قانون البلاد.
علة الزنا
استمر استخدام هذه الوسائل القضائية في الدولة القومية المصرية حتى تأسيس المجلس المِلِّي للأقباط عام 1874، إذ كان ينتخب الأقباط شخصيات علمانية (مسيحيون من غير رجال الدين)، لتشكيل المجلس الذي يقتسم صلاحيات رجال الدين في إدارة الكنيسة مثل الإشراف على الأوقاف القبطية، وإدارة المجالس الإكليريكية، التي تفصل في قضايا الأحوال الشخصية، والأهم هو تمثيل الأقباط أمام الدولة خاصة.
غالبية أعضاء المجلس المِلِّي في بداية تأسيسه كانوا من كبار السياسيين أصحاب الألقاب في تلك الفترة. كما صاحب تأسيسه صراع بين العلمانيين ورجال الدين على السلطات التي كانت حكرًا على الإكليروس طوال الفترات السابقة على تأسيس المجلس، وظل هذا الصراع مستمرًا يفت في عضد كنيسة مارمرقس لزمن طويل.
إلغاء لائحة 1938 واعتماد لائحة جديدة تُضيّق أسباب الطلاق وتقصرها على علة الزنا
في عشرينيات القرن الماضي بدأت محاولات الدولة المصرية في توحيد النظام القضائي ليشمل جميع المصريين، وإلغاء الامتيازات الطائفية بهدف تقوية سلطتها، لكن رؤساء الطوائف من غير المسلمين عارضوا ذلك بشدة. ما دفع الدولة إلى التراجع ومطالبة الطوائف بإصدار لوائح تنظم قوانين الأحوال الشخصية لأتباعها، فكانت النتيجة إصدار لائحة عام 1938.
ظل العمل باللائحة مستمرًا مع وجود المحاكم المِلِّيَّة إلى أن قرر جمال عبد الناصر إلغاءها مع المحاكم الشرعية عام 1955 ليتم المراد ويُوحَّد النظام القضائي في مصر ليشمل الجميع دون تمييز على أساس الدين.
لكن قبل الإلغاء وبحكم الأمر الواقع أصبحت لائحة عام 1938 تشريعًا رسميًا واضطر بموجبها الإكليروس القبطي الأرثوذكسي إلى الاعتراف بأحكام فسخ الزواج التي تصدرها المحاكم الوطنية بناءً على هذا القانون، والسماح للمطلّقين بالزواج مرة أخرى، وطالب المجلس المِلِّي والكنيسة مرات عديدة بتعديل هذه اللائحة لكن لم تستجب الدولة لذلك.
وفي عام 1962 اتفق جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس على تجميد المجالس الملية تمامًا لينفرد الإكليروس بالسلطة الكنسية كاملة ومن بينها مسائل الأحوال الشخصية، لتصبح اللحظة التي يتشكل فيها النظام المِلِّي الجديد.
كما شكل البابا كيرلس السادس لجنة كنسية ترأسها البابا شنودة الذي كان أسقفًا للتعليم وقتها، لتعديل لائحة الأحوال الشخصية، وإلغاء لائحة 1938، واعتماد لائحة جديدة تُضيّق أسباب الطلاق وتقصرها على علة الزنا، التي كانت واحدةً من بين 9 مواد تتيح التطليق في اللائحة القديمة.
حماية الأسرة المسيحية
صعد البابا شنودة الثالث إلى سدة الكنيسة عام 1971 ممثلًا لجيل جديد من الباباوات الأقباط يسمى جيل مدارس الأحد أو جيل الصحوة القبطية، يحلم باستعادة المجد القديم لكنيسة مارمرقس بالعودة إلى الجذور الآبائية.
نشأ هذا الجيل في زمن انتشار البعثات التبشيرية الغربية التي شكلت ضغطًا نتجت عنه مقاومة لما حملته البعثات البروتستانتية من دعوات للتجديد والتغريب.
بعد أيام من صعوده للكرسي المرقسي وقّع البابا شنودة أول قراراته الذي يقضي بإلغاء اللائحة، معتمدًا "لا طلاق إلا لعلة الزنا".
أكد البابا في حوار نُشر في الأهرام ويكلي عام 1999 أن اللائحة الملغاة أصدرها المجلس المِلِّي العلماني دون سلطة الكنيسة ومن ثم لا يمكن الأخذ بها، معتبرًا أن العهد الجديد هو مصدر الكنيسة الوحيد في هذا التشريع.
كما ردد البابا في مناسبات عدة أن التشريع يهدف للحفاظ على الأسرة القبطية التي هي نواة المجتمع القبطي في ظل تغيرات اجتماعية، قاصدًا صعود التيار الإسلامي الذي كان علامة عصره.
