تبدأ مطلع الأسبوع المقبل الجولة الثالثة من جلسات الحوار الوطني بجلسة في المحور السياسي، وتحديدًا لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة، عن أهمية صدور القانون الذي تأخر كثيرًا، الخاص بحرية تداول المعلومات.
وتمهيدًا لطرح هذه القضية المهمة مجددًا للنقاش، عقد المجلس القومي لحقوق الإنسان مؤخرًا حلقة نقاشية حول أهمية صدور القانون والمشاريع العديدة التي قُدم بها في مجلس النواب ومن الوزارات المختلفة على مدى السنوات العشر الماضية.
الدفع لصدور هذا القانون بدأ في أعقاب ثورة يناير إثر حالة الأمل أننا قد نكون مقبلين على واقع سياسي جديد، يتمتع فيه المواطنون بحقهم في الحصول على المعلومات الصحيحة، التي من شأنها مساعدتهم في تشكيل وجهة نظرهم والمشاركة في الشأن العام ومحاسبة المسؤولين.
لقد عشنا عقودًا ممنوع علينا تداول أبسط أنواع المعلومات، ويُنظر بشك وريبة لكل من يطلب أي معلومة من الأساس، بزعم "حماية الأمن القومي". وشمل ذلك وسائل الإعلام التي يعد نقل المعلومات والكشف عنها أحد مهامها الأساسية، فلا يمكن أن تكون ذات مصداقية طالما اعتمدت على المعلومات التي تمن بها الحكومة فقط.
كما أن توافر المعلومات هو مطلب أساسي لكل الساعين للعمل والاستثمار في مصر، فالأمر لا يقتصر على الحريات العامة والسياسية فحسب.
الدستور والنوايا الحسنة
ولأن البعض كان يعتقد أو يتمنى أن المظاهرات الشعبية المطالبة بعزل الإخوان في 30 يونيو/حزيران 2013 كان غرضها استكمال الأهداف الحقيقية لثورة 25 يناير، فإن الدفع نحو إصدار هذا القانون انعكس في دستور 2014، الذي أقره المصريون بأغلبية كاسحة، ونصت المادة 68 منه على:
"المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون قواعد الحصول عليها وإتاحتها وسريتها وقواعد إيداعها وحفظها والتظلم من رفض إعطائها كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا. وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية وحمايتها وتأمينها من الضياع والتلف وترميمها ورقمتنها بجميع الوسائل والأدوات الحديثة وفقا للقانون".
صلاة النبي أحسن. طبعًا مادة جميلة مثالية تنقلنا إلى مصاف السويد صاحبة السبق في إصدار قانون لحرية تداول المعلومات. ولكنها انضمت، مثل مواد أخرى في الدستور، إلى فئة قوانين "النوايا الحسنة" التي لم تصدر أبدًا على مدى السنوات العشر الماضية، ومنها قانون تنظيم إجراء الانتخابات المحلية الذي ينص الدستور على ضرورة الانتهاء منه بحد أقصى خمس سنوات (2019)، وقانون إنشاء مفوضية للتمييز، وقانون للعدالة الانتقالية، إلى جانب ما كان ينص عليه الدستور قبل تعديله في 2019 من ضرورة ألا يتجاوز الرئيس فترتين في الحكم مدتهما مجتمعين ثمانية سنوات.
الدعوة لإصدار قانون تداول المعلومات كانت أيضًا من ضمن التوصيات الرئيسية التي وردت في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي صدرت قبل أكثر من عامين برعاية الرئيس السيسي شخصيًا، تمامًا كما توصيات عدة في تلك الاستراتيجية، مثل الدعوة لتعديل قانون الحبس الاحتياطي والتأكيد على الحريات العامة الواردة في الدستور وضرورة احترام الحقوق الأساسية للمواطنين، التي لو كان تم تطبيقها لما كنا في حاجة لإعادة النقاش بشأنها مجددًا في إطار الحوار الوطني.
حاولت إقناع الصحفية أننا في مصر لا نتداول رقم هاتف وزارة الدفاع ولا نعرفه أصلًا
هذه المناقشات أعادت إلى ذاكرتي مواقف عدة مررت بها كصحفي على مدى أكثر من ثلاثة عقود، داخل مصر وخارجها. في العام 1991، كنت أعمل مساعدًا لصحفية جاءت مصر لتغطية حرب تحرير الكويت.
طلبت مني الصحفية الأمريكية بحسن نية أن أتصل بوزارة الدفاع لسؤالها عن عدد القوات المصرية التي ستشارك في حرب تحرير الكويت، وإذا ما كان ممكنًا أن تلتحق بأحد الكتائب المصرية المسافرة إلى السعودية، حيث كان يجري حشد القوات الدولية.
ارتبكتُ تمامًا، وحاولت إقناعها أننا في مصر لا نتداول رقم هاتف وزارة الدفاع ولا نعرفه أصلًا، حتى كصحفيين، وأن كل الأمور المتعلقة بالقوات المسلحة هي مسألة أمن قومي صارم، وأننا ننتظر فقط ما يصدر عن إدارة الشؤون المعنوية لنكتبه في صحفنا دون نقص أو زيادة.
