منشور
الثلاثاء 3 يناير 2023
- آخر تحديث
السبت 28 يناير 2023
تسبب الجدل الذي أثاره رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس بإعادة نشر تغريدة ضمت صورة عدد من الإعلاميين الأكثر شهرة في برامج "التوك شو" وهم يدقون الطبول، في العودة مجددًا للحديث عن دور الإعلام في مصر، وإذا كان هناك ما يمكن وصفه بالتطبيل الحلال مقابل التطبيل الحرام.
بداية، ومن ناحية مهنية محضة، ما يوجد لدينا في مصر لا يمكن وصفه بـ"التوك شو" أو البرنامج الحواري المحترف كما نراه في تليفزيونات الغرب أو المحطات الأجنبية الناطقة بالعربية مثل البي بي سي وفرانس24 وغيرها. وكنت دائمًا أصف ما نراه على شاشاتنا بـ"برامج المحاضرات"، فمقدم البرنامج نجم الاستعراض، وليس ما يتضمنه برنامجه من مقابلات مع شخصيات مؤثرة أو تقارير.
وارتبط ذلك النوع من الأداء المحاضراتي بالرؤية العامة لدور الإعلام ومهمته الأساسية "رفع الوعي العام" و"حشد المواطنين خلف رؤية الدولة"، وليس تقديم المعلومات التي على أساسها يصنع المشاهدون قراراتهم، أو حتى للتسلية.
والمنطق العام هو أن المشاهد جاهل أو مضحوك عليه، بالتالي لا بُد من "توعيته" عبر الحديث الحماسي، وإذا لم يفلح فلا بأس من سب المشاهد واتهامه أنه لا يفقه شيئًا، و"الزعيق" أمام الكاميرا حتى نرى رذاذ الفم يتطاير ويصطدم بالكاميرا، وربما يصيبنا في بيوتنا.
تبدأ برامج المحاضرات عادةً بمونولوج يعبر فيه المذيع عن آرائه الشخصية في قضايا الساعة بصوت جهوري وأداء انفعالي. وبعدها يأتي دور الضيوف، وغالبًا ما يستمر استعراض المذيع وتكون أسئلته وردوده أطول من أجوبة الضيف المسكين الجالس مع المذيع الوحش المنفعل. ولو انحرف الضيف فيما يقوله عن هدف دعم الدولة، لا بأس أن يوبخه المذيع ويعيده إلى جادة الصواب.
عندما درست الصحافة التليفزيونية في الجامعة، كان أساتذتي يقولون إن الأصل في التليفزيون هو الصورة والحركة، وإلا ملَّ المشاهد وفقدَ الاهتمام. أمّا أن ترى أمامك صورة المذيع فقط لفترة طويلة يتحدث، ويكون التغيير الوحيد هو اتساع اللقطة أو ضيقها على وجهه، فهذا أمر مخالف لما تعلمناه في فنيات الإنتاج التليفزيوني. وتعلمنا أنه في حالة ظهور مقدم البرنامج لفترة تمتد لدقائق، علينا الاستعانة بصور متحركة عن القضية المطروحة بدلًا من الاستمتاع بالطلة البهية للمذيعات والمذيعين.
فقط في مصر تمتد "برامج المحاضرات" لساعتين وثلاث وأربع، بينما لا تتجاوز مدة أي برنامج حواري في المحطات العالمية ساعة على أقصى تقدير، تتخللها إعلانات وفواصل، وذلك على اعتبار أن كل دقيقة بث ثمنها باهظ من الناحية المادية، إلى جانب أن ما تقوله على التليفزيون في دقيقة تكتبه في الصحيفة أو الموقع في مئات الكلمات.
في إحدى المرات شاركت في برنامج "حواري" بدأ في الحادية عشر مساءً واستمر حتى الثالثة صباحًا رغم استغاثاتي المتكررة على الهواء مباشرة لمقدم البرنامج، أنني قلت ما لدي و"كفاية كده عندنا شغل الصبح". لكن هيهات.
لهذا تراجعت نسب مشاهدة قنوات التليفزيون المحلية عمومًا، و"برامج المحاضرات" خصوصًا، كذلك الصحف والمواقع المنتمية للمدرسة التعبوية نفسها. فالمضمون واحد تقريبًا من منظور السعي لـ"دعم الدولة" التي هي في الواقع ليست الدولة (مصر) لكن رئيس الجمهورية، أي رئيس جمهورية: ناصر، السادات، مبارك، السيسي، والرد على ما يرونه شائعات وأكاذيب مغرضة من أجل حشد الجمهور وزيادة وعيه المغيب وسط المؤامرات الإقليمية والدولية، والاختلاف يقتصر على شخصية ومعدل "زعيق" المذيع أو المذيعة.
