منشور
الاثنين 8 أبريل 2024
- آخر تحديث
الثلاثاء 9 أبريل 2024
تحل فترة الأعياد هذا العام في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية وإنسانية متأزمة، وموجات غلاء تطحن المصريين وتدفع قطاعات كبيرة منهم إلى الفقر والعوز نتيجة سياسات الدولة وتوجهاتها بخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، وتراجع الدعم بصورتيه النقدية والعينية. وفي هذا الوقت، تبرز أهمية العمل الخيري الذي يجسد التكافل الاجتماعي، ويحاول تخفيف معاناة الناس، وترميم الهوة بين ما يجب على أجهزة الدولة القيام به، وما تقوم به حقًا.
تقود المؤسسات الدينية الرسمية، سواء إسلامية أو مسيحية، مباشرة أو عبر الهيئات والجمعيات التابعة لها، هذا النوع من العمل الخيري عن طريق تقديم المساعدات المادية والعينية للمحتاجين، ومساعدة الأسر الفقيرة على مقاومة أعباء الحياة. فلم يعد دور المؤسسات الدينية، حتى في الدول العلمانية، مقتصرًا على شؤون العقيدة واللاهوت وتقديم الخدمات الروحية والدينية.
وفي الدول الفقيرة، تزداد الحاجة إلى هذا الدور الخيري، لمساعدة الناس على استكمال حياتهم بالحد الأدنى من حقوقهم، فيما يخص الخدمات الصحية والتعليمية والمعونات.
وإن كان هذا الدور كثيرًا ما يجد نفسه في مرمى انتقادات تيارات علمانية ومدنية، باعتباره يجسد تراجع مؤسسات الدولة المدنية عن أدوارها، ويعزز انتشار التيارات الدينية الراديكالية، وما ترتبط به من نسق ثقافي واجتماعي محافظ يظهر في نوع الملبس ونمط العلاقات الاجتماعية، والنظرة إلى الآخر الديني ومساحة التعامل مع حقوقه، كما يهدر حرية الفرد الذي يصبح أسيرًا لتوجهات الجهات التي يحصل على خدمات منها.
المعضلة المصرية
ما يزيد من معضلة التعامل مع هذا الدور في مصر، أنَّ المؤسسات الدينية لا تقوم بالعمل الخيري وتقدِّم الخدمات الاجتماعية فقط، لكنها، وفي ذات الوقت، تقدم الدعم وتوفر الغطاء للنظام الحاكم، من خلال أنشطتها وتصريحات قادتها الداعمة لسياساته الاقتصادية. كما تبرر أيضًا تداعيات هذه السياسات وما تنتجه من ظلم اجتماعي وغياب العدالة، وتطويع الدين من خلال النص والخطاب لخدمة سياسات معينة.
إذا لم تكن المؤسسات الدينية قادرة على نقد فشل السلطة فعليها الصمت وعدم تبرير هذا الفشل
دأبت السلطة السياسية في مصر على استخدام المؤسسات الدينية لتبرير وتمرير توجهاتها، سواء مع سياسات جمال عبد الناصر الاشتراكية، أو مع انفتاح السادات. وحاليًا، يظهر هذا التوجه بقوة مع القضايا الاقتصادية التي يُعدُّ بعضها محلًا للجدل والاختلاف. وعادة ما تأتي مواقف المؤسسات الدينية داعمة لسياسات الحكومة، وتُحمِّل الطرف الأضعف، صاحب الحقوق، المسؤولية عن هذه الأزمات، متجاهلة تمامًا من تسببوا فيها فعلًا.
لعبت المؤسسات الدينية متمثلة فى الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف، ودار الإفتاء، والكنائس الرئيسية الثلاث، الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية، أدوارًا في دعم السياسات الاقتصادية الحالية، وجمعت التبرعات لبعض الصناديق الحكومية، ودعت المواطن للرضا بالأمر الواقع. وتكفي نظرة لخطابها فيما يخص غلاء الأسعار لاستجلاء رؤيتها وتفسيرها للمشكلة، ومن المتسبب بها، ومن المسؤول عن حلها.
تُجمِع المؤسسات الدينية على أنَّ الأزمة الحالية سببها احتكار التجار والتلاعب بالأسعار، ومن ثَمَّ فهي مشكلة صَنعها المواطن، ويتضرر منها المواطن، وبالتالي حلها أن يدرك المواطن رفض الدين لهذه الممارسة فيكف عنها، وهو تحليل قاصر ومغلوط ومضلل.
