يبدأ اليوم الرئيس عبد الفتاح السيسي ولايته الثالثة، لستة أعوام أخرى، في ظروف داخلية وإقليمية وعالمية شديدة الصعوبة، تتطلب تعاملًا مختلفًا جذريًا عما شهدناه في السنوات العشر الماضية، لتجنب الوصول إلى نفس الأزمة الاقتصادية التي استدعت تكاتف حلفاء مصر الإقليميين والدوليين لتجنيب الاقتصاد المصري الإفلاس، في ضوء الحاجة للدور المصري للتعامل مع الآثار المترتبة على العدوان الإسرائيلي على غزة، والمتوقع امتدادها لسنوات.
وفي مقدمة الدروس التي على النظام أن يتعلمها من تجربة السنوات العشر الماضية، أنَّ الشأن الاقتصادي في مصر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشأن السياسي. وأنَّ النظام لو كان أبدى حرصًا على بناء دولة المؤسسات بدلًا من الانفراد بالقرار وتركه في يد الرئيس وحده، لما كنا سنصل بالضرورة لتلك النقطة التي ننتظر فيها معجزة من السماء لإنقاذ اقتصادنا من عثرته.
صحيح أنَّ المسؤولين سارعوا إلى التأكيد على أنَّ الاقتصاد خرج من عثرته مع بدء تدفق 57 مليار دولار إلى البنك المركزي، من صفقة رأس الحكمة الإماراتية وقروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك لم يُطمئن مخاوف غالبية المصريين بألَّا تحسن هذه الأموال مستوى معيشتهم، وتمكنهم من تغطية احتياجاتهم الأساسية وتكبح جماح الأسعار.
فبينما كانت الحكومة تعلن أخبارها السارة بشأن صفقتي رأس الحكمة وقرض الصندوق، كانت قيمة الجنيه تنخفض لمستويات تاريخية أمام الدولار، ما يبشِّر بزيادات جديدة في الأسعار، وأسعار المحروقات ترتفع، بما في ذلك الديزل وأنابيب البوتاجاز.
رئيس لا حكومة الحاخام
تفعل حكومتنا السَنيّة بنا ما فعله الحاخام اليهودي بصاحب البقرة في القصة الشهيرة، عندما اشتكى له رجل من أنَّ منزله مزدحم للغاية ولا يطيق العيش فيه، فطلب منه أن يأتي ببقرة لتعيش معه داخل المنزل. وعندها أصبح العيش مستحيلًا، فعاد الرجل للحاخام يطلب منه إعادة البقرة إلى مزرعتها، وعندما سأله بعدها عن أوضاعه، عبَّر عن سعادته البالغة لأن المنزل أصبح أكثر اتساعًا.
قبل صفقة رأس الحكمة وإعلان زيادة قرض الصندوق من 3 إلى 8 مليارات دولار، بلغت الأسعار حدودًا جنونية، ودخلنا مرحلة الدولرة حيث ظهرت دعوات لاستخدام العملة الصعبة بدلًا من الجنيه لتسعير وبيع السيارات والعقارات، خاصة بعدما تجاوز الدولار في السوق السوداء سبعين جنيهًا، بينما كان سعره الرسمي في حدود الثلاثين.
ما لم ترتفع قيمته بنفس معدلات تدهور الجنيه هي أجورنا الهزيلة أصلًا، نحن المنتمين للطبقة المتوسطة بكل شرائحها
من الناحية الرسمية، أصبح الوضع الآن أفضل بعدما استقر سعر الدولار بين 46 و50 جنيهًا، ولكن تبقى حقيقة أنَّ عملتنا المحلية فقدت نحو 40% من قيمتها خلال عامين، بعدما فقدت في مارس/آذار 2022 نحو 50%، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 نحو 50%.
عندما تولى السيسي منصب الرئاسة، كانت قيمة الدولار نحو تسعة جنيهات. وبعد التدهور الحاد والسريع في قيمة العملة المحلية بنحو 140% خلال ثمانية أعوام، نجد هناك من يشكر الحاخام على توقف سعر الدولار عن الارتفاع.
