احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمرور عشر سنوات على تجليس الأنبا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الذي اختير في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، في ظروف استثنائية شهدت مصر خلالها أحداثًا جسيمة على الصعيدين الوطني والكنسي. وهو ما وضعه في دائرة المقارنة بسابقيه، خصوصًا البابا الراحل شنودة الثالث، صاحب الكاريزما الطاغية.
ساعد على المقارنة حضور ومواقف البابا تواضروس، وتصريحاته بشأن القضايا الوطنية والسياسية والدينية، بداية من المشاركة في أحداث 3 يوليو/تموز 2013، برفقة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، التي ترتب عليها عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، مرورًا بطريقة تعاطيه مع أحداث الإرهاب والطائفية، التي بلغت ذروتها باستهداف الكنيسة المرقسية بالإسكندرية أثناء صلاته هو نفسه في أحد السعف خلال أبريل/ نيسان 2017، وانتهاء برؤيته في إدارة الكنيسة، وموقفه من الكنائس الأخرى.
لاقت هذه المواقف تأييدًا من مؤسسات الدولة وكبار المسؤولين، وقطاع من المسيحيين، ولكنها في ذات الوقت وضَعت البابا تواضروس في مرمى نقد تيارات أخرى متنوعة، وصلت إلى تأسيس مسيحيين لجروبات على فيسبوك مهمتها الأساسية انتقاد قرارات البابا والتشكيك في نواياه، وحتى إيمانه.
لنفهم السياق
أي قراءة منصفة لدور البابا تواضروس يجب أن تأخذ في الاعتبار السياق الذي تولى فيه مسؤولية الكنيسة، وتأثير تتابع الأحداث السياسية، ووضعه قبل توليه المنصب في هيراركية المؤسسة الدينية الأبوية، والمسؤوليات المنوطة به.
على مستوى النشأة والخدمة، نشأ الأنبا تواضروس في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، كما خدم كأسقف مساعد للأنبا باخوميوس في إيبارشية البحيرة ومطروح، التي يمثل المسيحيون فيها نسبة قليلة مقارنة بالصعيد وبعض المدن الكبرى. وعادة ما تتسم العلاقات بين المواطنين هناك بطابع قبلي خاص، يعلي من التفاهمات الشعبية والأمنية في التعاطي مع المشاكل. وهو نمط مختلف عن نمط العلاقات مثلًا في محافظة المنيا، حيث الندية والشعور بنفوذ العائلة وقوة عددها.
جاء البابا تواضروس من خارج دائرة صنع القرار في المقر البابوي، فلم يكن من دائرة المؤثرين على المستوى الإداري مثل الأنبا يؤنس أو الأنبا إرميا سكرتيريّ البابا شنودة، ولا الأنبا بيشوي السكرتير السابق للمجمع المقدس واليد الباطشة لمعاقبة المخالفين، ولا مثل الأنبا بولا محتكر ملف الأحوال الشخصية وقتها. أي أنه جاء بخبرات إدارية محدودة نسبيًا، ومن موقع كنسي هو الرجل الثاني فيه.
لم يكد توضرواس يبدأ مسؤولياته حتى تفجرت الأزمات التي خلقتها وغذتها جماعة الإخوان المسلمين
يُضاف إلى ذلك، أن طول مدة خدمة البابا شنودة الثالث وكاريزمته جعلت مهمة خلَفه صعبة جدًا، من حيث ملء الفراغ الذي تركه، والتعامل مع التيارات المختلفة داخل المجمع المقدس. فالبابا الراحل كان يمثل الأب الروحي الذي اختار معظم أعضاء المجمع، في حين أن الأنبا تواضرس مثّل الأخ القادم من خارج المقر ودائرة النفوذ، ليدير شؤون الكنيسة في مرحلة بالغة الدقة وسط تغيرات متلاحقة.
لم يكد البابا توضرواس يتولى مسؤولياته حتى تفجرت الأزمات التي خلقتها وغذتها جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، في ذلك الوقت. بداية من الإعلان الدستوري ودستور 2012، مرورًا بالتوترات الطائفية، انتهاءً بحصار الكاتدرائية ومحاولة اقتحامها عقب تشييع جنازة ضحايا اعتداءات الخصوص الطائفية، في مشهد غير معتاد في تاريخ مصر الحديث. ينضوى على ازدراء وإهانة لمكانة المنصب الديني، وما يمثله من رمزية لدى القطاع الغالب من المسيحيين.
ألقت هذه الأحداث بظلالها على رؤيته والمواقف التي اتخذها فيما بعد، سواء السياسية أو الكنسية. فالبابا ما كان ليرفض دعوة اجتماع القوى الوطنية في 3 يوليو أو يخالف الرأي السائد بعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، أو يمتنع عن دعم النظام الجديد والتسويق له دوليًا.
كان الرجل صادقًا مع مواقفه، وشهد المفارقة بين نظام الإخوان الذي كان يحرِّض ضد المسيحيين، و\طاب النظام الجديد، حيث الحديث باستمرار عن المواطنة والمساواة واحترام حقوق المسيحيين.
ولا يمكن تجاهل تأثير موجة الأعمال الانتقامية عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، من قتل وحرق ونهب عشرات الكنائس والمباني الدينية والمنازل، ثم في مرحلة تالية تزايُد الأعمال الإرهابية التي شهدت تفجير كنائس واستهداف المسيحيين خلال الرحلات الدينية.