لنضع كل أمام مسؤولياته
تستبعد رؤية المؤسسات الدينية دور مؤسسات الدولة، واضعة السياسات الاقتصادية، ومسؤوليتها في تخفيف تداعياتها، ومساعدة الناس على تجاوز آثارها. كما تتجاهل أدوار مؤسسات الرقابة على الأسواق، وضمان المنافسة ومنع الاحتكار، وكلها أدوار مرجعيتها نصوص دستورية وقانونية تضمن حقوق المواطن.
كما يبرر تحليل المؤسسات الدينية استمرار السياسات الاقتصادية الفاشلة، ولا يشير من قريب أو بعيد للتوظيف الأمثل للموارد. فبالرغم من أنَّ وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر أكدت أهمية "إعمال فقه الأولويات فى تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، والقضاء على البطالة، وبما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته في الجوانب الاقتصادية والبرامج الاجتماعية". جاءت تصريحات مسؤولي المؤسسة على النقيض، تدعم رؤية الحكومة بأنَّ سبب الأزمة هو احتكار السلع، وبالتالي التجار هم المسؤولون عنها.
يوصي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر التجار والبائعين بأن "يتقوا الله ويعلموا أنَّ احتكار السِّلَع ورفع الأسعار جُرمٌ عظيمٌ يفسد على النَّاس حياتهم ومعيشتهم". أما مجمع البحوث الإسلامية فيعتبر "لجوء البعض، خاصة من فئة التجار، إلى استغلال أوقات الأزمات لتحقيق مزيد من الأرباح وتضخيم ثرواتهم، والمتاجرة بآلام الناس ومعاناتهم، هو سلوك مخالف لما دعا إليه الدين من التراحم والتكافل والإحساس بالآخرين".
وفي نفس السياق، أكدت فتوى عن دار الإفتاء أن "من يستغل ظروف الناس ويحتكر السلع ويبيعها بأسعار مبالغ فيها فقد ارتكب محرمًا؛ للضرر الناجم عن استغلاله احتياج الناس إلى مثل هذه السلع".
أما الأنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، فلم يترك مناسبة وإلا دافع خلالها عن توجهات الحكومة السياسية والاقتصادية مجددًا دعمه لها، وكأنه أحد أعضائها. هو يرى أنَّ العاصمة الإدارية دليل على نجاح مؤسسات الدولة في مواجهة الفقر، وتتفق رؤيته معها بأن أسباب الأزمة خارج عن نطاقها "مصر دولة كبيرة السكان ومواردها محدودة، وهناك تحديات حولنا من كل النواحي تواجهها الدولة المصرية، فنحن مرتبطين بالعالم أجمع".
ماذا نريد من مؤسساتنا؟
في هذا الوقت الصعب، الذي تزداد فيه معاناة شرائح كثيرة من المجتمع، بعضها لم يُصنَّف حتى وقت قريب من المحتاجين، تعد الخدمات الخيرية التي تقدمها المؤسسات الدينية مطلوبة وضرورية وعملًا إيجابيًا، على أن تكون مقدمة للجميع دون تمييز، فلا تركز على المرضي عنهم من المؤسسة دون غيرهم، سواء كانوا من دين واحد أو طائفة واحدة، من مصر أو مقيمين فيها، هى خدمة للإنسان بغض النظر عن انتماءاته المختلفة.
وبطبيعة الحال، هذا الدور يفترض أن يكون مؤقتًا، ومرتبطًا بأوضاع اقتصادية واجتماعية موقتة، فعلاج الأزمات الاقتصادية ليس من دور المؤسسات الدينية، حتى وإن قدمت برامج تأهيلية وتدريبية أو برامج التوظيف. دور مؤسسات الدولة هو ضمان الفرص المناسبة والعادلة للمواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، حتى يترقوا اجتماعيًا ويحسنوا من ظروف معيشتهم.
ولكن إذا لم تكن المؤسسات الدينية قادرة على نقد توجهات مؤسسات الحكم، ولا التطرق إلى فشلها في أداء أدوارها الدستورية في خدمة المواطن ورفع الظلم عنه، فمن الواجب عليها الصمت وعدم تبرير هذا الفشل أو تسويق سياسات الإفقار.
ليس مطلوبًا أن تكون مؤسساتنا الدينية مؤسسات تحرر وطني تؤمن بلاهوت التحرير، فقط عليها ألَّا تتحول إلى صوت وسوط للظلم والقهر الاجتماعي.