
معضلة الأرقام في مصر.. غموض وتضارب وارتجال وكذب
يشكو السياسيون والمهتمون بالشأن العام، والباحثون والخبراء الاقتصاديون، ومعهم المنخرطون في عالم المال والأعمال، وقبلهم جميعًا المواطن البسيط وهو يوزع دخله على أعبائه، من مشكلة تتعلق بغياب أو تضارب أو عدم دقة الأرقام المتداولة في مصر. ورغم أن هذه الشكوى متكررة وعالية النبرة حد الصراخ؛ تصُمُّ الجهات الرسمية آذانها عنها، وتتركها محاطة غالبًا بقدرٍ كبيرٍ من الغموض والارتجال والتضارب والعشوائية، بل والكذب أحيانًا، وهي أمور لم تعد خافية على أحد.
لم يعد تدني مستوى الشفافية خافيًا على أحد في مصر، التي حلَّت في المركز 130 من بين 180 دولة على مؤشر منظمة الشفافية الدولية. وهذا العيب، في شقه المتعلق بتوفير الأرقام، يعود بالأساس إلى أمرين: الأول هو تعمد إخفاء الأرقام الحقيقية، إن تعلقت بمسائل من قبيل البطالة والتضخم والدين العام، والميزان التجاري، والإنفاق الحكومي في مجال الخدمات، لا سيما الإسكان والصحة والتعليم. وهذا التعمد يحدث إما بالسكوت وعدم الإفصاح عن الرقم الدقيق، أو استبدال أرقام أخرى جزافية به.
أما الثاني فهو التباين أحيانًا بين القيمة السوقية للشيء أو السلعة أو الخدمة، وقيمته الدفترية، وهنا يمكن أن ينشأ اختلاف مشروع بين الباحثين الاقتصاديين والسلطات الرسمية في تقدير السعر أو الثمن. وتتجلى هذه المسألة، على سبيل المثال لا الحصر، في تثمين الأراضي والعقارات.
التدخل الحكومي
لا يمكن إغفال التدخل في عمل الأجهزة الحكومية المنوط بها إصدار الأرقام، في مقدمتها جهاز التعبئة العامة والإحصاء. فهذه الجهات لم تعد منفردة بقرار إعلان ما لديها من أرقام حول الاقتصاد والسكان والإسكان ومعدلات الجريمة وأوضاع الصحة والتعليم .. إلخ. ويتم هذا غالبًا تحت طائلة التوسع المفرط في طرح وفهم وإدراك قضية "الأمن القومي"، التي تبرر بها السلطة، في كثير من الأحيان، إخفاء المعلومات الحقيقية.
عندما تتعرض النظم السياسية المغلقة والفاسدة لضغوط من الرأي العام تُمعن في الكذب بالأرقام
يفتح ذلك الباب أمام تجاوز السلطة السياسية للحقوق الدستورية والقانونية الراسخة، في مقدمتها حق تداول المعلومات الذي تضمنه وتكفله المادة 68 من الدستور. لكن في التطبيق العملي، تصمت السلطة ولا تعتني بتفسير امتناعها عن الالتزام بهذه المادة، التي تُلزم بترتيب عقاب على من يخالفها.
أتذكر في هذا المضمار تجربتي مع وزارة العدل، حين كنت بصدد تأليف كتاب عنها في إطار سلسلة الوزارات المصرية التي أصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام مطلع هذه الألفية. فقد رفضت منحي ميزانيتها، وتعلل مسؤولوها الكبار بأن الوحيد المخول بالكشف عنها هو الوزير، الذي بدوره تعلل بأنها معلومات غير متاحة لباحث إنما يتم تداولها في المسار الرسمي فقط، رغم أنني قدمت خطابًا من المركز، يطلب تسهيل مهمتي في الحصول على نسخة من ميزانية الوزارة. وحتى عندما حاولت التغلب على هذه العقبة بطلب الميزانية من مجلس النواب، لم يَجُد عليَّ حاملو أضابيره بشيء.