للأسباب السابق ذكرها، لم ينجح البابا في وضع حد فاصل بين دعم الدولة في مواجهة الإرهاب، وهو واجب وطني، وبين دعم سياسات الحكومة التي أدت لتفاقم معاناة المواطنين. ولم يضع حدًا فاصلًا بين مرحلة قد يكون دوره فيها مطلوبًا ولا يمكنه الرجوع عنه، وبين مرحلة استقر فيها النظام السياسي. كان من واجبه أن يراجع حجم حضوره الإعلامي وتصريحاته ويختار بعناية شديدة ما هو مناسب للإدلاء بدلوه فيه وما هو ما يجب تجنب التعليق عليه.
ليس من دور البابا دعم طرفًا سياسيًا في انتخابات، أو توجهًا اقتصاديًا بعينه، كما ليس من دوره أن يقدم مبررات للغلاء وصعوبة الظروف المعيشية. كان عليه أن يدرك أن حجم ونوع تصريحاته يجب أن يتناسب مع التطورات التي يشهدها المجتمع.
على المستوى الكنسي، كان الوضع مختلفًا بعض الشيء. لا يمكن إنكار جهوده حتى ولو شاب بعضها القصور ولم تكتمل بالشكل اللازم. فقد عمل على مأسسة الكنيسة ووضع لوائح منظمة لاختيار رجال الدين وتنظيم عملهم، وكذلك كل المتصلين بالعمل الديني المسيحي، في إطار ترتيب البيت من الداخل.
قضايا شائكة
تسلم الأنبا تواضروس كرة نار ملتهبة، اسمها الأحوال الشخصية للمسيحيين؛ آلاف القضايا في المحاكم ولدى المجلس الإكليركي بسبب تعنُّت البابا الراحل شنودة الثالث في الاعتراف بالطلاق ومنح تصاريح الزواج الثاني.
قام أولًا بتقسيم المجلس الإكليركي إلى ستة مجالس فرعية، ووسع من تكوينه ليضم إضافة لرجال الدين إخصائيًا نفسيًا وقانونيًا، مما ساعد على حل جزئي للحالات التي كانت تنتظر الحصول على تصاريح الزواج الثاني.
وقدمت الكنيسة الأرثوذكسية بعض التسهيلات، مقابل تعنت الكنيستين الكاثوليكية والإنجيلية، للحصول على الطلاق في مشروع قانون الأسرة للمسيحيين المزعم تقديمه من الحكومة إلى البرلمان خلال الفترة المقبلة. وإن كان هذا الملف ما زال يحتاج لتدخل من الدولة لضمان حق المواطنين في الزواج والطلاق.
لم تستفِد الكنيسة من الكفاءات المسيحية التي ولدت من رحم ثورة 25 يناير وتصدرت المجال العام
كان تحسين العلاقات مع الكنائس العالمية والطوائف المسيحية المصرية من أبرز الملفات التي شهدت تغييرًا إيجابيًا في عهده. عمل الأنبا تواضروس على تعزير علاقة الكنيسة القبطية بالكنائس العالمية، ووقف التحريض الذي وصل حد التكفير من بعض المجموعات المحافظة التي تعادي الكنائس الأخرى، لدرجة أن أحد قساوسة القاهرة اعتبر في عظة مذاعة أن الزواج البروتستانتي زنا على حد وصفه، وهو ما رفضه البابا موجهًا بتعنيف هذا القس وتصحيح مفهومه.
ويواجه البابا في هذا السياق مقاومة شديدة من مجموعات تدعي أنها حامية الإيمان، وتستمد تأثيرها من الانتساب إلى البابا شنودة الثالث، ودعم من بعض الأساقفة، ومن المفارقات أن بعضهم جاء باختيار البابا تواضروس نفسه، وهو ما كان يتطلب تدقيقًا أكبر في عمليات الترشيح والرسامة.
ملفات منسية
في الوقت نفسه، لم يلق ملف مشاركة غير رجال الدين في إدارة شؤون الكنيسة الاهتمام الكافي، بل عطل عمل المجلس الملي المنتهية ولايته، ولم يدعِ إلى انتخاب تشكيل جديد للمجلس، ولم يقم البابا أو المجمع المقدس بإنشاء هيئة جديدة كبديل تملك صلاحيات فعلية لمشاركة فعالة من أعضاء الكنيسة من غير رجال الدين، في إدارة المؤسسات التعليمية والخدمية التي تملكها الكنيسة.
ولم تستفِد الكنيسة من الكفاءات المسيحية التي ولدت من رحم ثورة 25 يناير وتصدرت المجال العام، متبنية حقوق المواطنة، وهى إحدى النقاط التي تؤخذ على طريقة عمل البابا تواضروس الثاني.
إذا كان البابا تواضروس الثاني لا يملك شعبية البابا شنودة الثالث كواعظ مفوه وصاحب كاريزما، ولا يملك مكانة البابا كيرلس السادس كرمز للتواضع والصلاة. فالفرصة مواتية أن يصنع مساحته الخاصة التي يقدمها للناس؛ إصلاح الكنيسة والخطاب الديني مهمة تحتاج منه خطوات جريئة.
فالذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج.