
لا سلطة رشيدة تعادي النقد
لا يُنتقَدُ إلا ما فيه عيب، أو هكذا يتصوّر الناقد. والعيبُ نقصٌ، والنقصُ فراغٌ، قد يكون حقيقيًا أو متخيَّلًا، لكنه في الحالتين يثير تفكيرَ من لا يستسلمون للسائد والمتاح، فيُنازلونه تفكيكًا وتحليلًا وقدحًا وتفنيدًا. ومن هنا تنبع أهمية النقد في سدِّ الفراغ؛ فراغ المعنى، وفراغ الواقع.
وإذا كان النقدُ - مفهومًا واصطلاحًا - قد تشعّب في دروبٍ شتى عبر التاريخ؛ فإنّه اليوم يُعبّر عن نمط تفكيرٍ وتدبيرٍ ينطلق من افتراض ضمني بحتمية وجود خطأ. وبقدرة العقل على كشف هذا الخطأ، كما يرى طلال أسد في كتاب هل النقد علماني؟.. التجديف والإساءة وحرية التعبير.
والناس -إلا من ابتُلوا بجنون العظمة- يُقرّون بعدم إمكانية تمتُّعهم بالكمال، ولكن هناك من يعتقد أنَّ للأفكار والتصورات، وكذلك للخطط والإجراءات، كمالًا وعصمةً؛ بافتراض أنها محكمة لم تغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصتها، وهذا قد يكون ضربًا من الجنون.
السياسات لا الأشخاص
الحديث عن فراغ سياسي منصرفٌ منذ البداية إلى المسائل التي تخص الأشياء والأمور والقضايا، لا إلى الأشخاص. ومن ثَمَّ فإن النقص الذي نعنيه هنا هو ذاك الذي يعتري السياسات المطروحة والمطبّقة، لا من طرحوها أو صاغوها أو عملوا على تنفيذها؛ فعدم كمال هؤلاء أمرٌ مسلَّمٌ به، ولا جدال فيه، شأنهم شأن سائر البشر.
غالبًا ما يبني المنتقدون مواقفهم على إدراكٍ منهم لنقصٍ ثابتٍ فيمن وضع السياسات أو يعمل على تطبيقها، لأن العقبات التي تعترض أي سياسة لا يمكن أن تنتهي، وتأثيرها فيمن تستهدفهم لا يمكن أن يحقق الأهداف المرسومة على الورق كاملة، فكل سياسة هي في حالة تغير دائم، كما حال من يُنَفِّذُهَا، أو تُنَفَّذُ عليه.
خلال هذه الصيرورة/التغير الدائم؛ لا تكف الفراغات عن الظهور، ولا تتوقّف محاولات الإتمام عن المتابعة. وهذا لا يخرج عن طبيعة الحياة، إذ يسعى الإنسان دائمًا إلى إتمام الناقص، في ظل زحفه الدائم نحو موضعٍ يمنحه قوةً أكبر في مواجهة تصاريفها، بينما يستجيب في الوقت نفسه لنداء داخلي يدعوه لأن يكون أكثر قدرةً وتمكّنًا من تلافي كل خطأ، وتفادي كل زلّة.
ومن ثم فإن التصوّر أو الرأي السياسي المختلف لا يمكن فصله عن النزعة إلى النقد التي يتوخّاها النهج العلمي وطرائق التفكير الحياتية التي تعني كل شخص، إلى جانب الارتكان إلى مقتضيات المصلحة العامة. وهذه مسألة لا يمكن نكرانها أو التقليل من شأنها لحساب منفعةٍ ذاتيةٍ، أو امتثالٍ لفهمٍ ضيقٍ للخير المشترك أو الصالح العام.
في كل هذه المواقف والأوضاع، تنجلي حالات من الفراغ، سببها نقصٌ أو سوء تقديرٍ أو رغبةٌ جامحةٌ في تجاوز الموجود والقفز خارج بركة الوحل العميقة، أو أمنية تصنعها أيديولوجيا حالمة ترى أن كل ما سيأتي أفضل بالضرورة مما هو كائن، وإن تأخر الوقت ووهنت عزائم الرجال.
يدرك المنتقدون أن هناك أمرًا ما يستوجب الإتمام، ويستوثقون من هذا حين يرون أصحاب القرار في حيرة من أمرهم. ويفهمون أن هؤلاء إن زعموا أن ما هم فيه كمال، وما يفعلونه لصالح الناس جميعًا، فإن هذا لا يمكن أن يُؤخذ على محمل الجد، بل يُحاط بشكوك عارمة؛ وهي حالة نفسية وعقلية تسكن الفراغ، إذ يدور كل شك في مجالٍ فارغ، فيما يتصوّر أصحاب اليقين الحقيقي أو المتوهّم أن كل شيء مكتمل ومصمت.
