لم يكن من المستغرب أن تشهد جلسة الحوار الوطني التي عُقدت مساء يوم 3 سبتمبر/أيلول، انتقادات حادة للحالة التي بلغتها حرية الرأي والتعبير في مصر، في الوقت الذي تغافل فيه التقرير السنوي للمجلس القومي لحقوق الإنسان عن ذكر أي إشارة للممارسات التي قيدت وحاصرت الحريات الصحفية وحرية الرأي والتعبير بشكل عام.
جلسة الحوار الوطني التي انعقدت مساء الأحد قبل الماضي، شارك فيها عدد من الصحفيين والحقوقيين والنواب المهتمين بملف الحريات الصحفية. اتفق هؤلاء، مع بعض الاستثناءات، على أنَّ هناك تقييدًا لحق المواطنين في التعبير عن آرائهم، وأنَّ هناك أزمة في صناعة المحتوى الصحفي إثر ما يمارس ضد منصات الإعلام من حصار، وهو ما حدَّ من حق الناس في الوصول إلى خبر موثوق ومعلومة مدققة، أو رأي مخالف لسياسات السلطة وما تطرحه من توجهات.
السفيرة مشيرة خطاب، رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان، شاركت أيضًا في هذه الجلسة، قادمة إليها فور انتهائها من مؤتمر صحفي صادف انعقاده اليوم نفسه، للإعلان عن التقرير السنوي للمجلس عن حالة حقوق الإنسان في مصر.
خطاب قالت أمام جلسة الحوار الوطني إن الحق في حرية التعبير يرتبط بالحق في الحصول على المعلومات؛ وحق الصحفيين في الحماية، لافتة إلى مطالبة المجلس القومي لحقوق الإنسان في تقريره، الصادر صباح اليوم، بعدم تطبيق عقوبات سالبة للحرية على القضايا المتعلقة بالرأي، ودعت إلى ضرورة إصدار قانون يتيح وينظم الوصول إلى المعلومات باعتباره استحقاقًا دستوريًا.
لم يُحمّل تقرير المجلس أيَّ جهة مسؤولية "الخفوت" الذي أصاب ثقافة حقوق الإنسان في بلادنا
أما في المؤتمر الصحفي الذي خصص للإعلان عن التقرير السنوي للمجلس القومي للإنسان، فأشادت خطاب بالخطوات المهمة التي اتخذتها الدولة في مجال رفع الوعي بالحقوق المدنية والسياسية دون تمييز، وإن كانت ترى أن ثقافة حقوق الإنسان لا تزال "خافتة".
وخلال نفس المؤتمر الصحفي أيضًا، أشار السفير محمود كارم، نائب رئيس المجلس، إلى أن تقريرهم السنوي تضمن "ما للدولة وما عليها"، مؤكدًا عدم وجود أي ضغوط أو تدخلات من أي جهة أثناء إعداد التقرير.
من المسؤول؟
لم تُحمِّل خطاب خلال المؤتمر الصحفي، كما لم يُحمِّل تقرير مجلسها، أيَّ جهة مسؤولية هذا "الخفوت" الذي أصاب ثقافة حقوق الإنسان في بلادنا. وكأن المجتمع هو المسؤول عن سجن المعارضين احتياطيًا ثم إعادة تدويرهم في قضايا جديدة بعد أن تنتهي مدة حبسهم القانونية، أو أن القيود المقننة على حريات الرأي والتعبير والتنظيم والمشاركة، أو تلك التي تُمارَس خارج إطار القانون، هي من عمل المواطنين، وأن مؤسسات السلطة تنحاز إلى تلك الحقوق، ولا تتوقف عن إصدار بيانات شجب وإدانة للانتهاكات الممنهجة التي يرتكبها المجتمع.
لا يتطلب الأمر كثيرًا ليكتشف أي باحث طالعَ التقرير أنه يتضمن ما للدولة فقط، أما ما عليها أو ما للمواطن، فمُرَّ عليه مرور الكرام؛ بإشارات "خافتة" عن "بعض جوانب القصور" التشريعية التي أعاقت حصول المواطنين على حقوقهم، خلال الفترة التي غطاها التقرير.
بالطبع؛ لم تخلُ أبواب التقارير من إشادات متكررة بمبادرات الدولة التي عملت على تأسيس "بنية تحتية قادرة على الوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين"، وكذلك بـ"خطة الدولة الطموحة للقضاء على العشوائيات"، وبـ"مبادرة حياة كريمة"، و"منظومة التأمين الصحي"، مع إشارة لأن كل ما سبق جاء اتساقًا مع قناعة رئيس الجمهورية بأن "الاستقرار الحقيقي لن يحدث إلا برضا المجتمع".
