زادت ظاهرة الإعلامي المذيع الواعظ في مصر عقب ثورة يناير، بشكل لا مثيل له في أي تلفزة محترفة عرفها ويعرفها أي إعلام محترف في مشارق الأرض ومغاربها. أشخاص محددون يطلون على الناس من شاشات فضائيات عدة، ليخطب كل واحد منهم بمفرده لساعة كاملة أو يزيد، متحدثًا في كل شيء، وكأنه يعرفه معرفة المختصين فيه، ومن أفنوا أعمارهم في سبر أغواره.
قبل الثورة بدأت هذه الظاهرة مع الإعلامي توفيق عكاشة، صاحب قناة "الفراعين"، الذي لفتت طريقته وسائل إعلام أجنبية، فأعدت تقارير ودراسات عنها فيها كثير من الاستفهام والاستغراب، وإن كان هو يصف طريقته بأنها "مدرسة إعلامية جديدة" يراها تناسب المشاهد الشرقي، الذي اعتاد خطب المنابر، وإطلالات منتجي الخطاب الديني السلفي والدعاة الجدد، وبعض العلماء.
كان الناس ألفوا الإنصات إلى شيخ يحدثهم وحده في شؤون الدين، دون استعانة بمذيع يوجه أسئلة له، أو يتلقى أسئلة الجمهور ويعرضها عليه، لكن كان جديدًا عليهم أن يمتد هذا المشهد إلى السياسة والاقتصاد وشؤون المجتمع، وينفرد فيه شخص واحد بحديث يعقِّب فيه على الأحداث الجارية، أو يلتقط قضية آنية ليفصل فيها، زاعمًا أنه قادر وحده على شرحها وتحليلها، في ثقة لا تليق إلا بمن يجهل وينكر فضل أهل الاختصاص في كل مجال.
من يعرف كل شيء
يرتدي مثل هذا الإعلامي ثوب الواعظ الديني، والخبير التربوي، والباحث السياسي والاقتصادي، والمثقف الذي أوتي معرفة في الأدب والفن والفلسفة والفكر، والاختصاصي الاجتماعي والنفسي، ثم يزعم أن ما في رأسه يكفي لإشباع نهم مشاهده إلى المعرفة بمختلف أصنافها. وأحيانًا يرتدي ثوب الزعيم السياسي فيقرر عن صاحب القرار، ويأمر بدلًا من صاحب الأمر، ويرسم خرائط السياسة الداخلية والخارجية، ويحدد ما يجب على السلطة فعله في مختلف الدروب.
من قَبل كان للمذيع المصري في التليفزيون أو الإذاعة دور محدد، هو الربط بين البرامج، وإدارة الحوار مع ضيوف مختصين، كل في مجاله، ليكون دور المذيع هو توجيه أسئلة أعدها فريق العمل، وأخرى يستخلصها من إجابات الضيف لتعميق النقاش، فضلًا عن تقديم الحلقة وختامها.
وكانت براعة المذيع تكمن في قدرته على تقديم لا يتعثر فيه ويتعلثم ويتوه، ثم توجيه أسئلة في صلب الموضوع، ومعرفة متى يوجه السؤال، ومتى يترك لضيفه مساحة أكبر للحديث.
كان هؤلاء مدرَّبين بعناية على مهمتهم، يعرفون حدودها، ولا يرون في ذلك ما ينتقص من براعتهم، أو يخصم من وجودهم على الشاشات. لكن مع انطلاق الفضائيات الخاصة التي وقف خلفها رأس مال سخي، عرف صحفيون طريقهم إلى التليفزيون، وبعضهم كان مِن كتاب الرأي المُمكّنين، أو مَن كانوا ضيوفًا من قبل على البرامج التليفزيونية، فكانوا مدفوعين إلى توسيع مساحات لأنفسهم بالبرامج، سواء بالحديث بمفردهم في مختلف القضايا، أو بمشاركة الضيوف المختصين في إجابة الأسئلة المعدة.
أدرك هؤلاء أنهم ليسوا مجرد مذيعين، إنما هم قادة رأي، وأصحاب اتجاهات ينشرونها بين الناس، ويُبشرونهم بها. بل وجدنا بعض هؤلاء، لا يكتفون بقيادة الرأي، بل ينخرطون في توجيه الشارع أثناء التظاهر والاحتجاج، ومنهم الذي كان يزعم أنه قادر وحده على تحريك الجماهير، بعد أن يضع لها الخطط، ويرسم لها معالم الفعل الاحتجاجي، ويجلس أمام الكاميرات منتظرًا حصاد ما وجه وتوقع.
