المنصة
تصميم أحمد بلال

تحرير السياسة خيرٌ من تحرير الجنيه

منشور الأحد 24 مارس 2024

في كل الضجة التي أحدثتها الخطوات المالية الأخيرة، بدايةً من صفقة رأس الحكمة مرورًا بتحرير سعر الصرف والضربات ضد السوق السوداء، ثم قرض صندوق النقد الدولي، ما يؤكد احتياجنا إلى الانتقال من الإصلاح المالي إلى الاقتصادي، ومن مواجهة الأزمات الاقتصادية بإجراءات مؤقتة إلى الخطط العلمية للتنمية الشاملة والجادة، ومن سياسة رد الفعل إلى سياسة المبادرة بالتخطيط والرؤية، والمؤكد أنَّ كل هذا يبدأ بالتحول من تحرير الجنيه إلى تحرير السياسة.

بكلِّ الحسابات الجادة، فإنَّ أيَّ إصلاح اقتصادي لا يبدأ من السياسة، ولا يرى الأزمة جزءًا من مشكلة سياسية أوسع، هو إهدار للجهد والطاقة وتعميق لأزمات المجتمع، واستمرار في إضاعة فرص التقدم واللحاق بالعصر.

بمعنى أوضح؛ لن نخطو خطواتنا الأولى على درب التنمية الاقتصادية بمعزلٍ عن قواعد الشفافية والرقابة والمساءلة والحكم الرشيد، وكلها قواعد تنتمي لعالم السياسة، وترتبط ارتباطًا كليًا بقواعد عصرية وديمقراطية الحكم والإدارة، فالاستقرار والتطور السياسي يساعدان على التقدم الاقتصادي، الذي يعززهما بدوره.

في العالم الحديث، لا مجال لحرية اقتصادية مع استبداد سياسي، ولا نجاح يمكن تحقيقه في ظل معادلة تمنح الحرية لرأس المال وتحرم منها المواطنين والإعلام والأحزاب وكلَّ قوى المجتمع. ثم إن الزمن بمفاهيمه التي ترسخت ينظر إلى الحكم الفردي المطلق باعتباره أحد عوائق الاستقرار، وأحد مخاوف الراغبين في الاستثمار، وإلى تحرير المجال العام من القيود باعتباره التمهيد الأساسي لبيئة اقتصادية ناجحة.

والمؤكد أن تحرير السياسة يبدأ بخطوتين على درجة كبيرة من الأهمية، هما الإعلام الحر والبرلمان المنتخب، الذي يراقب السلطة التنفيذية بشكل جاد وفعال.

حرية الإعلام وملاحقة الفساد

يرتبط النجاح الاقتصادي بتحرير السياسة ارتباطًا وثيقًا، يبدأ بتحرير الإعلام من القيود، ورفع الحصار عنه، وعدم التدخل في شؤونه أو تهديده بالحجب، والخلاص من سيطرة الدولة عليه وإغراقه في قواعد المنع.

وفي علم الاقتصاد السياسي فإنَّ حرية الصحافة والإعلام تقلل الكُلفة الاقتصادية للفساد، عبر كشف وقائعه وتقديمها للرأي العام، وللمسؤولين بالتبعية، لتصبح من أهم أدوات تحقيق الشفافية في المجتمع، ومن معايير نجاح السياسات الاقتصادية، فلا يمكن أن ينجح الاقتصاد في العتمة، حيث يسود ظلام المعلومات والمعرفة.

والمؤكد أن حرية عمل الإعلام هي جزء من أي محاولة لخلق مناخ عام صحي وخالٍ من الفساد؛ هذا الفساد الذي يعمل باطمئنان وبلا خوف من ملاحقة، في غياب الرقابة والمساءلة، فيهدر الموارد، ويبدد المال العام. لذلك فإن الأجواء الشفافة التي توفرها الصحافة الحرة تصب في نهاية المطاف لصالح المجتمع وحقه في المعرفة.

غلاف كتاب "شبكات السلطة والمال.. أسرار وكواليس تعارض المصالح"، ميرڤانا ماهر، دار ريشة للنشر والتوزيع (2023)

في كتابها المهم شبكات السلطة والمال، الصادر عن دار ريشة للنشر عام 2023، ترصد الزميلة الصحفية والباحثة الاقتصادية ميرڤانا ماهر ما يؤكد الحديث عن التكلفة الاقتصادية لعتمة المعلومات، والأضرار المترتبة على القيود المفروضة على الإعلام.