تغلق هذه السياسات الطريق أمام الباحثين الاقتصاديين الجادين الراغبين في الحصول على المعلومات الواردة في التقارير الحكومية، وتخلق عقبات صلبة أمامهم، يتعذر معها الاطلاع المستمر والمتجدد على الأرقام، وقد لا يكون أمامهم من سبيل للتغلب على هذا سوى اللجوء إلى تقارير دولية حول مختلف الأنشطة والأداءات الاقتصادية، أو الاعتماد على طرق مواربة ليصلوا إلى أرقام جزئية، لا تعكس بالضرورة الصورة الحقيقية.
التلاعب بالسياقات
عندما تتعرض النظم السياسية المغلقة والفاسدة لضغوط من الرأي العام، وتواجه أسئلة ملحة حول الإنجازات الحقيقية، تُمعن في الكذب بالأرقام حدَّ التلاعب، وهي توظّفها في دعايتها السياسية. وفي مصر، نلاحظ تكرار ظاهرة الكذب بالأرقام هذه، حيث تنشر الصحف ووسائل الإعلام الأرقام بانتقائية، فتتجاهل الأرقام والإحصاءات التي تُلقي باللوم على أداء الحكومة، ولا تبرز سوى الأرقام المعاكسة التي توحي للقارئ بأن هناك تنميةً ونموًا.
في كتابه كيف تكذب بالإحصاء/How to Lie with Statistics، يلفت داريل هوف الانتباه إلى الأخطاء البسيطة والجسيمة التي نقع فيها حين نترك رؤوسنا لمقولة أن "الأرقام لا تكذب"، ونستسلم تمامًا للأساليب الإحصائية من أرقام ومعادلات ورسوم بيانية، لأنها قد تعطينا انطباعًا وتصورًا ورؤيةً غير واقعية عن الظواهر التي نتابعها وندرسها.
لا يمكن الاستغناء بالطبع عن وسائل القياس، لكن علينا أن نعلم أنها ستكون سيئة وغير مفيدة، إذا جُمعت بياناتها بشكل خاطئ أو متعجل أو متحيز، أو قرأناها بالعيوب نفسها، أو فسرناها على نحو غير علمي وغير عادل، أو كنا نريد أن نوظف الأرقام في التلاعب بالعقول، والتحايل على الحقيقة.
هنا يقول الكاتب "في عالم تغلب عليه ثقافة التفكير بالحقائق، تبدو اللغة السرية للإحصاءات جذابة جدًا على الرغم من توظيفها لخلق الإثارة والتشويش والتضخيم والالتباس. لا أحد يستطيع أن ينكر دور الوسائل والمصطلحات الإحصائية في تطويع الأحجام الهائلة من البيانات الاقتصادية والاجتماعية، لكن إن لم يترافق هذا مع وجود كُتّاب نبهاء وأمناء وقراء وأعين فإن النتيجة لن تكون أكثر من مجرد هراء".
ويعبر الإحصائي الأمريكي عن الانحراف في استعمال الإحصاء بعبارة بليغة، يؤكد فيها أن البعض يستخدم الإحصاء كما يستخدم السكارى أعمدة النور المغروسة في الشوارع لتساعدهم على الوقوف وهم يترنحون، فتحميهم من السقوط، لكنها لا تكون بالنسبة لهم مصدر ضوء كاشف يعينهم على رؤية الطريق.
فوضى المعرفة
مما يُعمِّق الأزمة، تضارب الأرقام الواردة من جهات حكومية عدّة، نتيجة اختصاراتها، لنجد أكثر من رقم رسمي للموضوع أو القضية الواحدة. وهي مسألة تظهر على سبيل المثال في الرقم الحقيقي للديون الخارجية والداخلية، حيث نقرأ رقمًا صادرًا عن وزارة المالية، وآخر من وزارة التعاون الدولي، وثالث عن اللجان البرلمانية، والإعلام المحلي، والتقارير الدولية، خصوصًا الصادرة عن صندوق النقد والبنك الدوليين.
