هناك ظواهر اجتماعية يمكن أن نقيس بها التغيُّرات التي طرأت على التركيبة الطبقية في مصر، إذا أعملنا فيها أدوات البحث الميداني، وبعضها يبوح بأسرار تفيد في هذا الاتجاه بمجرد الرؤية، أو الملاحظة دون مشاركة، بل يمكن حتى للإنسان البسيط المنخرط في أوساط الناس أن يدركها.
من هذه الظواهر "موائد الرحمن"، وهي تقليد مصري ممتد عبر الزمن، لا تخلو منها مدينة، فيما تحوُل التقاليد الاجتماعية في القرى دون وجودها، إذ يفضل الناس هناك أن يتضوروا جوعًا عن أن يجلسوا إلى مائدة ثري أو ميسور، فيراهم أهل القرية، وهم يعرفون بعضهم بعضًا. رقيقو الحال في القرى يقبلون المساعدات الخفية، عينيةً أو نقديةً.
أسرٌ على الموائد
اعتدت منذ سنوات أن أنظر إلى "موائد الرحمن" نظرة الباحث في علم الاجتماع السياسي، كونها تحمل الكثير من المعاني التي تمس هذا العلم، فهي انعكاس لأشياء كثيرة منها التماسك الاجتماعي، والتعاون والتكافل من منظور ديني، وحال الفقراء الذين يجدون في شهر رمضان فرصة لتناول وجبة يومية، قد لا يَقدِر بعضهم على توفير مثلها، وهذا كله يؤشر على انعكاس السياسات الاقتصادية على أوضاع الطبقات الاجتماعية في البلاد، سواء القادر الذي يعد المائدة، أو المحتاج الذي يجلس إليها.
بعض الجالسين على هذه الموائد أُسرٌ كاملةٌ من ضحايا السياسات الاقتصادية
لهذا، ركبت سيارتي لأطوف على بعض "موائد الرحمن"، فانتبهت إلى أن عدد الذين أحسبهم من فئة الموظفين أو حتى من كانوا ينتمون سابقًا إلى الطبقة الوسطى باتوا من روادها الدائمين، ولم يعد بعضهم يجد حرجًا أو خجلًا من الجلوس إليها، حتى لو رآه جيرانه أو معارفه.
كان في الموائد التي طفت بها رجال مهندمون يجلسون في انتظار الإفطار؛ بعضهم يقرأ القرآن أو في صحيفة أو كتاب، ليروضوا الوقت العصيب حتى يحين موعد الإفطار. كذلك نساء وفتيات يخبرنا مظهرهنَّ أنهنَّ ممَن كانوا في السابق ناسًا مستورين.
ليس جديدًا أن تجلس إلى مائدة الرحمن أسر كاملة، يكون عائلها موظفًا بسيطًا، وقد عشت تجربة دالة على هذا في عام 1992. كنت يومها لا أزال أعزبَ، وتأخرت في مكان عملي، وأذن المغرب وأنا في الأوتوبيس، فتوقف سائقه أمام إحدى موائد الرحمن في شارع محيي الدين أبو العز في المهندسين، وأبلغ الركاب بأنه سيتناول إفطاره هنا، وعلى من يرغب أن يتبعه.
تركت مقعدي ولحقت بمائدة مُعدَّة لستة أفراد، وجدت عليها أصنافًا جيدة من الطعام. وأثناء تناول طعامي انتبهت إلى أن من يجلس معي زوجان وثلاثة من أولادهما. تصرف الرجل وكأنه في بيته، وأنا ضيفه، فطلب من زوجته أن توزع قطع اللحم علينا، وكذلك صينية صغيرة من البسبوسة. ودون أن أسأله وجدته يخبرني، بعد أن دار حديث ودي بيننا، بأنه موظف يسكن في إمبابة ويأتي إلى المائدة يوميًا، لأنها تتيح له طعامًا ليس بمقدوره أن يشتريه يوميًا في بيته. ومنه عرفت أنها مائدة الفنانة فيفي عبده.
لكنَّ وجود أمثال هذا الموظف على "موائد الرحمن" راح يزداد بمرور الوقت، حتى أصبح اليوم، مع الارتفاع غير المسبوق للأسعار، يقتحم العين اقتحامًا. لن تحتاج بذل جهد لإدراك أنَّ بعض الجالسين على هذه الموائد أُسرٌ كاملةٌ، من ضحايا السياسات الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم، لتعجز رواتب وأجور طبقة عريضة من المصريين عن ملاحقتها، من بينهم موظفون كانت رواتبهم تكفي احتياجاتهم بالكاد قبل سنوات.