لم تصدقني المراسلة الأمريكية واتهمتني بالكسل. ولكنها أشفقت عليَّ لاحقًا بعدما رأت محاولاتي الحصول على رقم وزارة الدفاع، ثم عدم رد هذا الرقم. في النهاية ردَّ عليَّ موظف لم يفهم طلبي في التواصل مع الضابط المسؤول عن الإعلام. طلب اسمي الرباعي ورقم بطاقتي وعنوان سكني بدلا من الرد على أسئلتي، وقال إنه سيتم التواصل معي لاحقًا. وانتهى الأمر باستسلام الصحفية، وعشت أيامًا أخشى إلقاء القبض عليَّ لأنني تجرأت واتصلت بوزارة الدفاع.
وفي مرحلة لاحقة، عملتُ مراسلًا في مكتب وكالة رويترز في القاهرة، وأعددتَ تقريرًا مطولًا عما أورده تقرير عسكري سنوي بريطاني عن قدرات الجيش المصري، وما يمتلكه من طائرات ودبابات وأسلحة مختلفة. فور نشر التقرير، فوجئت بكم هائل من الاتصالات من الصحفيين المحليين يتسائلون إذا ما كان في قدرتهم الحصول على الفصل الخاص بمصر من التقرير، وكأنهم يسألون عن معلومات سرية، بينما التقرير متاح لكل من يدفع الاشتراك السنوي.
الأمن أولًا
ولكن الفارق هو بين حرية النشر وتداول المعلومات من عدمه، حتى لو كانت متاحة. فليقل العالم ما يشاء عنا في الخارج، ولكننا في مصر لنا شأن آخر في ضوء مصطلح "الأمن القومي" المطاط، ومن غير المسموح أصلًا أن نتداول ما ينشرونه عنا في الخارج. والحظر لا يقتصر على وسائل الإعلام الرسمية فقط، بل يصل حد إلقاء القبض على الصحفيين إذا ترجموا تقارير وردت في صحف أجنبية يتداولها الجميع، خاصة في زمن الإنترنت.
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي نشرت صحيفة الشعب المعارضة تقريرًا مترجمًا عن عبور سفن أمريكية حربية لقناة السويس متوجهة نحو العراق، فتعرض ثلاثة صحفيين للحبس، وامتد القمع حتى العام 2018 عندما تم القبض على رئيس تحرير موقع صحفي واتهامه بنشر أخبار كاذبة لأنه ترجم تقريرًا ورد في النيويورك تايمز عن ضعف الإقبال على "الانتخابات" الرئاسية التي لم يكن بها عمليًا أي منافسة للرئيس السيسي.
وقبل شهور قليلة فقط من قيام الرئيس الأحمق جورج دبليو بوش بغزو العراق في مارس/آذار 2003، توجهتُ للعاصمة الأمريكية واشنطن مراسلًا للأهرام. كانت حرب المعلومات على أشدها. الإدارة الأمريكية تكذب وتروج معلومات مغلوطة، ولكن أجواء ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 اضطرت حتى أعتى الصحف الأمريكية التي تدعي الاستقلالية إلى ترديد تلك الأكاذيب، خشية الاتهام بالخيانة وخذلان الوطن في وقت يخوض فيه الجيش حروبًا في أفغانستان والعراق.
نحن لا نزال على مسافة أميال ضوئية من حرية تداول المعلومات
لكن كصحفي قادم من مصر يعاني شح المعلومات وصعوبة مقابلة، ناهيك عن مساءلة، المسؤولين عن دقة ما يوفرونه من معلومات، كانت مهمتي في الولايات المتحدة على النقيض تمامًا.
تواصلت مع وزارة الدفاع الأمريكية للقاء المسؤولين بشأن الاستعدادت لحرب العراق. ومقابل موظف وزارة الدفاع في مصر، الذي لم يستوعب سؤالي أصلًا، كانت دهشتي عندما وجدت مساعد وزير الدفاع الأمريكي يتحدث معي هاتفيًا لنتفق على موعد لعقد لقاء لجريدة الأهرام. كان يحاول كسب العقول والقلوب في العالم العربي لدعم حرب غزو واحتلال العراق. لم أصدق أن صحيفتي ستحظى بحوار منفرد مع مسؤول أمريكي كبير.
أميال ضوئية
أشارت نائبة معارضة شاركت في جلسة النقاش التي نظمها المجلس القومي لحقوق الإنسان مؤخرًا صراحة إلى أن أزمتنا لا تكمن في إصدار قانون تداول المعلومات من عدمه، ولكن في العقلية السائدة التي لم تتغير منذ الخمسينيات من القرن الماضي، التي ترى أن المعلومة حكر للدولة تستغلها كما تشاء، وذلك لدرجة أن مسؤولًا أمنيًا حذَّر في مداولات سابقة لإصدار القانون من التوسع في تقديم التسهيلات للحصول على المعلومات.
أشار المسؤول وقتها إلى ضرورة عدم الاستهانة بالأمر، فكل معلومة لها قيمة، بما في ذلك عدد علب التونة التي يستخدمها المواطن كل شهر، حيث قد تستغلها أطراف خارجية لمعرفة عاداتنا الاستهلاكية وما نتملكه من مخزونات استراتيجية.
نحن لا نزال على مسافة أميال ضوئية من حرية تداول المعلومات عندما تكون هذه هي نقطة البداية، وبغض النظر عما لدينا من قوانين ودساتير.