ما لم ترتفع قيمته بنفس معدلات تدهور الجنيه هي أجورنا الهزيلة أصلًا، نحن المنتمين للطبقة المتوسطة بكل شرائحها. فإذا كان دخلي عام 2014، بعد أكثر من ثلاثين عامًا من العمل نحو عشرة آلاف جنيه تعادل حينها 1250 دولارًا، وأصبح اليوم بإضافة الزيادات والعلاوات والمنح التي حصلنا عليها في السنوات العشر الأخيرة 15 ألف جنيه مثلًا، فإن قيمته الآن تساوي ثلاثمائة دولار فقط.
ولهذا السبب لا يستطيع أغلب المصريين التعايش مع الغلاء الفاحش، ويضطرون لتخفيض استهلاكهم من البروتينات وكميات الطعام عمومًا، ونقل أبنائهم إلى مدارس أقل تكلفة وجودة، ويتخلون عن حلم قضاء عطلة صيف كل عام أو شراء ملابس جديدة، بجانب الرعب المستمر من أيِّ عارض صحيٍّ مفاجئ، يستنزف علاجه بشكلٍ لائق أموالًا طائلة.
أولوية تحسين المعيشة
هذا هو ما أتمنى أن يلتفت الرئيس إليه بشكل رئيسي خلال ولايته المقبلة؛ تحسين مستوى معيشة المواطنين، وإدراك أننا، كمصريين، لم نعش طوال تاريخنا الحديث أيَّ فترة رخاء تجعلنا مطالبين بتحمل المزيد من التقشف والصبر.
الكثير من مشاريع السنوات الماضية كان من الممكن تأجيلها لو تمت مناقشتها
ننبهر جميعًا بحجم المشروعات والمدن الجديدة والموانئ والمطارات وضرورة تهيئة البنية الأساسية لاستقبال المستثمرين. ولكن في منطقتنا المضطربة دائمًا وأبدًا، فإنَّ هذه المشاريع الطموحة ليست بالضرورة أولوية أغلب المواطنين، ولن تتحقق لهم منها أيُّ استفادة مباشرة على المستوى القريب والمتوسط.
كما أن الاضطرابات والحروب التي تشهدها المنطقة لن تجعل مصر في أيِّ وقت قريب جاذبة للاستثمارات بالحجم الذي يبرر كلَّ ما أُنفق من مليارات الديون، لتمويل المشروعات الكبرى والطموحة على مدى السنوات العشر الماضية، التي استمر خلالها اعتماد الاقتصاد على المصادر الريعية للدخل، مثل السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج، وكلها مصادر غير مستقرة.
نرغب في ولاية الرئيس الجديدة بدرجة أكبر من المشاركة في اتخاذ القرارات المهمة المتعلقة بمستقبل بلدنا واقتصاده وأولويات الإنفاق، فلم يكن ضروريًا أن نصل إلى مرحلة التهديد بالإفلاس لنتعهد لصندوق النقد الدولي بتجميد الإنفاق على ما يسمى بالمشروعات القومية لكي نحصل على قرض جديد.
ولا يحتاج الأمر خبيرًا للتأكيد على أن ما تحتاجه مصر هو قاعدة صناعية وزراعية صلبة تستطيع الصمود بدرجة أفضل في مواجهة التقلبات الخارجية، وألّا نبقى رهائن لما يحيط بمنطقتنا من تغيرات.
الكثير من السياسات والمشاريع التي أُقرَّت في السنوات الماضية كان من الممكن تأجيلها، أو إلغاؤها من الأساس، لو كان لدينا انفتاح سياسي يسمح بمناقشتها، ولو كان لدينا برلمان حقيقي يأتي عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، ولو لم تتم السيطرة على كافة أوجه الحياة العامة، على رأسها الأحزاب السياسية والإعلام بزعم أن كل هذه الجوانب مرتبطة بالأمن القومي.
يتحقق الأمن القومي عندما يتمتع المواطنون بحرياتهم الأساسية، وعندما نشعر أننا شركاء في القرارات الكبرى التي يتم اتخاذها لأننا نحن من يدفع دائمًا ثمنها من قُوتنا اليومي ومستوى معيشتنا وحق بناتنا وأولادنا في مستقبل أفضل من حاضرنا.
هذا هو ما أتمنى أن يضعه الرئيس في اعتباره في ولايته الثالثة والأخيرة، وفقًا للدستور.