كنا نقف على سلم نقابة الصحفيين لسنوات نردد شعار "عاوزين صحافة حرة، العيشة بقت مرة". ولكن بعد وقفة في أواخر 2017 احتجاجًا على قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال، ألقي إثرها القبض على أربعة أشخاص، توقفت تمامًا الاحتجاجات على سلم النقابة.
وساهم مجلس النقابة السابق في هذا المنع، مع تغطية واجهة المبنى بمشمع أخضر قبيح بزعم تجديدها، طوال خمس سنوات كانت تكفي وتزيد لهدم المبنى وإعادة بنائه، لا فقط تجديد واجهته.
ولكن ما تم منعه للأسف على مدى السنوات الماضية، لم يكن فقط الوقفات الاحتجاجية التي طالما احتضنها سلم النقابة، للتنفيس عن هموم الوطن لا فقط مشاكل المهنة، بل تم تعطيل وتجميد الصحافة نفسها حتى عدنا سنوات طويلة للوراء في مجال تداول المعلومات وحرية الرأي والتعبير عمومًا.
صحيح أن الأحزاب السياسية، والنقابات المستقلة، والمنظمات غير الحكومية، كلها تأثرت بسلسلة الإجراءات والقوانين التي جمدت عمليًا نشاطها، لكن الصحافة تحديدًا أصيبت في مقتل، بسبب التضييق الشديد على تداول المعلومات التي هي أساس العمل الصحفي، فلم تعد هناك صحافة بل مقالات رأي ودعاية، وبث أخبار لا يهتم بها المواطن، وإنما المسؤول القابع خلف مكتبه لإرضاء رؤسائه الذين قد يكونون القراء الوحيدين لما ننتجه من صحافة في مصر هذه الأيام.
وكان والدي الصحفي، إسماعيل داود، رحمة الله عليه يذكرني دائمًا أن مهمة الصحفي الأهم هي التحقق من صحة الخبر، وإلا تحول إلى ما كان يسميه "صحفي جهاز التسجيل"، أي ذلك الصحفي الذي يكتفي بالحصول على المعلومة من مصدره ونقلها نصًا دون توجيه ولو سؤال واحد، على اعتبار أن مهمته أو مهمتها تقتصر على نقل الخبر. ويقال في الأمثال إن "ناقل الكفر ليس بكافر"، ولكن في مهمتنا أعتقد أن نقل الأخبار من دون تدقيق أو تمحيص واطلاع القراء على الخلفيات المرتبطة به هو "الكفر" في حد ذاته.
كل شيء على ما يرام
منذ العام 2014، صدرت عدة قوانين تحت غطاء "الحرب ضد الإرهاب" تحظر على الصحفيين نشر أي معلومات تتعلق بالأحداث الأمنية إلا اعتمادًا على بيانات المصادر الرسمية الحكومية. كما تم شراء غالبية الصحف الخاصة من قبل الشركة المتحدة.
ومن نجا من تلك الصفقات يتعرض لرقابة لصيقة، وحجب موقعه أو منع طبع صحيفته، حتى في حال نشر أخبار ليس لها علاقة بالحرب ضد الإرهاب، بل أي أخبار اقتصادية أو سياسية قد تسبب حرجًا للنظام أو تناقض سرديته، بأن كل شيء ما يرام.
آثار تلك القوانين والسياسات تجسدت خلال الأيام الماضية في حادثتين تمسان المصريين بشكل مباشر، تناولتهما كل وسائل الإعلام العربية والعالمية تقريبًا، عدا الصحافة المصرية وكأننا في عالم آخر. الأولى حادثة الهجوم على مقر الأمن الوطني في العريش مطلع هذا الشهر، والثانية والأحدث هي واقعة الطائرة الخاصة التي ضبطتها السلطات الزامبية في مطار كينث كاوندا قادمة من القاهرة، وعلى متنها أسلحة وذخائر و5.7 مليون دولار، وعدة كيلوجرامات من السبائك النحاسية التي تشبه الذهب، وتسعة أشخاص من بينهم ستة مصريين.
وإذا كان إعلامنا الرسمي يُسارع في أعقاب أي زلزال أو كارثة طبيعية حول العالم، إلى نقل التصريح الشهير عن المصدر المسؤول المجهول بأن "جميع المصريين بخير"، حتى لو لم يكن في البلد المعني مصريون من الأساس، كمحاولة لتصوير أن الدولة العتيدة تهتم بمواطنيها في كل مكان، فإن أقل ما كان متوقعًا بعد توقيف المصريين في زامبيا، أن يصدر بيان رسمي يوضح أسماءهم والاتهامات الموجهة لهم ووضعهم القانوني.
المؤكد أن المسؤولين يعرفون أن الأخبار والمعلومات سيتم تداولها في جميع الأحوال، شاء من شاء وأبى من أبى
لا أعتقد أن سفاراتنا المكلفة في الخارج لديها تقليد انتداب دبلوماسي لحضور التحقيقات مع المتهمين كما تفعل الدول الغربية، ولكن من المؤكد أن لديهم قدرة الحصول على كل المعلومات المطلوبة من السلطات الزامبية المعنية.