أراد البابا شنودة إحكام السيطرة على الأسرة من الانفلات كطريقة لحماية الهوية القبطية والجماعة القبطية من الذوبان في مجتمع يتأسلم، ومن بين محاولاته تحقيق هذا الهدف دعوته رؤساء الطوائف آنذاك إلى إصدار قانون موحد للأحوال الشخصية ليمنع المسيحيين من اللجوء لتغيير الملة الذي يعتبر بابًا خلفيًا للطلاق، إلا أن دولة مبارك عطلت صدور هذه القوانين، ربما لأنها أرادت الحفاظ على هذا الباب مواربًا تجنبًا للانفجار الاجتماعي.
الازدواج بين الروحي والقانوني في عمل الكنيسة يعطل دور الدولة الحديثة في مساواة أفرادها أمام القانون
مع صعود البابا تواضروس لكرسي الباباوية عام 2012 انتظرته آلاف الملفات العالقة لقضايا طلاق خلقت صراعًا مدويًا في كنيسته، تسببت في تظاهر المتضررين أمام موكبه عام 2015 داخل الكاتدرائية مما دفعه لإجراء تغييرات هيكلية تحاول حلحلة المسألة.
أعاد البطريرك تقسيم المجالس الإكليريكية التي تفصل في قضايا الأحوال الشخصية من أجل سرعة النظر في القضايا التي تحكَّم فيها الأنبا بولا مطران طنطا وحده لمدة 30 عامًا، ما تسبب في تراكم الملفات لسنوات طويلة، بالإضافة إلى ما يصفه البعض بانعدام العدالة، حتى أن الفنانة هالة صدقي حصلت على حق الطلاق مرتين بينما آلاف النساء تعاني.
تبدو المسألة وكأنها أمر كنسي خالص، لكن النظر إليها بمنظور الدولة الحديثة يعني اقتصار الرؤية على أن الأقباط رعايا للكنيسة وليسوا مواطنين كاملي الأهلية القانونية.
تتحكم الكنيسة في كافة شؤون الأحوال الشخصية بدايةً من الزواج الذي تتخطى فيه دورها الروحي في إتمام طقس الإكليل إلى دور قانوني، فيملك الكهنة حق توثيق عقود الزواج وكأنهم موظفون في وزارة العدل. هذا الازدواج بين الروحي والقانوني يعطل دور الدولة الحديثة في مساواة أفرادها أمام قانون واحد، وتَظهر سلطة الكنيسة مطلقةً في قضايا قد تتسبب في انفجار اجتماعي مهما حاول البابا تواضروس حلحلتها بتعديلات إدارية.
كيف يمكن الخروج من النفق؟
ساهمت التعديلات التي أجراها البابا واعتمدها المجمع المقدس في لائحة عام 2016 في تغيير الوضع، وأصدرت الكنيسة الكثير من تصاريح الزواج الثاني وفقًا لما صرح به الأنبا مرقس مطران شبرا الخيمة الذي كان يتولى رئاسة المجلس الإكليريكي الإقليمي للوجه البحري من قبل.
لكن اللائحة الجديدة التي وسعت من أسباب ما يسمى "فسخ الزيجة" لتشمل الهجر والإصابة بأمراض تمنع استمرار الحياة الزوجية وغيرها ما زالت غير معترف بها أمام المحاكم المصرية، ويتطلب صدور تصريح الزواج الثاني من الكنيسة استيفاء الشقين؛ الكنسي وهو قرار المجلس الإكليريكي، والمدني وهو حكم المحكمة.
في المقابل، فإن مشروع إصدار قانون موحد للأحوال الشخصية لغير المسلمين، الذي اجتمعت بشأنه الطوائف المسيحية على مدار ما يقرب من عشر سنوات يبدو معطلًا في أدراج الحكومة، حيث يتوالى عقد جلسات استماع بين الممثلين القانونيين للطوائف ومسؤولي وزارة العدل من وقت لآخر، كان آخرها فبراير/شباط الماضي دون أن تظهر مسودة المشروع على مضابط مجلس النواب.
بشكل عملي وسَّعت لائحة عام 2016 أسباب ما سمته فسخ الزيجة ليشمل "الفرقة أو الهجر" بمعنى أن أحد الزوجين غاب أو ترك منزل الزوجية.
كذلك اشتملت اللائحة على بنود أخرى تتضمن الإدمان والعنف الزوجي، وهي أسباب نصت عليها لائحة 1938 من قبل. لكن هذا لا يغني عن اعتماد هذه اللائحة أمام المحاكم المصرية ما يمكن أن يسهم في حلحلة ملف طلاق الأقباط بالتوازي مع إعادة النظر في الخطابات الكنسية التي تطبِّع مع العنف الزوجي أو تعمل كمسكنات لغلق باب الشكوى أمام النساء المتضررات من خلال استخدام العبارة الشهيرة "صليبك وشيليه"، التي تستلهم قدرة المسيح على احتمال آلامه لإسكات المتضررين من آلام العنف الزوجي أو استحالة العشرة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.