بالطبع يبقى لهذه البرامج جمهور، لكنه لا يشمل قطاع الشباب، ولم يقل لي طالب واحد في الجامعة أنه يتابع بشغف هذه البرامج، لأنه لا يطيق أن يجلس لمدة ساعات. وفي أفضل الأحوال، يحبون قراءة العناوين، أو مشاهدة مقتطفات قصيرة على يوتيوب لبعض ما يرد في البرامج على موبايلاتهم.
نال المهندس نجيب ساويرس كمًّا هائل من الاتهامات حتى الشتائم ممن ظهروا في صورة التطبيل، وممن لم يظهروا. لكن اللافت هو ردود بعض الإعلاميين الذين ظهروا في "الصورة التعبيرية" الشهيرة التي أقروا فيها أنهم فعلًا "مطبلون" مع اعتبار التطبيل "من أجل الوطن" شرفًا عظيمًا، إضافة للغمز بالقول إن ساويرس في زمن الرئيس المخلوع مبارك كان يمالئ النظام، لكن من أجل كسب المليارات على حد تعبيرهم.
وكانت بعض هذه الردود شديدة الغرابة؛ لعلم الجميع أن بعض مقدمي هذه البرامج يتقاضون الملايين سنويًا، وليسوا من الكادحين. وما يربحه هؤلاء لا تمكن مقارنته بأرباح ساويرس وثروته، لكنهم نسوا أنهم ليسوا رجال أعمال ولا ينتمون لأسرة لها باع طويل في هذا المجال.
وبينما كانت معركة التطبيل مشتعلة على السوشيال ميديا نشرت جريدة الوطن ما قالت إنه استعراض لأهم إنجازات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، النموذج والقدوة في الإعلام "الوطني". ولما كانت الجريدة نفسها من ممتلكات الشركة، عكست مقدمة التقرير مفهوم النظام لما يجب أن يكون عليه الإعلام في مصر، وما يتمسك به مقدمو برامج المحاضرات الذين ظهروا في صورة "التطبيل".
ما يتجاهله أصحاب مدرسة "الإعلام أمن قومي" أن المشاهدين المصريين ليسوا أغبياء
وأشارت الصحيفة إلى أنه "في عالم يموج بالصراعات ووطن يجابه التحديات ويتطلع للمستقبل، يبرز الإعلام كواحدة من أهم ركائز القوة والأمن القومي.. وجاء الإعلان عن تدشين الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية لتكون الذراع الإعلامية الأقوى لمسار حددته الدولة لنفسها، وانطلقت فيه نحو جمهورية جديدة يستحقها المصريون.. رؤية الشركة منذ انطلاقها تناغمت مع توجهات الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يشدد دومًا على أهمية دور الإعلام الاستراتيجي في مساندة جهود الدولة لتحقيق الاستقرار والتنمية وتعميق الوعي العام".
لا شك أن للإعلام دورًا مهمًا ومؤثرًا، خاصة في عصر السوشيال ميديا وامتلاك كل مواطن تقريبًا لموبايل يعد نافذته على ما يحدث في بلده والعالم. لكن ما يتجاهله أصحاب مدرسة "الإعلام أمن قومي" أن المشاهدين المصريين ليسوا أغبياء، وأن الواقع الذي يعيشونه هو الذي يحدد ما يصدقونه وما يبتعدون عنه ويعتبرونه تطبيلًا مرفوضًا. حتى لو رددت كل وسائل الإعلام صباحًا ومساءً أن الأمور وردية، وأن انجازات الدولة لا تعد ولا تحصى. فالمواطن الذي يجابه صعوبات الحياة وارتفاع نفقات المعيشة البسيطة بمعدلات غير مسبوقة، لن يصدِّق.
كما أن رؤية الانجازات اليومية والمدن الجديدة والكباري، والأكبر والأضخم والأعلى على الشاشات، لن يوفر للمواطن قوت يومه أو مصاريف العلاج والمدارس لأسرته.
يزدهر الإعلام في أجواء الحرية، والمعلومة هي الأساس في نجاحه وليس برامج المحاضرات، وما يعرفه المواطن المصري الذكي أن احتكار شركة واحدة لـ15 محطة تليفزيونية، وسبع محطات إذاعة، وعشر صحف ومواقع إخبارية، وثلاث شركات إنتاج فني، وست شركات دعاية وإعلان، وثلاث شركات تنظيم مؤتمرات، كلها تردد المضمون ذاته وتؤدي المهمة القومية ذاتها، ليس ما سيدفعه لتصديق إعلامه الوطني.
الإعلام التعبوي لا يوجه خطابه للمواطنين غالبًا، وولاؤه ليس للمشاهد ولا للدولة. فالدولة ليست رئيس الجمهورية، واختزال الإعلام في هذا الدور هو ما يدفع الكثير من المصريين لمتابعة القنوات الأجنبية بكل ما لديها من أجندات وأولويات. فقط نقل الحقيقة هو ما يصنع الإعلام ويكسب ثقة المشاهد المصري.