ماذا فعلنا في العريش وزامبيا؟
ولكن ماذا فعلنا في الحادثتين؟، بشأن العريش كتبت وزيرة تنعي الشهداء ثم حذفت ما كتبت. كما انتشرت فيديوهات جنازات ضباط وجنود في قراهم يشيعون إلى مثواهم الأخير. ولكن بعد مرور ثلاثة أسابيع على الحادثة لم يصدر أي بيان رسمي، وما زلنا حتى الآن لا نعرف ما الذي حدث.
في الأيام الخوالي، زمن القمع الوسطي الجميل في ظل حكم الرئيس الراحل مبارك، كنا سنتوجه كصحفيين إلى العريش، ونسأل الأهالي وشهود العيان ونقوم بواجبنا في التقصي والتحقق، حتى لو لم تكن السلطات الأمنية ترضى عن ذلك. أما اليوم، فمجرد التوجه للعريش مهمة شاقة بسبب الكمائن ونقاط التفتيش، ولن تستطيع صحيفة قومية أو حزبية أو خاصة مجرد النشر، ناهيك عن خطورة إجراء المقابلات في المدينة على أمن وسلامة الصحفي.
أما في الحالة الزامبية، فلم نكتفِ بالصمت المطبق وحسب، ولكن داهمت قوات الأمن فجر السبت منزل الصحفي الشاب كريم أسعد الذي قام وزملاء له بأبسط مهام الصحفي في ظل التعتيم الرسمي. فما الذي قام به كريم لكي يستحق أن يتم ترويعه وأسرته بهذه الطريقة؟.
كريم، ويا للهول، أدى دوره في البحث والتنقيب ومراجعة ما تنشره الصحف الزامبية، وكذلك البحث عن المحامين الذين يتولون مهمة الدفاع عن المتهمين المصريين للتأكد من هوياتهم، ونشر الأسماء التي حصل عليها مرفقة بالصور.
كما قام الموقع الذي يعمل فيه كريم، وكان الصديق والزميل الصحفي القدير المرحوم محمد أبو الغيط من مؤسسيه، "متصدقش"، بمراجعة المواقع المتخصصة في متابعة مسارات الطائرات لكي يعرف مسار تلك الطائرة ومن أين انطلقت ومتى وصلت إلى زامبيا.
هذه المواقع متاحة ومفتوحة للجميع، ولا تعمل بشكل غير سري أو غير قانوني. أين الجريمة إذن؟، هل إطلاع المصريين على قضية تهمهم بحكم أن المتورطين بها مصريين، جريمة تستوجب مداهمة المنازل وإخفاء الصحفيين بل والدخول على الموقع لحذف التقريرين اللذين وردت بهما أسماء المتهمين وصفاتهم؟.
الزميل نقيب الصحفيين خالد البلشي بذل جهدًا كبيرًا حتى تم الإفراج عن كريم مساء الأحد. ولكن الرسالة وصلت لكل العاملين في المهنة؛ الصحافة ممنوعة في مصر، وممارستها ترتب عواقب وخيمة.
المشكلة الأكبر والتي يصعب على عقلي فهمها حتى الآن، هو تصور الأجهزة الأمنية أن حجب المواقع والقبض على الصحفيين ومنعهم من نشر الأخبار بل وحتى الحصول على أبسط المعلومات، من شأنه إخفاء الحقائق في زمننا اليوم، بكل ما فيه من سوشيال ميديا ومواقع إخبارية ومحطات تليفزيون عربية ودولية. من المؤكد أن المسؤولين يعرفون أن الأخبار والمعلومات سيتم تداولها في جميع الأحوال، شاء من شاء وأبى من أبى.
إذن، من المؤكد أن هذه الإجراءات الأمنية لها هدف آخر بجانب ترويع الصحفيات والصحفيين المصريين الذين انحدرت معدلات توزيع صحفهم ومتابعة مواقعهم إلى أدنى المستويات. هل المطلوب قتل الإعلام المصري وتوجيه المواطنين لمتابعة الإعلام الخارجي فقط؟، ألا يخلق التكتم وغياب البيانات الرسمية المنطقية بيئة خصبة لانتشار الشائعات، سواء بشأن ما حدث في العريش، أو ما يتعلق بالطائرة الزامبية؟.
"عاوزين صحافة حرة"، ليس فقط لأن العيشة بقت مرة، ولكن لأن تجميد عمل الصحافة والصحفيين يضر بالوطن والمواطنين أولًا وقبل كل شيء. حرية تداول المعلومات حق للمجتمع وليس منحة من السلطة، وسيظل الصحفيون المصريون متمسكين بأداء هذا الحق للمجتمع، حتى وإن كان الثمن مداهمة منازلهم، وتحولهم للعمل في مواقع مقراتها في الخارج، مع استحالة القيام بالعمل الصحفي في مصر.