تصميم: المنصة

هل نسمع ناقوس الخطر القادم من "مائدة الفيوم"؟

منشور السبت 22 مارس 2025

حين كتبت أقول"من الفيوم جاءت الإشارة، فاعتبروا قبل فوات الأوان" تجمَّع الذباب الإلكتروني على فيسبوك وإكس وانبرى في وصلات سباب وهم يبررون ما جرى ويشرحونه، لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا سوى الهروب من مواجهة الحقيقة، التي تقول إن الأوضاع الاقتصادية في مصر تزداد صعوبة، وأن كل يوم يمر يسقط تحت خط الفقر آلاف الناس.

بدأ الموضوع بمائدة إفطار نظمتها المحافظة بالتعاون مع التحالف الوطني والجمعيات الأهلية، وأطلقت قبلها دعاية عارمة عن التقاء القيادة السياسية والأمنية للمحافظة بالأهالي، والإنصات إلى شكاواهم وآرائهم، وفُتحت الدعوة فصارت عامة، وقيل إنها لـ"عابري السبيل"، فتطاير الخبر في ربوع المحافظة، حتى وصل إلى ريفها، وهنا كان التحول في المشهد.

ولم يكن هذا في حد ذاته جديدًا، بل رأيناه في مناسبات أخرى، سواء كان التنظيم رسميًا أو شعبيًا، في أماكن مفتوحة أو مغلقة، في ساحات وشوارع أو قاعات مختلفة المستوى والسعة، لكن ما استجد في الفيوم، ولا يجب أن يمر دون اعتبار، هم هؤلاء الذين زحفوا جماعات من قرى الفيوم إلى المدينة، وأقول هنا "جماعات" بكل ثقة، لأن كثيرًا من الزاحفين لم يكونوا فرادى بل أسر، وجدت فرصة لتناول وجبة إفطار مجانية، في حضرة كبار المسؤولين في المحافظة، وهذا له اعتبار لا يمكن نكرانه في ذهنية عموم الناس.

ما يلفت الانتباه أكثر في موضوع الفيوم، ولا تريد السلطة والمنتفعون منها والذباب الإلكتروني الذي توجهه الاعتراف به، أن هناك من تحركوا من القرى إلى المدينة لتناول وجبة إفطار على "مائدة رحمن"  أو "مائدة إفطار"، أيًا كان المسمى.

معروف أن "موائد الرحمن" ظاهرة مدينية، أي تقام بالمدن، لأن الريفيين يمكن للواحد منهم أن يموت جوعًا في بيته ولا يخرج ليأكل عند غيره على سبيل الصدقة، يعتبر القرويون هذا من قبيل العار، ولذا لن يستجيبوا له هكذا في العراء.

هذا الموضوع أخطر من أن يتم تجاهله أو العناد بشأنه والحل ليس توسيع الصدقة

يمكن لقرويين أن يلبوا دعوة ميسور منهم على إفطار رمضان في بيته، ويُعدِّون هذا تكريمًا لهم، ويحدث مرة واحدة طوال الشهر. أما "مائدة رحمن" في الشارع، أو حتى في مكان مغلق، فلن يلتفتوا إليها، بل سيعتبرها بعضهم من قبيل الإهانة، لأن البديل متاح ومستور، وهو توزيع طعام على بيوت الفقراء سرًا، ولهذا يقبل الناس في الريف "شنط رمضان" و"لحوم عيد الأضحى" من أغنياء الريف ومستوريه، وبعضهم يصر على أن يرد على الأعطية بأخرى على قدر استطاعته، إذ لا يقبل أن تكون صدقة، إنما هدية ترد، حتى لو كان هذا رمزًا.

أذكر هذا كريفي يعرف تقاليد المجتمع القروي وقيمه، ومن هنا أقول ليس شيئًا يمكن تجاهله أبدًا أن يزحف ريفيون إلى المدينة لملء بطونهم على مائدة رحمن، ويتجاهل كل من يذهب منهم ليأكل على مثل تلك المائدة أن أمره قد يفتضح إن رآه غيره من أهل القرية، أو القرى المجاورة.

