لا يزال فيلم الملحد ممنوعًا من العرض بقرار جهة غير معلومة، رغم إجازته من الرقابة على المصنفات الفنية، وتنصل رئيسها من مسؤولية وقفه. أضفى عدم إعلان قرار المنع وأسبابه، وطبيعته هل هو مؤقت أم دائم، غموضًا حول طبيعة هذه الجهة وصلاحيتها، خصوصًا أن تدخلها جاء قبل عرض الفيلم جماهيريًا بأيام.
في سياق تفسير الأسباب يبرز احتمالان؛ أولهما مواقف مؤلفه الإعلامي والكاتب الصحفي إبراهيم عيسي من الإسلام السياسي ونقد التراث الديني، لا سيما الواردة في برنامجه مختلف عليه على قناة الحرة، بالإضافة إلى مشاركته في تأسيس مركز تكوين الفكر العربي الذي يركز على دراسة الموروث الديني. هذه المواقف محل اعتراض ونقد المؤسسات الدينية الإسلامية بشقيها الرسمي والشعبي، خاصة وأن عيسى يتهمها بالوقوف حجرة عثرة أمام إنجاز تجديد الخطاب الديني، الذي أعلنت مؤسسات الدولة تبنيه قبل أن يتوارى في الخطابات الرسمية وتصريحات المسؤولين.
أما الاحتمال الثاني، فيتعلق بقصة الفيلم التي تناقش قضية يعتبرها البعض حساسة، وهي الإلحاد كظاهرة ناتجة عن التطرف الديني، من خلال الطبيب يحيى (أحمد حاتم) الذي يتمرد على أفكار والده المتشدد (محمود حميدة).
صورٌ ذهنيةٌ متناقضة
لكن بغض النظر عن أسباب المنع، فإن الطريقة التي تتعاطى بها مؤسسات الدولة مع الإلحاد باعتباره نتيجة للتطرف، تصطدم مع صورة ذهنية أخرى ترسخها المؤسسات الدينية والسياسية عن الإلحاد، كظاهرة وافدة ممولة من الخارج، وعن الملحدين، كأفراد تمردوا على نمط التدين السائد، بما تعكسه هذه الصورة من مخاوف اتساع نطاق هذا التمرد ليهز استقرار هذه المؤسسات الأبوية.
تضع هذه الرؤية التي يقدمها الفيلم، ويشترك فيها قطاع من الكتاب والباحثين، المؤسسات الدينية في بؤرة النقد والتقصير من عدة زوايا. فهي وإن تحدثت كثيرًا عن رفض ممارسات وأفكار الجماعات المتطرفة والعنيفة، لم تقدم قراءة مختلفة للتراث الديني الذي تستند عليه هذه الجماعات، بالإضافة إلى الفشل في حل معضلة الإجابة عن تساؤلات لها علاقة بالعلم والتطور الإنساني، والتعامل مع الآخر الديني والنوعي والعرقي، والتقدم الهائل في منظومة حقوق هذه الأطراف.
رسمت المؤسسات الدينية صورةً ذهنيةً للإلحاد باعتباره ظاهرة حديثة وافدة إلينا مع ثورة يناير، في ظل السيولة السياسية وقتها وانفتاح المجال العام أمام الجميع للتعبير عن رأيه، وللملحد باعتباره شخصًا مغتربًا وجاهلًا تتحكم فيه غرائزه، لنضعه مع الإرهابي على نفس درجة الخطورة.
الملحد إنسان حر يملك إرادة أن يقرر اختياراته ويعلنها بدون ترهيب أو تخويف
يعتبر الدكتور محمد مهنا، مستشار شيخ الأزهر، أن من أنتج الإرهاب هو الإلحاد والكفر، وليس الدين الإسلامي، وأن من يمارسون الأعمال الإرهابية باسم الدين، ينفذون أجندة الإلحاد، وأن الدين الإسلامي بريء منهم ومن أعمالهم الإرهابية. في حين يرى وزير الأوقاف السابق مختار جمعة أننا "لا نستطيع أن نقضي على التشدد من جذوره إلا إذا اقتلعنا التسيب من جذوره، فموجات الإلحاد والتسيب والتطاول على الثوابت الراسخة للأمة تعدُّ زادًا ووقودًا للتطرف والإرهاب".
نظَّم الأزهر مسابقة سنوية بعنوان متسائل لماذا يلحدون؟ وأنشأت دار الإفتاء وحدة لمواجهة الإلحاد، بالإضافة إلى وحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللا ديني في مركز الأزهر العالمي للرصد والفتاوى الإلكترونية، فيما أصدرت وزارة الأوقاف عدة كتب للتحذير من مخاطر الظاهرة.
من يعود بالتاريخ إلى الفترة الليبرالية في مصر، خلال النصف الأول من القرن العشرين، يجد معركة بين اثنين من الكتاب عام 1937 عن هذه القضية، كتب إسماعيل أدهم لماذا أنا ملحد؟ ورد عليه محمد جمال الدين الفندي بكتاب لماذا أنا مؤمن؟ إذ كان المناخ السياسي والثقافي في مصر يسمح بذلك وقتها، دون أن يعتبر ذلك نيلًا من الإسلام.