المعارضة أكثر من ضرورة
من هنا؛ فإن النقد -على مستوى الخطاب والممارسة معًا- هو أحد المسارات القوية، والأدلّة الناصعة، على وجود الفراغ السياسي، وعلى أدائه وظيفةً حيويةً في الحياة السياسية؛ سواء ما يتعلّق بالأفكار التي تحكمها وتسهم في تطويرها، أو بالتصرفات والإجراءات التي تجري في الواقع. وهو يساهم بطبيعة الحال في تشخيص المشكلات، التي قد لا تعدو في صورتها المجردة أن تكون فراغات تحلّ في كل خطة أو برنامج وتستوجب الملء.
اخترعت أنظمة الحكم المستبدة تقسيمًا للنقد بين بنَّاء وهدَّام؛ متناسيةً أن كلَّ نقدٍّ هو نقدٌ بناء
والهروب من إدراك هذا الفراغ، وحدوده، لا يُعَدُّ تصرفًا حصيفًا ولا مسؤولًا. فهناك من يتوهّم أنَّ حلَّ المشكلة يكون بإخفائها أو الهروب من مواجهتها أو الزعم بعدم وجودها، بل ومعاقبة من يتحدّث عنها أو ينتقد الحلول المطروحة لها. هذا إنكار، نجده مألوفًا في سلوك مرتكبي الجرائم أثناء التحقيق، لكنه لا يليق أبدًا بساسةٍ يُفترض فيهم أن يكونوا خدّامًا لشعوب انتخبتهم أو قُدِّموا لها فرضيتهم ورضيت بهم، طوعًا أو كرهًا.
هؤلاء إن ابتغَوا جمالًا في الصورة ونصاعةً في الواقع، فعليهم أن يبدؤوا بتشخيص أي وضعٍ من خلال النظر إلى جزئه الفارغ، أي بتقدير دور النقد السياسي المنصب عليه. وهذا يعكس ما تؤمن به الدولة الحديثة من أن المعارضة جزء من النظام السياسي، وليست عدوًّا للدولة، بل هي "بديل" يضمن "التغيير الآمن" في ظل تداول السلطة، بما يقي البلاد من الثورات أو الانقلابات أو موجات الغضب التي قد تفضي إلى فوضى عارمة تُدخلها في دوامة اضطراب لا تُحمَد عواقبه.
هل هناك "نقد هدّام"؟
لكن على النقيض؛ فإن السلطات التي لا تزال تعيش في مرحلة ما قبل الدولة، وتتوهم أن كل ما تقوله وتفعله مكتمل، تعتبر المعارضة خيانةً وتشوهها وتحاكمها، لأنها في خاتمة المطاف تُذكّرها، في أقوالها وأفعالها، بالفراغ السياسي الذي يجب أن تملأه السلطة، أو تترك المسارات مفتوحة وحرة أمام أي قوة سياسية راغبة في أداء هذه المهمة الضرورية.
من هنا اخترعت أنظمة الحكم المستبدة تقسيمًا للنقد بين "بنَّاء" و"هدَّام"؛ متناسيةً أن كلَّ نقدٍّ هو نقدٌ بنَّاء؛ خاصة إن كان خافتًا ومحاصرًا وسط ضجيج يكاد يصم الآذان من التأييد والمبايعة. كلُّ نقد ضرورة، ولا مجال للبحث عن نوايا أصحابه، إنما العناية يجب أن تنصب على مضمونه هو، وتجعل منه مناط الحكم على استقامته.
كما أن النقد؛ باعتباره أحد أشكال الفراغ السياسي، فراغٌ دائمٌ وحتمي، لأن كل فكر أو ممارسة لا يمكن لها أن تكون تامة مكتفية ومغلقة وبمنأى عن أي نقد، ولو كان هامسًا أو صامتًا، في ظل نظم مستبدة، لا تقبل سماع رأي مختلف. ففي كل الأحوال لا يرضى الناس بشكل كامل عما يجري، وما يطبق عليهم، وما ينفذ فيهم، حتى لو تحرى من يقومون بهذا الدقة، وجمعوا من المعلومات والمعارف والخبرات ما يعتقدون أنه سيجعل قرارهم رشيدًا.
فدائمًا تبقى مساحة فارغة بين الرغبة والقدرة، أو بين ما يطمح إليه الناس وما تقدر السلطة القائمة على تحقيقه بالفعل، حتى في ظل نظم حكم ديمقراطية، وفي بلدان إمكاناتها المادية قوية. من هنا لا تتعلق الاختلافات بين نظم الحكم بتحقيق كل أمنيات ورغبات الشعوب من عدمه، لكن الاستجابة لأغلب الاحتياجات. أو بمعنى أدق؛ عدم تركه أي إمكانية أو التخاذل عن بذل أي جهد في سبيل تنفيذ ما وعد الناس به في برامجه وخططه.
المنتقدون لن يكفوا عن إبداء ملاحظاتهم، وكلها تدفع في اتجاه ترميم الشروخ، وإتمام الناقص. والسلطة، إن رشدَت؛ تنصت إلى الانتقاد، وتتخذ ما يلزم في سبيل الاستجابة لكل ما تراه في صالح الناس، بالتالي تُضيّق الفراغ تباعًا، وتقلل أسباب النقد. النقد السياسي فعل عفوي وطبيعي، لأن السياسة تمس حياة الناس جميعًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.