سيقول قائل هنا إن الأمر لا يتعلق بالطعام إنما بلقاء المحافظ، لبثه شكوى أو تقديم طلب. ومثل هذا التبرير يدعو إلى التعجب، لأنه، من حيث لا يدري أصحابه، يثبت أن باب المحافظ مغلق أمام الناس، أو لا توجد آلية حقيقية للتواصل مع شكاواهم. كما يتجاهل أن الناس ليسوا أغبياء حتى يعتقدوا أن لقاء المحافظ سيكون متاحًا بهذه السهولة وسط الحشود، وبين حرسه أو رجال أمنه.

لا أعزِل ما وقع في الفيوم عن تراجع قدرة قطاع من المصريين على الإنفاق على الغذاء، بوصفه من أولويات الحياة مع الدواء والإيواء والكساء، في ظل انهيار قيمة العملة المحلية في بلد يستورد أغلب ما يأكله ويشربه ويرتديه، ولا يلوح في الأفق ما يُبيِّن أن هذه المشكلة في طريقها إلى الحل قريبًا.

أعرف أن السلطة الحالية عملت على تطبيب بعض العوز، لتعويض الشبكة الخيرية التي كانت الجماعات الإٍسلامية تقيمها وتوظفها لصالح مشروعها السياسي، وأن هذا تم من خلال مشروعات مثل "تكافل وكرامة" و"تحالف الجميعات الخيرية" وغيرها، لكن التضخم الذي صاحب فشل السياسات الاقتصادية جعل ما تقدمه الدولة لا يسد رمق أحد.

الدين في مصر، سواء الإسلام أو المسيحية، خلق ما أطلقت عليه "المجتمع العميق" في وجه "الدولة العميقة"، وهذا ما فصلت جانبًا منه وحللته بإسهاب في كتابي المجتمع العميق.. الشبكات الاجتماعية والاقتصادية للجماعات الأصولية في مصر، الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2017، وبينت كيف أرست جماعة الإخوان المسلمين، وبعض الجمعيات السلفية، القاعدة الراسخة للمجتمع من خلال العمل الخيري، الذي جعل فئات اجتماعية تعتمد على هذه الجماعات في تطبيب بعض عوزها.

وحين صادرت السلطة الحالية أموال الإخوان بعد إسقاط حكمهم، وعملت على تقليم أظافرهم المادية التي كانوا يقومون بتعبئتها كمورد مهم في التنافس والتباري السياسي والاجتماعي مع الآخرين، الذي يتردَّى أحيانًا إلى صراع مفتوح، كان عليها أن تفكر في تعويض الفئات الاجتماعية التي كانت تعتمد على الجماعة، وقدمت في البداية ما يعوض هذا، لكن الخرق اتسع على الراتق، ولم يعد مشروع "تكافل وكرامة" أو ما تجود به الجمعيات الخيرية قادرًا على تلبية احتياجات مجتمع يزداد فقرًا.

وهنا يجب أن أوضح أنه حتى لو كان الإخوان وبعض الجمعيات السلفية لا تزال تعمل كما كانت في الماضي، فلم يكن بوسعها أن تستجيب لاحتياجات المصريين اليوم، فهناك عوامل أخرى أكثر أهمية يجب أن تطرح وتناقش في معرض الحديث الجاد عما يطبب عوز المصريين.

هذا الموضوع أخطر من أن يتم تجاهله أو العناد بشأنه، والحل طبعًا ليس توسيع الصدقة، إنما خلق فرص عمل حقيقية لقطاع أوسع من المصريين.

إن مصر ليست فقيرة لكنها تنتظر ترتيب الأولويات وحسن إدارة الفرص، وترك من يعرف يتملك وينتج ويضيف.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.