إفقار منظم للجميع
حكى لي رئيس جمعية خيرية في مصر أنَّ موظفًا متقاعدًا ترقَّى في السلم الوظيفي الحكومي إلى درجة "مدير عام" في إحدى الوزارات، اتصل به قبل أيام ليخبره أنه بعد أن أنفق معاشه على شراء أدوية الأمراض المزمنة التي يعاني منها، صار بيته خاليًا حتى من الخبز. وحكت لي قائمة على جمعية خيرية أخرى أنها حملت "شنط رمضان" إلى بيوت موظفين، ومنهم صحفيون لهم أعمدة بالصحف، وكانت مترددة خوفًا من أن تُحرجهم ويردوها، لكنهم أخذوا منها، في امتنان، ما أعطتهم.
هناك إفقار منظم للجميع إلا قلة ضيقة جدًا منتفعة ومنتفخة للأسف صارت عمياء
وحكى لي صاحب محل لبيع قطع غيار السيارات كائن تحت برج سكني، أنَّ بعض ساكنيه، وهم موظفون كبار، يرسلون أبناءهم أحيانًا لاستلاف مبلغ مائتي جنيه إلى حين ميسرة، وفهمت منه أنهم كانوا من قبل في كفاية، لكن أناخ عليهم الدهر.
وأبلغني كثيرون حين حدثتهم عما رأيت أنهم لاحظوا تضاؤل، بل اختفاء، ظاهرة كانت شوارع مصرية كثيرة تعرفها وقت آذان المغرب، حيث كان يقف بعض الشباب ليوزعوا علب طعام أو عصائر أو تمرًا وفواكه على المارة، خصوصًا سائقي سيارات الأجرة.
وتراجع عدد الأسر التي كانت تهبط قبيل المغرب إلى المطاعم متزاحمة على موائدها في الإفطار والسحور. وإذا كانت هناك أسر لا تزال قادرة على الاستمرار في هذا التقليد، فإنَّ عدد مرَّاته تراجع، في ظل الموازنة بين نفقة إفطار هؤلاء في بيوتهم وأخرى في المطعم.
وعرفت من عمال في مطاعم كبرى، ممن يعملون على تقديم الخدمة للزبائن في موعد أذان المغرب، أن أصحابها قللوا كمية الطعام التي تقدَّم إليهم، وبعضهم بات يخصم جزءًا من تكلفتها من أجورهم. وهناك من منح نسبة من عماله راحات لم يطلبوها، لتراجع المبيعات حتى في شهر رمضان.
على التوازي، لاحظت أن موائد المقتدرين والمستورين ممن اعتادوا عزومة أصدقاء أو أقرباء على الإفطار صارت متقشفة جدًا، قياسًا إلى ما كانت عليه الحال في سنوات سابقة. وشيء طيب أن يقتصد الناس في الطعام والشراب عن اقتناع بالاعتدال ومقت التخمة، وليس عن ضيق ذات يد أو فاقة أو نزولًا على الارتفاع الكبير في الأسعار.
وصارت بعض المؤسسات والهيئات تفضل دعوة بعض المنتسبين إليها، والمتعشمين فيها، إلى السحور بدلًا من الإفطار، لأنَّ الأول أقل تكلفة بالطبع من الثاني. وفي السحور نفسه صارت الأطعمة التي تقدم أقل حجمًا وجودة من تلك التي كانت توضع أمام الآكلين قبل سنين.
في المقابل، رأينا على السوشيال ميديا، صور موائد تضج بالترف والبذخ والإفراط والاستعراض الممجوج، وهي لبعض الذين انتفخت جيوبهم في السنوات الأخيرة، من بين المنتفعين بإفراط من سياسات السلطة الحالية.
كان المصريون في سترة، حيث طبقة وسطى لا بأس بعدد المندرجين في شرائحها الثلاث، وفقراء يجدون أبوابًا تُيسِّر عليهم الحياة، في ظل تعاون وتكافل هما سمة اجتماعية راسخة في بلادنا، لكنَّ السياسات الاقتصادية للسلطة الحالية تؤدي إلى إفقار منظم للجميع، إلا قلة ضيقة جدًا منتفعة ومنتفخة، وللأسف صارت عمياء، لا ترى الأغلبية الكاسحة من الشعب.
هذا، وبمناسبة شهر رمضان، أشبه باستطلاع اجتماعي أوَّلي، أو استكشاف مبدئي، يحتاج إلى توسع في الحالات والعينات، وطرح استبيان أو إجراء مقابلات للخروج بنظرة أكثر دقة من الناحية العلمية، وهذه مسؤولية المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الآن، وهو مؤسسة علمية حكومية معتبرة، لا سيما في ظل التضييق الأمني على أي باحث مستقل يتواصل مباشرة مع الجمهور ليستطلع رأيه، أو يقف على حاله، ويعرف بعض مآله.