ولم يفُت التقرير الإشادة أيضًا بالقوانين ذات الصلة التي صدرت من البرلمان، إذ يرى أنها عززت من حقوق المواطنين في السنوات الأخيرة، مؤكدًا أنها اتسقت مع مواد الدستور والعهود والمواثيق الدولية، وبعد إضافة "ولكن" التي يستخدمها البعض لإبراء ذمته من التأييد المطلق لبعض الممارسات والسياسات، دعا المجلس إلى ضرورة معالجة بعض العبارات التي وردت في عدد من مواد تلك التشريعات مثل قوانين "مكافحة الإرهاب"، و"العقوبات"، و"الفصل بغير الطريق التأديبي"، و"الخدمة المدنية".
وبجملة الإشادات؛ أشاد التقرير بإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإنهاء حالة الطورائ، ودعوة رئيس الجمهورية للحوار الوطني، وإعادة تشكيل لجنة العفو الرئاسي.
وتحت عنوان "حالة الحقوق المدنية والسياسية"، وضع التقرير عددًا من العناوين الفرعية التي ترصد حالة بعض الحقوق منها "الحق في الحياة، والحماية من التعدي والإكراه، ومعاملة السجناء، وضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، والحق في تكوين الجمعيات".
في ذلك الباب، توالت الإشادات بدور مؤسسات الدولة، ودور السيد رئيس الجمهورية في تعزيز تلك الحقوق، والسعي إلى ترسيخها سواء بممارسات أو تشريعات، ولم يُغفل التقرير الإشارة إلى الجهد المبذول من التحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي، الذي تم تدشينه في 13 مارس/آذار 2022، وقدم العديد من مبادرات الدعم للفئات الأَوْلى بالرعاية والأكثر استحقاقًا.
إضافة إبراء الذمم
وفيما يخص حرية الرأي والتعبير والحق في الوصول إلى المعلومات، رصد التقرير ما جاء في مواد الدستور، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ من ضمانات يجب على الدولة توفيرها للمواطنين، معتبرًا أن حرية الرأي والتعبير دعامة رئيسية من دعائم الدول ذات النظام الديمقراطي.
تدور الهيئات المستقلة في فلك السلطة وتتغافل عن تقصيرها وانتهاكاتها
وفي نهاية هذا الباب؛ رفع المجلس مطالبةً بضرورة إصدار" قانون وطني لحرية إتاحة وتداول المعلومات كنقطة وضَّاحة في البنية المؤسسية للتعامل مع حقوق الإنسان، والكشف عن المثالب والعورات ونقاط الضعف بما يسمح بمعالجتها وتطويرها".
بالطبع لم يتطرق هذا الجانب من التقرير إلى ما تمر بها حرية الصحافة والإعلام في مصر من حصار فج يعلمه الداني والقاصي، ولا نستثني من ذلك أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي يضم في تكوينه أكثر من صحفي ممارس للمهنة، يعلمون علم اليقين ما تمر به الصحافة من تضييق، تمثل في حجب العديد من المواقع الصحفية، أو وقف طبع إصدارات ورقية لحين رفع محتوى لا يرضى عنه الرقيب، أو الحجر على ظهور شخصيات سياسية معروفة بمعارضتها أو حتى مخالفتها للسلطة.
وحتى عندما تحدث التقرير عن المعوقات التي شكلت عقبة في تقدم أوضاع حقوق الإنسان على مستوى الحقوق المدنية والسياسية، لم تأتِ أي إشارة لما تعانيه الصحافة والإعلام في مصر من تقييد دفع الجمهور إلى هجرها، والبحث عن منصات أخرى تضمن له الحصول على معلومة دون رقابة أو وصاية، مكتفيًا بالحديث عن "عدم وجود إطار قانوني ينظم الحق في الحصول على المعلومات والبيانات، وعدم وجود مدونة سلوك شاملة لكافة أوجه المجالات الإعلامية والصحفية، والتي تحدد ضوابط حرية التعبير بما يضمن ممارستها دون تعد على حريات الآخرين".
ما أن تنتهي من مطالعة التقرير حتى تكتشف أنك انتهيت من مطالعة بيان صادر عن جهة رسمية "press release"، كتلك البيانات التي لم تعُد صحافتنا تنشر سواها؛ تشيد بأداء السلطة ومؤسساتها وتعدد إنجازتها وتشير إلى المعوقات التي تقف حائلًا أمام إتمام مشروعاتها لتحسين أحوال المواطنين.
لا يختلف المجلس القومي لحقوق الإنسان عن غيره من المؤسسات والهيئات التي يفترض أنها مستقلة وفق مواد الدستور والقانون، صارت تلك الهيئات أقرب إلى جهات حكومية، تدور في فلك السلطة وتعبر عنها وتبرر سياساتها وممارستها، وتتغافل عن تقصيرها وانتهاكاتها، وهو ما أفقدها مصداقيتها وجعل تقاريرها أقرب إلى بيانات إبراء ذمة وتأدية واجب.