عندما ينهض الباحث بالدور المنوط بالحكومة عليها أن تشكره وتكافئه بدلًا من أن تزجره وتعاقبه
وكذلك حركة الاقتصاد غير المرصود، فهناك معاملات اقتصادية عديدة ومتشابكة، لا ترصدها التقارير والتقديرات الرسمية، ولا يمكن للباحثين هنا أن يحصلوا، حتى إن تتبعوها عن كثب وفي دأب، على أرقام كلية وحقيقية عن قيمتها السوقية واتجاهاتها. وهذا النوع من المعاملات يبلغ من الضخامة بمكان ما يجعله مؤثرًا، بشكل بارح، في اقتصاديات الدولة.
وهذه المزالق التي تقع فيها الإحصاءات تجعل للحدس والسليقة والإلهام دورًا في معرفة بعض ما هو قائم، وبعض ما سيأتي، عبر الاتصال بوعينا الداخلي، الذي يتشكل من الفطرة السليمة، وخبراتنا وإدراكنا، ومعلوماتنا المتراكمة المختزنة في الذاكرة، عن الماضي والمستقبل معًا. تصل بنا إلى معرفة غريزية أو فطرية،
ما العمل؟
للتغلب على هذه العقبات والالتفاف حولها، يلجأ بعض الباحثين إلى عدة طرق، من بينها إعداد المتوسطات الحسابية، أو إبداع معادلات من واقع معرفتهم ببعض البيانات المتعلقة بالإنفاق الرسمي، تعينهم على الاقتراب من الحقيقة. لكنها تظل ناقصة، مهما أحكموا التقريب والتقدير، واللوم هنا لا يقع عليهم إنما على من لا يوفرون لهم الأرقام الصحيحة.
كما يمكن أن يوظف الباحثون خبراتهم السابقة في القدرة على التوقع، مع وضع الأداء العام، أو الحالة الاقتصادية للدولة والمجتمع، في الاعتبار، كإطار أو أرضية يقف عليها وهو ينظر إلى الأرقام الجزئية والتفصيلية. وكذلك استخدام الباحث سلطته في ترجيح واحدٍ من الأرقام على ما عداه، إذا تعددت الأرقام وتضاربت، مع ذكرها جميعًا ونسبها إلى مصادرها.
وعندما يتعذر التحليل الكمي إذا غابت الكثير من الأرقام الحقيقية، يمكن للباحثين الهروب إلى التحليل الكيفي. وهذه طريقة لا تروق عمومًا للباحثين في حقل "الاقتصاد الجزئي"، ويميل إليها أكثر من يعتنون بالاقتصاد الكلي، أو تأثير الاقتصاد على المجتمع والسياسة والثقافة، فيكون إنتاجهم أقرب إلى الفكر الاقتصادي.
إن هذه الطرق لا تخلو بالطبع من نهج علمي، وهي تمثل تحايلًا مقبولًا ومعقولًا في وجه التعتيم المتعمد، أو الكذب بالأرقام، أو التباطؤ في إعلانها، أو طرحها مجتزأة. وليس أمام الباحثين في ظل هذا الوضع البائس سوى اللجوء إلى هذا النهج.
وليس من الإنصاف ولا السوية في هذا السياق، أن يتهموا بنشر أخبار كاذبة إن فعلوا ذلك، وهم لا يرومون سوى ممارسة دورهم في توعية الناس بأحوالهم الاقتصادية، وتنويرهم في هذا المضمار بما يعينهم على اتخاذ قرارات رشيدة تتعلق بمعيشهم، وتعميق معرفتهم بتصرف السلطة في المال العام، لأن الشعب صاحبه، ومن حقه أن يسأل، وأن يجد من يجيبه. لذا فعندما ينهض الباحث بالدور المنوط بالحكومة، عليها أن تشكره وتكافئه بدلًا من أن تزجره وتعاقبه. وإن كانت هناك عقوبة، فيجب أن تلحق بمن حجب المعلومات ومنع تداولها.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.