تتأمل ماهر في الكتاب كواليس صناعة واتخاذ القرار في مصر "والذي غالبًا ما يكون نابعًا من دوائر النفوذ، هذه الدوائر تستشري فيها ظاهرة تعارض المصالح"، وهي الظاهرة التي يمكن أن يكون أبسط تعريف لها هو "الوضع الذي تتأثر فيه موضوعية واستقلالية صانع القرار سواء موظفًا عامًا أو مسؤولًا في القطاع الخاص بمصلحة شخصية مادية أو معنوية تنحرف فيه المصلحة العامة لصالح الخاصة".

ويمضي الكتاب المهم في تأكيد أن مصر عرفت "ظاهرة تعارض المصالح قبيل ثورة يناير بسنوات، وأطلق عليها مجازًا اصطلاح زواج السلطة بالمال، وهو الذي شغل بال السياسيين واهتمام القانونيين حينها مع صعود نجم رجل الأعمال أحمد عز وتوليه منصب أمين تنظيم الحزب الوطني"، وتضيف "بعد الثورة كثر الحديث عن تعارض المصالح، مع التأثيرات الخطيرة للعلاقة الوثيقة بين النظام الحاكم ورجال الأعمال، التي نتج عنها كشف العديد من قضايا الفساد، تلك التي ينظر لها المحللون على أنها كانت أكبر مفجر للانتفاضات الشعبية قبل أكثر من عشر سنوات".

في التضارب بين المصالح بداخل أي سلطة، كما يُثبت الكتاب، ترسيخ لفكرة إهدار المال والإضرار به، واستدعاء طبيعي لضرورة وجود إعلام حر يكشف ويتابع ويرصد كلَّ ما يخالف القوانين أو يجور على الحق العام، وما يهدر قواعد النزاهة وحرمة مال الشعب، وفي حصار الإعلام ما يدعو لعدم تصديق كل ما يقال عن إمكانية التقدم الاقتصادي والاستفادة من الموارد المتاحة.

البرلمان الحر لضمان التنمية

هناك ارتباط وثيق بين أيِّ تطور اقتصادي وبين وجود برلمان حر منتخب بنزاهة وشفافية، يقوم بعمله في الرقابة على أعمال الحكومة، وتشريع القوانين التي تحفظ الموارد وتضمن المناخ الملائم للاستثمار، وحماية ثروة الشعب من التبديد أو الضياع.

حتى هذه اللحظة يبدو البرلمان المصري في وادٍ والشعب في آخر. فمن العجيب، ووسط أزمة اقتصادية خانقة عانت منها البلد طوال السنتين الماضيتين، ألا نسمع عن استجواب واحد لأي مسؤول، كبير أو صغير، بل وغاب البرلمان كليًا عن كل الأزمات الكبرى التي عانت منها مصر ولا تزال، وتلك علامة تعجب غير مفهومة ولا مبررة.

الأصل أنَّ الحياة السياسية السليمة التي تساهم في التطور والنمو الاقتصادي يجب ألا تخلو من برلمان حر، وصل نوابه إلى مقاعدهم بأصوات الشعب في انتخابات شفافة، وبأنظمة انتخابية تسمح لكل القوى السياسية والاجتماعية بالمنافسة وتقديم البرامج والخطط التي ترسم خريطة طريق جادة للمستقبل، وتحفظ للمجتمع تنوعه وتعدد أصواته ورؤاه.

وفي غياب هذا البرلمان الذي يراقب ويشرِّع ويعبِّر عن التنوع السياسي والاجتماعي ويكون عينًا للناس على السلطة التنفيذية، لا أمل في تقدم، ولا إمكانية في تطور أو نمو اقتصادي.

من تحرير السياسة عبر الصحافة الحرة والبرلمان المنتخب بنزاهة وشفافية تبدأ التنمية الاقتصادية، ومن الأولويات يبدأ طريق النجاح، ومن القطيعة التامة مع السياسات التي حاصرت المجال العام ومنعت عنه هواء الحرية يمكن التفاؤل بالمستقبل.

والمطلوب الآن: تنمية اقتصادية تبدأ من الاهتمام بالصحة والتعليم والتصنيع والتصدير، ولا تقف على حدود الاستثمار العقاري، والأهم أن يخضع كلُّ ذلك لرقابة برلمانية جادة وحقيقية، ومتابعة وسائل إعلام حرة وجادة، تكتب للرأي العام لا للسلطة، وتخضع للجمهور لا لسيف المعز وذهبه، وتعيد للمجتمع توازنه المفقود، وتبني جسرًا للأمل يربط التقدم الاقتصادي بحرية المشهد العام بعيدًا عن القيود والحصار، هذا أو استمرار الجري في المكان الذي نقف فيه منذ سنوات.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.