في مصر ينفرد المذيع بالمشاهد دون أخذ مصلحته في الاعتبار ليسكب في أذنيه ما أملته السلطة
لم تلبث هذه الظاهرة أن انتقلت من الفضائيات التي تبث من داخل مصر إلى خارجها، مع صراخ أشد، وادعاء أوسع، وحنق أعمق، يتم خلاله تحطيم كل قواعد العمل الإعلامي المتعارف عليها، ويتم الخلط فيها بوضوح بين دور المذيع ودور رئيس الحزب أو السياسي المستقل، أو حتى من يقودون جماعات المصالح والضغط، وأصحاب رؤوس الأموال الكبرى، الذين يَجِدون أنفسهم مطالبين بالدفاع عن مصالحهم.
ثم انتقلت هذه الظاهرة إلى يوتيوب، فأطلق المئات قنوات راحوا يلهثون فيها وراء الأحداث، في تناول عابر غالبًا، ليس هدفه إحاطة الناس خبرًا بما يجري، بل محاولة جذب المزيد من المتابعين ولو على حساب الحقيقة.
مذيع يحبه الاستبداد
ذات يوم رأينا ضيق السلطة السياسية بهذه الظاهرة، وتعجبها من المذيع الذي يتحدث وحده لساعات في كل شيء، واصفة هذا بأنه عبث يجب أن يتوقف. لكنَّ الأيام أظهرت أنَّ الضيق ربما كان من معارضي السياسات الرسمية من الإعلاميين وأشباههم، إذ أتيحت فرصة أوسع لمذيعين تابعين للسلطة، يعبِّرون عنها، وينطقون بلسانها، أن يستأثروا بالشاشات، وهم في هذا إما تلقوا رؤوس موضوعات يتحدثون فيها، أو كُتب لهم كل شيء تفصيلًا، حتى أننا أمسينا نرى تكرارًا لعبارات بعينها، كلما انتقلنا من شاشة إلى أخرى في ساعات المساء.
معروف أن مفهوم قائد الرأي اختلف في العالم كله، فلم يعد العارف المثقف صاحب الرأي أو قائد مدرسة علمية أو كاتبًا راسخ القلم متفاعلًا مع ما يشغل الناس ويؤثر في مواقفهم ومصالحهم، إذ ظهر منافسون كُثر، لا سيما مع انتشار الإنترنت. لكنَّ بعض هؤلاء، وفي بلدان أخرى، يحتفظون باستقلالهم نسبيًا، أو يبذلون جهدًا في إعداد المادة العلمية للقضية التي سيطرحونها، أو يكون لديهم استعداد لمراجعة ما يطرحونه إذا ثبت خطؤه، أو يُشركون الجمهور المتابع في النقاش، ويستحسنون بعضه ويُقرّونه.
أما في مصر فلا يزال المذيع ينفرد بالمشاهد، دون أخذ مصلحته أو رأيه في الاعتبار، فالمهم أن يسكب في أذنيه ما أملته السلطة، أو يسحبه إلى اقتناع كاذب بما لا يعبر عن الصالح العام، أو حتى يغسل دماغه، ويتلاعب بمشاعره، إما بتخويفه وإفزاعه إن كان صاحب القرار يريد ذلك، أو بمنحه أملًا كاذبًا بأن الغد ستسيل فيه أنهار اللبن والعسل، أو تبرير السياسات القائمة وإقناع الناس بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
في ظل هذه الظاهرة، التي تستفحل وتأخذ الإعلام المصري إلى تردٍّ أكثر للمهنية والاستقلالية والحرية والحياد والنزاهة، تحول إعلامنا، في الغالب الأعم، إلى مجرد دعايات فجة تنطلق ليل نهار في استسهال واستهبال، ولا تراعي حتى الأسس التي وضعها المختصون في فن الدعاية، أو حتى من ينتجون كذبًا منظمًا.
إنه وباء هجم على الإعلام المصري، وسيكون من الصعب تداركه إن استمر الاستبداد السياسي الذي يرمي إلى التحكم التام في الرأي العام، والتنكر لتنوع آراء الناس واختلاف مصالحهم، ويعمل على استمرار حرمان الجمهور من التعبير عن موقفه ورأيه بالسؤال أو المداخلة، مثلما كان موجودًا من قبل.
وحتى لو عاد المناخ السياسي حرًا نسبيًا بعد حين، وأتيحت الفرصة لآخرين أن يُطلقوا منابر إعلامية تنهي الاحتكار الراهن، فإن من الصعب التخلص سريعًا من ظاهرة المذيع الواعظ، إن انتقل توجيهه من السلطة السياسية إلى صاحب المال، أو كان يرى في نفسه صاحب جمهور عريض، يستخدمه في الضغط على أصحاب محطات التلفزة في سبيل أن يتركوه يفعل ما يشاء.
هو مرض تنفر من عدواه الشاشات الاحترافية، ويحتاج منا، حال تغير الظروف إلى اعتراف بالخسارة الفادحة التي لحقت بالإعلام المصري، بعد أن كان رائدًا في العالم العربي كله، ثم وضع العلاج الناجع على يد أهل الاختصاص، وإظهار استهجان تام من المتفاعلين مع الإعلام، ليعود إلى سابق رشده ودوره المعتاد.