ما أعنيه أن مصر عرفت وجود ملحدين منذ عقود طويلة، لكن أجواء ثورة يناير بما شهدته من حرية للإعلام الشعبي وفرت منصات لكثير من الشباب لعرض أفكارهم فيما يخص الأديان ونقدها، والتعرض لمفكريها وإرثهم.
لا يختلف موقف الكنائس المصرية عن المؤسسات الإسلامية الرسمية في التعامل مع الإلحاد ظاهرة وافدة تجب مقاومتها والرد عليها وعدم ترك أي مساحة لها، فلا حرية للمعتقد ولا حرية للتعبير عن الرأي عندها فيما يخص الأديان. لذلك، انتهجت هذه المؤسسات سياسة هجومية، ووضعت هذه القضية ضمن أولويات أجندتها، خصوصًا مع سهولة استخدامها لمغازلة المشاعر الدينية المتحفزة ضد أي نقد للتراث الديني.
خصص البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، عددًا من عظاته الأسبوعية للحديث عن الإلحاد، الذي اعتبره شكلًا من أشكال التمرد على الخالق والمجتمع والأسرة، ويدخل ضمن التقاليع الجديدة وأحد سلبيات العولمة. بينما أرجع الأنبا بنيامين أسقف المنوفية انتشار الإلحاد إلى الثورة، التي بدأت بفكرة سياسية وانقلبت إلى القضاء على الكبير أو الحكام، حتى وصلت إلى الله. وأُنشِئت خدمة اللاهوت الدفاعي للرد على الملحدين.
موقف المؤسسات السياسية
تعتبر المؤسسات السياسية الإلحاد خطرًا أيضًا، سواء لطبيعتها المحافظة، أو خوفًا على أدوارها المتنامية داخل المجتمع، التي تتطلب تعاونًا مع المؤسسات الدينية وتيارات الإسلام السياسي. وأعتقد أنها، وإن انزعجت من الجرأة التي أبداها بعض الملحدين في الظهور الإعلامي والتعبير عن أفكارهم ومواقفهم الدينية بحرية، استفادت من ظهور خطابهم.
انتهجت هذه المؤسسات طرقًا متعددة للتعامل معهم. فمن ناحية هي مستفيدة من هجومهم ونقدهم للمؤسسات الدينية التقليدية وللتيارات الإسلامية، وتسويق صورة النظام باعتباره ضامن مساحة من الحريات الدينية. ومن ناحية ثانية، استخدامهم كمساحة لشغل الرأي العام من خلال عقد مناظرات غير متكافئة في بعض البرامج ولا مانع من التحفيل عليهم وإهانتهم وطردهم إن لزم الأمر. حتى إن جامعة طنطا أعلنت عن جهاز لكشف الملحدين واعتبرتهم مرضى عقليين ونفسيين، وتمت معالجتهم. في حين أطلقت وزارة الشباب خطة قومية لمواجهة الإلحاد "في ضوء ما توليه من اهتمام وحرص على تواجدها ومساندتها للمجتمع المصري".
اللافت أن رئيس الجمهورية أعلن خلال أحد المؤتمرات قبل ثلاث سنوات عن احترام حرية عدم الاعتقاد، قائلًا "لو واحد قالي أنا مش مسلم ولا مسيحي ولا يهودي، ولا أي دين في الدنيا، إنت حر". لكن رغم ذلك، تزايدت الملاحقات الأمنية والقضائية للملحدين بمجرد التعبير عن رؤاهم، سواء انتقدوا الأديان علانية أو لا، باستخدام مواد ازدراء الأديان في قانون العقوبات، حيث نظريًا لا يوجد ما يجرم الإعلان عن الإلحاد، الذي يدخل ضمن سياق حرية الدين والمعتقد وفقًا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
يمكن القول إن خطاب الاستبداد السياسي القائم على قمع الحريات لا يقبل فكرة التمرد في المطلق، فهو يرسم حدود الرأي المتاحة، التي لا يمكن الخروج عنها، كما لا يمكن فصل خطاب مؤسسات الدولة حول الإلحاد عن السياق الأوسع من تصاعد خطاب النزعة الأخلاقية، الذي يوفر غطاءً لمنع الأعمال الأدبية والفنية من العرض، وتحديد الرسالة المقدمة للجمهور، وملاحقة فتيات التيك توك، التي جعلت مثلًا من نقابة المحامين جهةَ قمعٍ لحرية أحد أعضائها في التعبير، لمجرد إعلانه قبول المساكنة قبل الزواج، عندما أحالته للتحقيق الإداري وأخطرت النيابة العامة.
لا أعرف هل تعامَل الفيلم مع الملحد باعتباره خطرًا على الفرد والمجتمع والوطن، أو مريضًا يحتاج العلاج، أم اتخذ وجه نظر محايدة نحوه. لكن في جميع الأحوال فمن الظلم والقصور التعامل مع الملحد على أنه نتيجة للتطرف الديني، وبالمثل محاولة قياس مدى معرفته الدينية من عدمها، واتخاذ الصورة النمطية كمسلَّمات موحدَّة.
فالملحد إنسان حر، يملك إرادة أن يقرر اختياراته ويعلنها بدون ترهيب أو تخويف، وعلى مؤسسات الدولة أن تحترم هذه الحرية وتكفل حماية من يعيشون بها من التحريض والتمييز بسبب مواقفهم الدينية.